“كان حلمي زيارة مكة المكرمة والحج هذا العام، لعلي لا أعيش إلى العام القادم، لكن للأسف لم يكتب الله لي أن أكون ضيفًا على بيته الحرام، فأسعار الحج حولت حلمي إلى كابوس وجعلت من تحقيق أمنيتي دربًا من المحال، وأدعوا ألله أن يغفر لي إن قبض روحي وأنا لم أتم فريضته”، بهذه الكلمات استهل محمود عمر، 63 عامًا، حديثه عن رحلة الفشل في الحصول على تأشيرة حج في ظل القفزات الجنونية التي شهدتها خلال العامين الأخيرين على وجه التحديد.
عمر الذي كان يعمل موظفًا بإحدى الوزارات الحكومية يضيف لـ”نون بوست” أن حلم الحج كان يداعب خياله طيلة السنوات الماضية قبل خروجه للمعاش، لكنه وحين قرر السفر تفاجأ بقفزة جديدة في الأسعار فأجل نيته للعام الذي يليه، وهكذا حتى فقد الأمل في تحقيق هذا الحلم، بعدما تجاوزت أسعار الحج – أقل مستوياته – حاجز الـ80 ألف جنيه، على حد قوله، موجهًا رسالة إلى الحكومة المصرية قائلاً: “سأختصمكم أمام الله يوم القيامة حين يسألني عن سبب عدم أدائي الركن الخامس من أركان الإسلام”.
في مصر.. لم يعد الحج فريضة تذلل الصعاب لأجل إتمامها ويُيسر على المسلمين لتلبيتها، بل تحول إلى “سبوبة” وموسم للتربح بعد أن بات واحدًا من منافذ الكسب السريع لشركات السياحة والحكومة على حد سواء، حتى بات شعار “الحج للأغنياء فقط” هو الأبرز على مدار الأعوام الأخيرة بعد أن تخطت أسعاره قدرات الطبقات المتوسطة إلى زمرة المرفهين أصحاب الملايين، أما الفقراء ومحدودي الدخل فلا عزاء لهم، مكتفين بإسقاط الفريضة لعدم الاستطاعة.
أسباب عدة كانت وراء القفزات الجنونية في أسعار الفريضة هذا العام والذي سبقه، بعضها تقع مسؤوليتها على عاتق الدولة وسياساتها التي أودت بالعملة المحلية (الجنيه) إلى التراجع بشكل ضاعف من قيمة فاتورة الحج، والجزء الآخر يقع على الجانب السعودي الذي يواصل مسيرته في رفع أسعار كل الرسوم والخدمات المقدمة من أجل سد العجز الذي تواجهه المملكة طيلة الأعوام الأخيرة، ليدفع فقراء المسلمين وحدهم الثمن.
عدد تأشيرات الحج للمصريين للموسم الحالي، وفق رئاسة الوزراء المصرية قدرت بنحو 70.5 ألف تأشيرة
أسعار خيالية
جاءت أسعار الحج هذا العام حسبما أعلنت وزارة السياحة المصرية صادمة للجميع، إذ بلغت في المستوى (5 نجوم) صف أول مباشرة على الحرم نحو 120 ألفًا و750 جنيهًا، فيما وصلت أسعار الصف ثاني الذي يبعد عن الحرم من 250 إلى 1250 مترًا لـ106 آلاف و375 جنيهًا.
أما أسعار الفنادق (4 نجوم) صف أول فقد بلغت 89 ألفًا و700 جنيه، وصف ثاني 86 ألفًا و250 جنيهًا، فيما بلغت أسعار برامج الحج الاقتصادي – موسم كامل – 59 ألفًا و225 جنيهًا بفنادق مكة المكرمة القريبة من الحرم أما الفنادق التي تبعد عن الحرم بمسافة 2500 متر تبلغ 56 ألفًا و925 جنيهًا.
فيما وصلت أسعار الاقتصادي تحسين (4 نجوم) 52 ألفًا و900 جنيه، بينما (4 نجوم) بلغ 50 ألفًا و600 جنيه، أما الحج البري – موسم كامل -بفنادق مكة فبلغ سعره 60 ألفًا و375 جنيهًا، و58 ألفًا و650 جنيهًا للفنادق البعيدة عن مكة حتى 2500 متر، ويصل سعر البري تحسين (5 نجوم) سعر 55 ألفًا و200 جنيه.
خبراء: أسعار الحج السياحي في مصر لا ضابط ولا رقيب عليها على الإطلاق وأسعارها مبالغ فيها
يذكر أن الأسعار التي حددتها الحكومة المصرية غير شاملة أسعار تذاكر الطيران وقفزت هي الأخرى قفزات جنونية خلال العامين الأخيرين بسبب ارتفاع أسعار الوقود، حيث وصلت إلى ما يقرب من 30 ألف جنيه بعدما كانت 11 ألف جنيه 2016، أي بزيادة تتراوح بين 60% و140%.
وتحدد إجمالي عدد تأشيرات الحج للمصريين للموسم الحالي، وفق رئاسة الوزراء المصرية بنحو 70.5 ألف تأشيرة، موزعة بواقع 36 ألف تأشيرة للحج السياحي، و12 ألف تأشيرة لحج الجمعيات الأهلية الذي تنظمه وزارة التضامن الاجتماعي، و22 ألفًا و500 تأشيرة مخصصة لحج القرعة، الذي تنظمه وزارة الداخلية.
زيادة أسعار الحج بنسب تصل إلى أكثر من 90%
التعويم.. كلمة السر
الارتفاع المفاجئ في أسعار الحج وتذاكر الطيران، هو أحد تبعات قرار تعويم الجنيه المصري قبل عامين الذي ساهم في تراجع قيمته من 8 جنيهات مقابل الدولار الواحد إلى 18 جنيهًا، ما نجم عنه زيادة في أسعار السلع والخدمات كافة تراوحت بين 50 إلى 300% في بعض السلع.
القرار الذي تم اتخاذه في 2016 في إطار سياسة الإصلاح الاقتصادي التي تبنتها الحكومة المصرية للخروج بالاقتصاد من شرنقته كان الأكثر تأثيرًا على الحياة المعيشية لملايين المصريين لا سيما محدودي ومتوسطي الدخل إذ تسبب في خروج قطار الأسعار عن السيطرة في الوقت الذي تجمدت فيه الدخول دون تحريك يذكر.
ولأن غالبية الخدمات المقدمة في الحج خارج الحدود المصرية، ما يعني التعامل معها بالعملة الصعبة – دولار كان أو ريال – كان هذا التأثير الكبير، إذ كان الريال قبل التعويم يقدر بـ2.4 جنيه وفجأة قفز إلى 4.80 جنيه ما يعني زيادة قدرها أكثر من 100% في الأسعار.
ولم يتوقف الأمر عند فارق السعر في العملة جراء التعويم وفقط، بل زاد من الطين بلة الخطوات التي اتخذتها السلطات السعودية بزيادة رسوم الحج وخدماته، وهو ما دفع إلى قفزة جديدة في الأسعار، وصلت إلى هذا الحد الذي بات أداء الفريضة لكثير من المصريين دربًا من الخيال.
الدكتور عادل عامر رئيس المركز المصري للدراسات الاقتصادية، أشار إلى أن تكاليف الحج والعمرة ارتفعت إلى نحو 6 مليارات دولار، مشيرًا إلى أن عدد المصريين الذين يعتمرون سنويًا تزايد بشكل ملموس خلال السنوات الاخيرة ليصل إلى نحو مليوني شخص في العام، تكلفة العمرة الواحدة تصل في المتوسط نحو 6 آلاف دولار، كما أن عدد الذين يؤدون فريضة الحج يصل إلى 9 آلاف شخص سنويًا بتكلفة تصل 6 آلاف دولار للشخص الواحد في المتوسط إلى جانب الحج السياحي.
عامر لـ”نون بوست” أكد أن أسعار الحج السياحي في مصر لا ضابط ولا رقيب عليها على الإطلاق، وأسعارها مبالغ فيها، مطالبًا بتدخل الدولة ممثلة في وزارة السياحة في ضبط أو كبح جماح هذه الأسعار التي باتت تؤرق مضاجع الجميع، المقتدرين وغير المقتدرين على حد سواء.
الحج السياحي أحد أبرز هذه النوافذ التي أثارت جدلاً بين المشتغلين في هذا الوسط، كونه بابًا كبيرًا للفساد والتربح
في تقرير نشرته صحيفة “مكة” السعودية عن التكلفة الحقيقية للحج منذ دخول الحاج إلى مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة وحتى مغادرته بعد أداء جميع شعائر الفريضة، أوضحت بعض مؤسسات أرباب الطوائف أن 50% من تكلفة الحجاج يذهب ريعها لمصلحة بعثات الحج والشركات السياحية الأجنبية قبل دخولهم الأراضي السعودية، مؤكدين أن 10% فقط حصيلة دخل المطوفين.
وقال عضو مجلس إدارة المؤسسة الأهلية لمطوفي حجاج جنوب شرق آسيا خالد مندورة: “ما يدخل لمؤسسات الطوافة هو فقط 10% من إجمالي تكلفة الحاج في أي مكان في العالم، وهناك لغط عند كثير من الناس في أن مؤسسات الطوافة هي المستفيد الأكبر من الرقم المقدر لصرف الحاج”.
كما فند التقرير آلية صرف الحجاج مبالغهم المالية عند أداء مناسكهم، حيث يتحمل الحاج 347 ريالاً نقل داخلي بالباص من المطار إلى جدة ومنها إلى مكة وبقية الشعائر، 300 ريال أجرة الخيمة في المشاعر المقدسة و250 ريالاً أجرة الخيمة في منى و48 طوافة ومكتبي الوكلاء الموحد، 294 ريالاً عوائد الخدمات وتذهب لأرباب مؤسسات الطوافة ومياه زمزم.
تعويم الجنيه المصري أدى إلى ارتفاع جنوني في أسعار في السلع والخدمات كافة
“سبوبة” الفساد
بعيدًا عما تقوم به السلطات السعودية من تفاقم للأزمة سواء من خلال رفع رسوم وخدمات الحج أو عبر تخصيصها لمئات التأشيرات المجانية مجاملة لبعض الشخصيات العامة في صورة هدايا وهو ما ينعكس سلبًا بالطبع على حظوظ وحصص المواطنين المصريين في إطار محدودية التأشيرات المقدمة لمصر، إلا أن هناك أبواب أخرى للفساد.
الحج السياحي أحد أبرز هذه النوافذ التي أثارت جدلاً بين المشتغلين في هذا الوسط، كونه بابًا كبيرًا للفساد والتربح، إذ إن هناك ما يقرب من 35595 مصريًا فازوا بقرعة الحج السياحي هذا العام، عن طريق 1902 شركة سياحية تقدمت بالحصول على تأشيرات (263 مستوى الخمس نجوم – 203 مستوى الأربع نجوم – 775 المستوى الاقتصادي – 661 المستوى البري)، بينما بلغ إجمالي عدد المواطنين الذين فازوا بالمستوى الخمس نجوم 7799، وبالمستوى الأربع نجوم 3898، وبالمستوى الاقتصادي 11933، وبالمستوى البري 11965.
الحج لمن استطاع إلي سبيلاً، لكن السبيل تعرقله مبالغة في التكاليف ومتاجرة من البعض، وثمن يدفعه المصريون جراء سياسات فاشلة
الخبير السياحي عادل شعبان، وأحد أصحاب شركات السياحة، كشف في حديثه لـ”نون بوست” عن حزمة من الأساليب المتبعة لاختراق النظام المعمول به في الحصول على تأشيرات الحج السياحي، عبر تقديم مئات الآلاف من الطلبات وجوازات السفر دون علم أصحابها، الطريقة الأولى وهي استخدام جوازات معتمرين لعمرة رمضان وفي حالة فوز بعضهم يتم إخبارهم أن جوازهم قدم بالخطأ، وهنا يكون الخيار إن أراد الفائز الحج عليه سداد المبلغ وإن لم يقبل قدمت التأشيرة لشخص آخر بكلفة عالية.
أما الطريقة الثانية فتتمثل في إدخال جوازات سفر أقارب أصحاب وموظفي الشركات السياحية، وفي حال الفوز يتم الاعتذار منهم أو منحهم بعضًا من المال في نظير التنازل عن التأشيرة لتمنح لشخص آخر وهكذا، فيما تأتي الطريقة الثالثة ممثلة في إدخال المتقدمين في الحج الاقتصادي (منخفض السعر) إلى الحج السياحي الخمس والأربع نجوم وفي حال الفوز إما أن يدفعوا الفارق أو تمنح التأشيرة لآخرين ويتم الاعتذار لهم عن الحج هذا العام.
شعبان أشار إلى تجاهل وزارة السياحة عشرات الشكاوى المقدمة من أصحاب شركات السياحة بشأن التلاعب في أرقام الحج السياحي وأنها تمنح لشركات بعينها، ما يثير – وفق تصوره – العديد من علامات الاستفهام عن العلاقة بين تلك الشركات التي وصفها بـ(الحيتان) وبعض المسؤولين داخل الوزارة ما يسهل لهم الحصول على هذا الكم الكبير من التأشيرات والتسهيلات مقارنة بغيرهم من الشركات الصغيرة.
الحج لمن استطاع إليه سبيلاً، لكن السبيل تعرقله مبالغة في التكاليف ومتاجرة من البعض، وثمن يدفعه المصريون جراء سياسات فاشلة أوصلتهم إلى المرحلة التي باتت فيها أداء الفريضة حلمًا بعيد المدى، في مقابل سلطة جعلت من الشعيرة تجارة تعوض بها فشلها وعجزها بسبب طموحات أمير لا يتردد في أن يطيح بكل ما أمامه من أجل الوصول إلى كرسي العرش ولو كان الثمن مقدسات بلاده ومبادئ الإسلام التي دعت للتخفيف وعدم المبالغة.