يسيطر على السوشيال ميديا هذه الأيام والإعلام المرئي والمسموع بتونس وكثير من الصفحات العربية التي نطلع عليها، نوع من التباغض بين الكتاب والمدونين من مستويات ثقافية وعلمية مختلفة، وهو تباغض يخفت قليلًا ثم يعود بحسب المثيرات، وهي مثيرات متطابقة.
وقد أعادت أزمة الليرة في تركيا خطاب التباغض إلى السطح، وسيطرت جمل عدوانية توشي بقطيعة غير قابلة للجبر بين فرقاء الوطن الواحد، ليس بخصوص العلاقات الخارجية والمواقف من السياسيات الدولية فحسب بل بنوع العلاقات السياسية والثقافية السائدة بينها في الداخل الوطني والقضايا المصيرية التي تحدد قواعد العيش المشترك.
والسؤال هل يعي هذا التنافي آثاره المخربة للوحدة الوطنية؟ وهل هو قبل ذلك واعٍ بمن يحرضه من وراء ستار؟
بعض مواضع الفرقة والخلاف
تبجح أحد مثقفي اليسار التونسي بعد مجزرة رابعة التي أُحرق فيها الإخوان المسلمين أحياء بأنه احتفل بإعداد وجبة من الكسكسي والسمك، وهي وجبة احتفالية باذخة، وقد أورد ذلك في سياق فرحه بالقضاء على الإخوان المسلمين الذين يعتبرهم الأخ الأكبر أو الحليف القوي لحزب النهضة التونسي شريك هذا المثقف في الوطن والمصير.
وفي كل مرة عادت ذكرى مجزرة رابعة، عاد الحديث الشامت فيما أصابهم، فيُرد عليه بخطاب متعاطف معهم من أنصار حزب النهضة، بما يوحي بأن الخلاف يخرج عن كل تقييم قانوني وأخلاقي وسياسي للمجزرة، ويبقى مرابطًا في منطقة العداء السياسي بين اليسار والقوميين من ناحية والإسلاميين من ناحية مقابلة.
يوم ركب الدكتور منصف مرزوقي سفينة الحرية لرفع الحصار عن غزة واعتُقل، أظهر شق القوميين واليسار له أشد أنواع السخرية واعتبروه مزايدًا في قضية لا تعنيه
ويمكن القياس على الموقف من النظام السوري، فالإسلاميون يتعاطفون مع الثورة السورية ويرون في بشار الأسد شيطانًا رجيمًا، ويعتبرون نظامه نظامًا خائنًا ولا علاقة له بما يدعيه من شعارات الممانعة ومحاربة الكيان الصهيوني ويكذبونه في تعاطفه مع الثورة الفلسطينية ومع المقاومة، بينما يقف القوميون واليسار التونسي مع بشار ونظامه ويعتبرونه آخر صوت مقاوم لمؤامرة دولية اسمها الربيع العبري.
أما ما أصاب السوريون من أفعال النظام فلم يدخل أبدًا في منطقة تقييم أخلاقي وقانوني، وقليل من الأصوات الواقفة في الوسط تنقذ النظام ولا تبرر له، فتضيع في صخب الخطاب العدواني الجذري الذي لا ينقصه إلا حمل السلاح في تونس دفاعًا عن نظام بشار في سوريا.
ويمكننا تعداد الأمثلة إلى ما لا نهاية، فيوم ركب الدكتور منصف مرزوقي سفينة الحرية لرفع الحصار عن غزة واعتُقل، أظهر شق القوميين واليسار له أشد أنواع السخرية واعتبروه مزايدًا في قضية لا تعنيه، فكأن القضية ملك حصري لهم لا حق لأحد في تبنيها أو الانخراط فيها، ويمتد هذا العداء في الداخل التونسي إلى الموقف من المقاومة في غزة، فهي عند غير النهضة وقليل من الناس ليست مقاومة وإنما ذراع الإخوان المسلمين الخونة، هنا أيضًا تضيع أصوات معتدلة لا يسمعها أحد تفرق بين فعل المقاومة في الداخل وانتماءات المقاومين العقائدية ولا تفرق بين أحمد سعدات وأحمد ياسين.
تركيا موضوع خلاف لوحده
أزمة الليرة التركية أعادت هذا الخلاف إلى السطح، فتركيا نظام سياسي مقبول من شعبه وهي حالة نجاح اقتصادي تثير رعب الاقتصاد الأوروبي الذي عاش دومًا من منع الآخرين من النهوض، وتركيا قدمت للثورة التونسية مساعدات عينية معتبرة يوم كان حزب النهضة حاكمًا وواصلت تقديم العون بعد ذلك، وكانت زيارة أردوغان لتونس في شتاء 2017 زيارة عمل وصفقات اقتصادية لم تنجح بفعل العداء الذي يحمله شق اليسار لنظام أردوغان، فقد عاد الرجل من تونس شبه مطرود.
من الطريف أن نسمع تمجيد تركيا من اليسار والقوميين إذا نسقت مواقفها مع إيران بخصوص الوضع السوري، لكن العداء يطفو إذا ظهر راشد الغنوشي إلى جانب أردوغان في احتفالات التنصيب
مجهود تركيا في صيف 2018 لرفع قيمة عملتها الذي يشبه ثورة شعبية، ومثله الثورة الشعبية التي واجهت انقلاب 2016، حظي بحماس الإسلاميين وتعاطفهم وامتهن من خصومهم في تونس (واستعمل لفظ خصوم تخفيفًا، حتى لا أقول أعداءهم فاللغة المستعملة عدائية).
ولعله من الطريف أن نسمع تمجيد تركيا من اليسار والقوميين إذا نسقت مواقفها مع إيران بخصوص الوضع السوري، لكن العداء يطفو إذا ظهر راشد الغنوشي إلى جانب أردوغان في احتفالات التنصيب، فكأن المطلوب أن تنخرط تركيا في سياسات يحددها لها تونسيون بناء على رغباتهم وأهوائهم.
شرخ طولي غير قابل للجبر أبدًا.
ليس في الأمر سر، فالعملية السياسية في تونس لم تلطف من العداء الأيديولوجي والسياسي السابق لها، وما زلت الطبقة السياسية منقسمة في بينها بخصوص المستقبل، وهي تصدر خصومتها إلى الشارع التونسي فتقسمه تقسيمًا، وهذا الشرخ ليس خاصًا بالوضع التونسي بل يمتد إلى كل المنطقة العربية، وهو قديم يتجدد ولا يتلاشى بالتعايش وينذر بالاستمرار.
مقياس التيارات السياسية في تونس الذي تحدد على ضوئه مواقفها مما يجري حولها هو مدى خسارة خصومهم، لم يتعدل هذا المقياس بعد 7 سنوات من التعايش في الداخل ضمن تعددية سياسية مرت بمواعيد انتخابية تنافسية، ووضعت الأطراف في تقابل ديمقراطي غير مسلح، حتى إن المرء يطرح السؤال: إلى متى سيستمر الوضع الانقسامي ولا تكون مصلحة البلد هي المقياس والمرجع في تحديد العلاقات مع الأطراف الخارجية؟
نشأت طبقة اقتصادية وعاشت من التبعية الاقتصادية للأسواق الأوروبية وفرنسا بالتحديد، وهذه الطبقة لا يمكنها تخيل تغيير في شبكات المعاملات الاقتصادية لتونس مع شركاء جدد، وبالتالي لا يمكنها المغامرة بتغيير الموجود
تعتبر حالة النجاح التركي حالة ممكنة في الداخل التونسي إذا توفرت وحدة وطنية بشأن مصير الوطن، ومثل ذلك حالات النجاح الاقتصادي التي نقرأها في آسيا منذ أواخر القرن الماضي، كلها تكشف أن وجود وحدة وطنية بشأن القضايا الكبرى في الداخل أنتجت قوة اقتصادية وسياسية وحررت البلدان الناهضة من عجزها وجعلتهم شركاء في الاقتصاد الدولي لا مجرد أسواق تشارك بالاستهلاك الخانع، لكن هذا الجانب يطمس تحت احتمالات أن يكون في تقارب تونسي تركي فائدة للتيار الإسلامي في تونس، وهنا تقف الوحدة الوطنية فلا وحدة مع إسلاميين أقوياء ولو خسرت تونس، ولقد خسرت الكثير ضمن هذا العداء المستحكم بين فرقاء الداخل، لكن الأمر يتجاوز العداء العاطفي والأيديولوجي في الداخل.
هل هو عداء أيديولوجي فقط؟
هناك من ينفخ في نار هذه الخلافات ويمولها، لقد نشأت طبقة اقتصادية وعاشت من التبعية الاقتصادية للأسواق الأوروبية وفرنسا بالتحديد، وهذه الطبقة لا يمكنها تخيل تغيير في شبكات المعاملات الاقتصادية لتونس مع شركاء جدد، وبالتالي لا يمكنها المغامرة بتغيير الموجود لأن عملها يختل، فهي ليس طبقة صناعيين ولا طبقة فلاحين كبار، وإنما طبقة سمسارة بنت شبكة من الأسواق يقوم أغلبها على التهريب والمعاملات غير القانونية مع شركاء غربيين تسمح لهم بلدانهم بغسل أموال وتهريب سلع.
طبعا يخطئ من يظن أن التهريب هو تلك العمليات الفردية القائمة على الحدود مع الجزائر وليبيا وتسترق من حرس الحدود، بل إن السوق الموازية تمولها حيتان وللحيتان شركاء وللشركاء اقتصادات مهيكلة تمولهم وتغض الطرف عن عملهم غير القانوني لأن فيه فائدة وطنية للبلد الأم وخاصة فرنسا، تختفي الأرقام هنا ونكتب بشيء من مشاهدات يومية لسلع فرنسية المنشأ، كثير منها لا نعرف كيف وصل السوق الاستهلاكية التونسية.
تتضح الصورة الآن، طبقة من المهربين تمول إعلامًا فاسدًا يستثمره سياسيًا فرقاء الوطن الأيدلوجيين لغرس مزيد من الأسافين بينهم، ويخسر البلد احتمالات تنويع شبكة شركائه الاقتصاديين
هذه الحيتان اشتغلت مع بن علي ولا تزال تهيمن على السوق الوطنية وترفض كل مساس بشبكة مصالحها أو الدخول تحت حكم محاسبة من أي نوع، وقد تمتعت بمناخ الحرية فمولت إعلًاما يثير السخرية، فإحدى الحجج التي استعملت لقطع العلاقات تقريبًا مع تركيا هي أن بعض الموردين الصغار يستوردون من تركيا بذور عباد الشمس البيضاء التي تستعمل كتسالي عند الأسرة التونسية الفقيرة، بما جعل صورة الاقتصاد التونسي مضحكة فهو اقتصاد ينهار باختلال ميزانه التجاري نتيجة استيراد (القلوب البيضاء).
تتضح الصورة الآن، طبقة من المهربين تمول إعلًاما فاسدًا يستثمره سياسيًا فرقاء الوطن الأيدلوجيين لغرس مزيد من الأسافين بينهم، ويخسر البلد احتمالات تنويع شبكة شركائه الاقتصاديين، لم يفلح الأيديولوجيون في فرز الوطني عن الأيديولوجي، ولذلك يقعون في الفخ ويستمرؤون الحجج التي تأتيهم بلا جهد فكري ليواصلوا العدوان الكسول ولا يطرحون السؤال: أين مصلحة البلد؟
قمة السخرية أننا نخوض في تونس حربًا ضد الإخوان المسلمين (الإسلام السياسي عامة) تجني ثمارها الاقتصادات الأوروبية.