عاد الجدل مجددًا حول مساعٍ مجددة للاحتلال لتهجير من تبقى من سكان شمالي قطاع غزة بعد دخول حرب الإبادة شهرها الثاني عشر، وذلك على إثر تقارير ومقالات نشرتها صحف عبرية تتضمن مقترحات للعودة إلى فكرة “تطهير” شمالي قطاع غزة من سكانه، ودفع من تبقى فيه إلى النزوح القسري بالقوة.
بثت التقارير العبرية حالة من الإرباك لدى أهالي القطاع، سواء أولئك الذين باتوا يقطنون في جنوبه (سكانًا ونازحين)، أو من صمد وبقي في شماله، ارتباطًا بكون الصمود الذي مثله أهالي شمالي القطاع في وجه محاولات التهجير قد شكّل العنوان الأبرز لإفشال أهداف الاحتلال، ومصدر الأمل في عودة بقية سكان الشمال إلى أماكن سكنهم.
على أرض الواقع، المؤشرات مختلفة تمامًا عمّا ورد في التقارير المنشورة على الإعلام الإسرائيلي، وهي مؤشرات تتقاطع مع قراءة الواقع والأولويات الإسرائيلية حاليًا، بإنشاء نماذج حول إمكانية بناء نظام محلي متعاون مع الاحتلال، يشكّل الجسر الرئيسي ما بين مرحلة الاحتلال العسكري و”اليوم التالي” لغزة “منزوعة السلاح والخاضعة للسيطرة الأمنية للاحتلال”.
صمود الشمال
شكّل تهجير شمال قطاع غزة وإفراغه من سكانه أولى الخطوات الكبرى التي اتخذها جيش الاحتلال منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أي منذ الشهر الأول للحرب العدوانية على غزة، وبعد أسبوع من أمر الإخلاء الأكبر الذي تضمّن “إنذارًا نهائيًا” لسكان مناطق شمالي القطاع، البالغ عددهم 1.1 مليون نسمة بمغادرة المنطقة جنوبًا.
وأعاد جيش الاحتلال الإسرائيلي الكرّة بتهديدات أكبر في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ ألقى منشورات على شمالي غزة تأمر السكان بـ”إخلاء” المنطقة على الفور، وحذّرت المنشورات السكان بضرورة المغادرة فورًا، معلنة أن حياتهم معرّضة للخطر، وذكرت صراحةً أن كل من اختار ألا يخلي من شمالي القطاع إلى الجنوب من وادي غزة، من الممكن أن يحدد على أنه “شريك بتنظيم إرهابي”.
على مدار الأشهر التالية في الحرب، لم تتوقف محاولات الاحتلال لإخلاء شمال القطاع من سكانه، وكان آخر أوامر الإخلاء الأمر الصادر بتاريخ 10 يوليو/ تموز 2024، الذي حاول فيه جيش الاحتلال أن يحفّز السكان للإخلاء، بإعلان أنه “لن يتم تفتيش أي من النازحين” عبر حاجز نيتساريم الفاصل بين شمال القطاع وجنوبه.
ما بين أكتوبر/ تشرين الأول 2023 ويوليو/ تموز 2024، لم يتوانَ جيش الاحتلال عن استخدام شتى صنوف الدمار والقتل وإعدام مظاهر الحياة لإجبار سكان الشمال على إفراغه من أهله، حيث ارتكب المجازر والقتل بالجملة، والقوة الغاشمة في استهداف الأحياء السكنية، والتدمير الواسع للبنية التحتية وشبكات المياه والصرف الصحي، وتدمير المستشفيات ومنع حركة الإسعافات وإعدام مقومات الطبابة الرئيسية، بحيث تصبح أية إصابة طفيفة بمثابة حكم بالموت على المصاب لانعدام أدوات العلاج.
فيما كان أبشع أنواع القتل البطيء الذي لجأ إليه الاحتلال استخدام سلاح التجويع وإشاعة المجاعة في شمال قطاع غزة، لإجبار الأهالي على مغادرته، وهو ما اضطر أهالي الشمال إلى تناول علف الحيوانات والتعايش مع فتات ما يمكن توفيره من الأكل الآدمي، والتمسك بخيار رفض النزوح جنوبًا.
شكّل صمود أكثر من نصف مليون فلسطيني في شمالي قطاع غزة عنوان الفشل الأبرز للخطط الإسرائيلية الرئيسية الهادفة إلى إفراغه من سكانه، وإعادة تشكيله بما ينسجم مع الرؤية الإسرائيلية الهادفة إلى تحويل أراضي الشمال إلى مناطق عازلة، تفصل ما بين الكتلة السكانية في قطاع غزة ومستوطنات غلاف غزة، خاصةً المدن الكبرى، مثل سديروت وعسقلان المحاذيتين لبلدات بيت حانون وبيت لاهيا اللتين طمح الاحتلال إلى مسحهم عن الخارطة.
بيت حانون وبيت لاهيا وشرق جباليا والشجاعية والزيتون كلها مناطق كان من المفترض أن يتركز فيها عمق المنطقة العازلة الإسرائيلية، وطمح الاحتلال إلى إنهاء وجودها بوصفها تجمعات سكانية محاذية للحدود مع قطاع غزة، إلا أن الواقع اليوم أن سكان هذه المناطق عادوا إليها كلما انتهى العدوان فيها وانسحب الجيش منها، وهو ما فعله السكان في مواجهة أكثر من 4 عمليات عسكرية استهدفت هذه المناطق.
خطة التوسيع الإسرائيلية
في الأيام الأخيرة، عادت إلى الواجهة من جديد أطروحات إسرائيلية جديدة تعود إلى الأفكار الأولى للحرب العدوانية على قطاع غزة، وتستدعي أفكار تهجير من تبقى من سكان شمال قطاع غزة، وأفكار لما يفترض أن تحال إليه أراضي الشمال.
تحت عنوان “خطة الأبطال”، أطلق الرئيس السابق لشعبة العمليات في جيش الاحتلال الإسرائيلي، اللواء غيورا آيلاند، ما سمّاه بـ”خطة لهزيمة حماس”، عمل على إنجازها عبر منتدى “القادة وضباط الاحتياط” الذي يضمّ في عضويته الجنرالات المتقاعدين، والتي نشرها في 4 سبتمبر/ أيلول، وتنطلق من فرضية أن الغارات الحالية ليست فعّالة بما يكفي لهزيمة المقاومة الفلسطينية وخلق ضغوط كبيرة للإفراج عن المختطفين.
حظيت “الخطة” على دعم العشرات من كبار الضباط في جيش الاحتلال، من بينهم اللواء غيرشون هكوهين، واللواء غاي هازوت الذي يشغل حاليًا منصب رئيس نظام التدريب في الذراع البرية ونائبه، وقال أحد مؤسسي المنتدى، العقيد حازي نشاما: “طالما أن حماس تسيطر على المساعدات الإنسانية، فإنه لا يمكن هزيمتها”.
وحسب الخطة ذاتها، فإن كامل المنطقة الواقعة شمالي ممرّ نتساريم، أي مدينة غزة بكل أحيائها، ستصبح منطقة عسكرية مغلقة، أي إن جميع سكان المنطقة، الذين يقدر جيش الاحتلال عددهم بنحو 300 ألف نسمة، سيضطرون إلى المغادرة على الفور عبر الممرات التي حددها الجيش بوصفها “آمنة”، ثم بعد أسبوع ستتاح فيه الفرصة للسكان للإخلاء سيفرض حصار عسكري كامل على المنطقة. ووفقًا للمنتدى، فإن هذا الحصار سيترك للمسلحين في مدينة غزة خيارًا واحدًا: الاستسلام أو الموت.
وحسب موقع “واي نت”، التابع لصحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، فقد “قدّم منتدى القادة وضباط الاحتياط” الخطة إلى أعضاء المجلس الوزاري المصغّر للشؤون السياسية والأمنية “الكابينيت” وكبار وزراء الحكومة في الأيام الأخيرة”.
وأوضح أن المنتدى يأمل أن تصدر القيادة السياسية تعليمات إلى القيادة العسكرية للعمل في أقرب وقت ممكن وفق هذه الخطة. ونُقل عن أيلاند قوله: “سيكون من الممكن في وقت لاحق تكرار هذا المخطط التفصيلي بشأن معبر رفح (جنوب/ بين غزة ومصر) وأماكن أخرى في جميع أنحاء قطاع غزة”.
في إطار التعقيب على خطة غيورا أيلاند، رائد مقترحات التجويع والحصار والتهجير، نشرت صحفية “هاآرتس” العبرية مقالًا يهدف إلى استقراء ما تنحو إليه حكومة بنيامين نتنياهو خلال المرحلة القادمة.
وفقًا لـ”هاآرتس” فإن “إسرائيل” تدخل “المرحلة الثانية من الحرب في غزة”، إذ ستحاول استكمال سيطرتها على شمالي القطاع، ويمكن تقدير أن المنطقة ستعدّ تدريجيًا “للاستيطان اليهودي وضم إسرائيل”. وإذا نُفّذت الخطة، فسيجري إخراج السكان الفلسطينيين الذين بقوا في شمالي غزة من هناك، كما اقترح أيلاند، بمساعدة التهديد بالمجاعة وغطاء “حماية حياتهم”.
يضيف المقال أن رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، يحلم بما سيعدّه معجبوه إنجاز حياته: “توسيع أراضي إسرائيل” لأول مرة بعد 50 عامًا من الانسحاب، الذي بدأ باتفاقيات فصل القوات بعد “حرب يوم الغفران”. لقد تخلى أغلب أسلافه، وهو أيضًا، عن مناطق معيّنة، وحان الوقت للتحول والتوسع. سيكون هذا “انتصاره المطلق”، “الرد الصهيوني” على عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول، وعلى “عمليات الاختطاف والإذلال الفظيع الذي تعرضت له إسرائيل وجيشها على أيدي الفلسطينيين واللبنانيين”، على حد تعبير المقال.
وفقًا لـ”هاآرتس”، يواجه الفلسطينيون في شمالي غزة الآن مصير السكان الأرمن في ناغورنو كاراباخ، الذين طردوا بين عشية وضحاها من الطوق قبل عام خلال حملة خاطفة قام بها رئيس أذربيجان، إلهام علييف الحليف الوثيق لـ”إسرائيل”.
“العالم” رأى ومضى، ولا يزال 100 ألف لاجئ عالقين في أرمينيا، وهي ليست في عجلة من أمرها لدمجهم. وبالمثل، فإن المبعدين من شمالي غزة سيزاحمون لاجئي المرحلة الأولى من الحرب في “المنطقة الإنسانية” في الجنوب، حسب وصف المقال.
ويربط مقال “هاآرتس” ما بين تقديره للمرحلة القادمة وما بين خطوة الجيش في 28 أغسطس/ آب حول تعيين العميد إيلاد غورين مسؤولًا عن “الجهود الإنسانية في قطاع غزة”، عادًّا أن هذا اللقب الطويل الذي سيحمله الأخير حتى يخترعوا اختصارًا له في جيش الاحتلال الإسرائيلي، بما يعادل رئيس الإدارة المدنية في الضفة الغربية، عمليًا ينبغي أن يُسمّى “محافظ غزة”، حسب المقال، بوصفه تجسيدًا معاصرًا للواء موشيه غورين، الذي خدم بهذه الصفة أثناء احتلال قطاع غزة في حرب الأيام الستة.
“اليوم التالي”.. معضلة نتنياهو
وفقًا لموقع “ميكور ريشون” العبري، فإن بنيامين نتنياهو يروج لمخطط جديد يدّعي أنه سيكون مدخلًا أساسيًا لهزيمة المقاومة في شمالي قطاع غزة والقضاء عليها.
تقوم فرضية نتنياهو على فكرة “أن من يوزع المساعدات يمتلك مفاتيح إدارة شؤون السكان”. ووفقًا لمصدر الموقع العبري، فإن نتنياهو أبلغ كبار المسؤولين في حكومته أن “إسرائيل” ستضطر إلى تولي توزيع المساعدات الإنسانية في غزة لفترة محدودة، لأنه رغم الضربات التي تلقّتها حماس حتى الآن، فإن السيطرة على المساعدات الإنسانية فقط هي التي ستسمح بالقضاء على المقاومين في شمالي القطاع.
قد تتضمن خطة رئيس وزراء الاحتلال اللجوء إلى أجزاء من خطة “الفقاعات الإنسانية”، أو “الجزر المعزولة”، إذ سيبحث جيش الاحتلال عن إمكانية عزل أجزاء من المناطق التي سيعمل فيها، وبعد ضمان عدم وجود أي من المقاومين فيها، ستوزع “إسرائيل” المساعدات الإنسانية هناك.
وتتبنى الخطة عمليًا نهج وزير مالية الاحتلال والوزير في وزارة الحرب بتسلئيل سموتريتش، ووزيرة الاستيطان أوريت شتروك، اللذين طالبا في عدد كبير من المناقشات المغلقة بشأن غزة بأن تتولى “إسرائيل” توزيع المساعدات الإنسانية.
حتى أن “نتنياهو” برر رأيهما في جلسة مجلس الوزراء هذا الأسبوع قائلًا: “في النقاش حول توزيع المساعدات الإنسانية، وزير المالية على حق”. وقال سموتريتش إنه “يبدو أن العربون يسقط حتى بالنسبة إلى ما كنت أطالب به منذ أكثر من 6 أشهر”، وأشار إلى أنه في نظره “سيكون هذا تحولًا استراتيجيًا من شأنه تسريع الحرب، وتعظيم القوة العسكرية”، مضيفًا: “جهد في الطريق نحو التدمير الكامل لحماس”، على حد تعبيره.
وتتعارض خطة وزراء “الصهيونية الدينية” مع موقف وزير الحرب يوآف غالانت، ورئيس الأركان هرتسي هاليفي، علمًا أن غالانت يتبنى موقفًا يتعارض مع فكرة بقاء “إسرائيل” في قطاع غزة، بل سبق أن طلب في الماضي من نتنياهو أن “يعلن أن إسرائيل لن تحكم غزة مدنيًا”، وطلب منه “الترويج لبديل حكومي لحماس”.
وعنوان “اليوم التالي” إضافةً إلى صفقة التبادل يعدّ أكثر العناوين الخلافية بين غالانت ونتنياهو، إذ ينسجم الأول في أطروحاته مع هيئة أركان جيش الاحتلال، بينما يتبنى الأخير رؤى متعددة يحافظ فيها على الانسجام مع شركائه في الائتلاف الحكومي، ومع أطروحاته اليمينية المتطرفة، إضافةً إلى مستقبله السياسي ونرجسيته المعتادة.
تدريجيًا، يتحول عنوان “اليوم التالي” للحرب إلى معضلة رئيسية في وجه خطط الحرب على قطاع غزة. وبعد اقتراب الحرب من إتمام عام كامل من العمليات العسكرية الكبرى لجيش الاحتلال في قطاع غزة، فإن الاحتلال فشل في تحقيق أهداف الحرب، والانتقال إلى الدوران في حلقات مفرغة من العمليات العسكرية الهادفة إلى تحقيق أقصى استنزاف ممكن للمقاومة في مناطق قطاع غزة.
وهذه العمليات خلقت أيضًا استنزافًا لجيش الاحتلال الذي لم يحظَ حتى الآن بأية فرصة لتحقيق دخول “سلس” لأي من المناطق، بما فيها تلك التي سبق أن أعلن أكثر من مرة نجاحه في تفكيك بنى المقاومة فيها، يشكّل التمظهر الأبرز حول حجم الأزمة المستعصية أمام الحكومة الإسرائيلية.
الفشل المتكرر في الوصول إلى صيغة عملية لـ”اليوم التالي” في قطاع غزة، وأن أيًا من الأطروحات لم ينجح في أن يتحول إلى نموذج يبنى عليه، يفتح الباب واسعًا أمام استمرار الاجتهادات في “إسرائيل” لتقديم رؤى متعددة ومختلفة، تنتقل ما بين اليأس من إمكانية تحقيق نتائج فعلية من ناحية، ومن ناحية أخرى الطموح اليميني التوسعي، الذي وصل إلى أطروحات عودة الاستيطان في قطاع غزة، وصولًا إلى خطة عضو الكنيست عميت هاليفي التي تدفع في اتجاه دمج قطاع غزة في دولة إسرائيل، عبر خطوات متعددة تهدف إلى تشجيع الهجرة واستئصال المقاومة عمليات صارمة وتدريجية للقضاء على “التطرف بين السكان وتجريد المنطقة من السلاح”، ما يتيح لـ”إسرائيل” إصلاح الخطأ التاريخي المتمثل بـ”فكّ الارتباط”.
تخلق هذه الاجتهادات ضغوطًا كبيرة على نتنياهو، الذي ينتقل من خطة إلى أخرى ومن رهان إلى آخر بحثًا عن نماذج حول إمكانية نجاح محددات في تخليق النظام البديل في قطاع غزة، الذي لم تبدُ ثمة ملامح حول إمكانية أن ينجح حتى الآن، خصوصًا مع الفشل المتكرر في تفكيك بنى المقاومة في قطاع غزة أو حتى ملامح تقهقرها.
هذا رغم الإعلانات المتكررة عن النجاح في ذلك، والتي كان آخرها إعلان وزير حرب الاحتلال حول تفكيك البنية العسكرية المنظمة في قطاع غزة، والتي حاول أن يدعمها بالوثيقة التي نسبها إلى القيادي في كتائب القسام رافع سلامة، حول تضرر القدرات العسكرية للقسام تضررًا نوعيًا.
الوقائع الميدانية مغايرة تمامًا
على الأرض، لا يلتفت سكان شمالي قطاع غزة كثيرًا إلى ما يدور في مقالات النخب الإسرائيلية، ولا إلى مقترحات الجنرالات الإسرائيليين الحاليين والسابقين، ولا إلى طموحات وزراء الصهيونية الدينية، أو تفسيرات “هاآرتس” لمآلات الأمور مستقبلًا.
حسمَ من تبقى في شمال قطاع غزة موقفهم مسبقًا من فكرة النزوح ومغادرة منازلهم، وفي سبيل ذلك تحملوا ما لا يمكن أن تتحمله جبال كبرى من القوة الغاشمة والمسح الكامل لأحياء دُمّرت على رؤوس ساكنيها، وواجهوا أقسى أيام التجويع دون أن تهتز قناعتهم بأهمية بقائهم في أماكن سكنهم.
عاد أهالي بيت حانون إلى مناطق سكنهم، وعملت بلدية بيت حانون على إجراء عمليات صيانة أولية للطرق وشبكات المياه، وإنجاز العديد من مهام التهيئة لعودة مظاهر الحياة إلى البلدة الحدودية التي طمح الاحتلال إلى مسحها عن الخارطة، وإنهاء وجودها بوصفها مدينة في قطاع غزة.
الأمر سواء في كل مناطق شمالي قطاع غزة، إذ ما تلبث الآليات الإسرائيلية أن تنسحب من المناطق والأحياء حتى يعود سكانها ويعملون سريعًا على إزالة الركام وفتح الطرق وترتيب مظاهر الحياة الأساسية، والتي يظهر فيها نموذج فريد جدًّا من التكافل والدعم المتبادل للسكان لبعضهم البعض، للحفاظ على مظاهر الصمود الأسطوري.
أُعيد فتح شارع الجلاء، الشارع المركزي والأساسي الرابط بين أحياء مدينة غزة، والذي يوصل بين مدينة غزة وشمالها، وأُزيل الركام من فوقه، وعادت سلاسة الحركة إليه، ما أعاد مظهرًا هامًّا من مظاهر الحياة في شمالي القطاع، إضافةً إلى عمليات الترميم لمنشآت الخدمات وآبار المياه والمخابز في هذه المناطق.
يعدّ ترميم المستشفيات نموذجًا هامًّا فيما يتعلق بإعادة مقومات الحياة إلى شمالي غزة، حتى مستشفى الشفاء الذي شهد مجازر كبيرة وإصرارًا إسرائيليًا على تدميره، أعيدت أجزاء منه إلى الخدمة، والأمر سواء في مستشفى كمال عدوان والمستشفى الإندونيسي في شمالي القطاع، ومستشفى أصدقاء المريض وسط مدينة غزة، الذي ما لبث أن رُمّم حتى دمّره جيش الاحتلال مرة أخرى، ليعاد ترميمه من جديد ويعود إلى العمل.
بالتأكيد، لا يمكن إغفال أن عمليات الترميم تجري بوساطة المؤسسات الدولية، وبموافقة من الاحتلال على غالبها، وهنا يكمن الدور المفترض لضابط الإدارة المدنية المسؤول عن “المساعدات الإنسانية لقطاع غزة”، الذي يتولى مسؤولية إدارة خطوط الاتصال مع المؤسسات الدولية، وترتيب شكل وطبيعة تقديمها لخدماتها.
وأما مظاهر المجاعة فقد بدأت تتراجع مقارنةً بسابقها، ونجحت بعض المؤسسات الإغاثية في إدخال شاحنات مساعدات تحتوي على أصناف متعددة من الغذاء الذي افتقده أهالي شمالي قطاع غزة لأشهر، مثل الخضروات والفواكه وأصناف من اللحوم المجمدة، التي لا تزال شحيحة، إلا أنه استمرار دخوله سيحل الأزمة تدريجيًا، على غرار النجاح في حل أزمة توفُّر الدقيق سابقًا.
توحي كل هذه المؤشرات بأن مظاهر تهجير سكان شمالي القطاع قد باتت وراء أهلها، ووراء الاحتلال الذي بات مقتنعًا أن من تحدوا كل الظروف السابقة قد اختاروا بوضوح ألا يغادروا الشمال إلا جثامين، وبالتالي الأجدى إسرائيليًا البحث عن كيفية استثمار هذا التواجد السكاني المتدني نسبيًا، مقارنة مع عدد السكان الأصلي في تحقيق مآرب أخرى تخدم أهداف الحكومة الإسرائيلية.
وبالتالي، إن إمكانية إقامة نماذج أولي لنظام محلي موالٍ سيكون أسهل في مكان ذي تواجد سكاني أقل، مع استهداف عسكري أعلى على مدار أشهر الحرب، وهو ما يجعل من مهمة ضابط الإدارة المدنية في قطاع غزة أن يتولى الإشراف، على أن توزَّع المساعدات وترتَّب آليات إدارة المنشآت المعاد ترميمها وفقًا لقواعد تضمن تجاوز السلطات القائمة في القطاع بالتعاون مع هيئات وسيطة.
تلعب المؤسسات الدولية هذا الدور حاليًا، والتي ستسعى تدريجيًا إلى إقامة شراكات محلية تتولى مهمة توزيع هذه المساعدات وإدارة هذه المنشآت، مع تعزيز الاستهداف العسكري لأي مظاهر سيطرة حكومية في شمالي القطاع.
يضرب هذا الطرح جوهريًا الأطروحات الأخرى التي تدفع بفكرة أن يعمد الاحتلال إلى شن هجمة موسعة جديدة، بهدف تهجير أهالي شمالي قطاع غزة قسريًا من جديد، وفي المقدمة منها خطة الجنرالات التي قدمها غيورا أيلاند.
وأما عن الخطط الاستيطانية، فإن جوهر عملية الاستيطان يعود إلى فكرة نهب خيرات الأرض ويتضمن عملية إسكان واسعة في أرض محتلة، وذلك بذريعة الإعمار وإرساء سيطرة الدولة المهيمنة على الأرض التي ضمّتها وباتت تعدها جزءًا منها، وقد تكون دوافعه أيديولوجية دينية وعنصرية.
وفي حالة قطاع غزة، فإن كل دوافع الاستيطان الطبيعية غير متوفرة، فلا خيرات لنهبها في القطاع، ولا يمثل قطاع غزة أيضًا بيئة ملائمة تحفز المستوطنين للتوجه إليها، حتى في سنوات سابقة خلت كان الاستيطان في قطاع غزة يعدّ استيطانًا مكلفًا.
إذ إن مقدار ما يجنيه الاحتلال اقتصاديًا من البقاء في مستوطنات القطاع مقارنة بحجم تكلفة التأمين والتصدي للعمليات الفدائية كانت تكلفة خاسرة في كل المعادلات، إضافةً إلى تحول المستوطنات إلى مستوطنات عسكرية، إذ كان عدد الجنود المكلفين بحماية مستوطنة نيتساريم قبل الانسحاب من قطاع غزة وفكّ الارتباط في عام 2005 أكبر من عدد المستوطنين القاطنين في المستوطنة ذاتها.
وفي إطار فحص إمكانية إقامة حكم عسكري، أوضحت وثيقة صادرة عن وزارة الحرب الإسرائيلية، أن فرض حكم عسكري في غزة بعد الحرب سيتطلب وضع 5 فرق من جيش الاحتلال في غزة، ونقل جنود من المنطقتين الشمالية والوسطى، وزيادة كبيرة في حكم قوات الاحتياط، وسيكون مكلفًا جدًّا على نحو لا تستطيع دولة الاحتلال تحمله.
وحسب الوثيقة، تقدَّر التكلفة التشغيلية لذلك الحكم العسكري بنحو 20 مليار شيكل سنويًا (5.4 مليارات دولار)، وتقدر تكلفة إنشاء ممر إضافي بنحو 150 مليون شيكل (40.4 مليون دولار)، ولا يشمل ذلك جميع التكاليف المترتبة على إدارة الحكم العسكري، وعلى ذلك يمكن قياس ما سيترتب من تكاليف إعادة الاستيطان.
يواجه الاحتلال صعوبة في إقناع مستوطني “غلاف غزة” من العودة إلى مستوطناتهم، فكيف سينجح في تحويل فرضية الاستيطان في قطاع غزة إلى شيء واقعي؟ باستثناء بعض متطرفي الصهيونية الدينية المتشجعين لعودة الاستيطان إلى قطاع غزة، لن يحظى هذا المشروع بأي أفق حقيقي، خصوصًا في ضوء فشل كل محاولات تفريغ شمالي قطاع غزة من سكانه.
تأخذ كل هذه المعادلات المعقدة في قطاع غزة كل القراءات إلى مآل واحد، وهو أنه ليس كل ما يريده الاحتلال يتحول إلى أمر واقع، فـ 12 شهرًا من القتال المستمر في القطاع دليل جوهري وقاطع على أن بيئة قطاع غزة ليست بيئة سلسلة ولا سهلة لتمرير مخططات طموحة، يسعى فيها الاحتلال إلى إعادة تشكيل قطاع غزة ومستقبله بما ينسجم مع خطط اليمين الصهيوني التوسعي، وأن الفشل المتكرر لكل الخطط سيكون السمة الدائمة، إلى أن يجبر الاحتلال عن الانسحاب من جديد من أراضي قطاع غزة.