منذ بداية الصيف والسجالات لا تنقطع في مصر، معركة كبرى تعودنا على اشتعالها في نفس التوقيت من كل عام، بسبب محاولات البعض السيطرة على المظهر للعام للشواطئ والسواحل؛ الموضوع في ظاهره يرفع بالطبع شعارات المحافظة على التحضر والتمدن، والقضاء على ظاهرة ترييف الشواطئ المتفشية في شتى أنحاء البلاد، ولكن في باطنه يفصح عن رغبة مستعرة لتأميم كل شواهد الحياة لحساب رغبات بعينها، وفرض شروط وأنماط طبقية واجتماعية واحدة على باقي أطياف المجتمع، ويقف على رأس هذه الفتنة السنوية المايوه بقطبيه “البكيني والشرعي”.
كانت الأزمة مثل النار تحت الرماد منذ سنوات، اعتمدت كل الأطراف “اللاحل” حتى إشعار آخر، إلى أن قررت وزارة السياحة المصرية العام الماضي، حشر نفسها في الأزمة بشكل مفاجئ وغير مفهوم، وإلزام جميع المنشآت الفندقية بالسماح للمحجبات المرتديات للمايوه الشرعي بالنزول لحمامات السباحة.
القرار أثار عاصفة من الغضب بين رواد العمل السياحي، انتقل السجال من الشارع والمقاهي والإعلام، إلى غرف صنع القرار التي تفاجأت بما أسماه أحد المسؤولين من الطراز الرفيع لـ”نون بوست” بالتوجه الأصولي غير المبرر لطبيعة للقرار، ويفسر هذا الرأي الناجز للتباين في وجهات النظر بأعلى مستويات الدولة، التغيير السريع في آراء وتوجات وزارة السياحة التي ألغت القرار بعد أقل من 24 ساعة من صدوره، وعادت لتوزع منشورًا آخر على غرفة المنشآت الفندقية للإفادة بإلغاء القرار.
الخطورة في أزمة البكيني، تحول مشكلة بهذه البساطة إلى أزمة تعايش، تحيا فيها المجتمعات العربية وليس المجتمع المصري وحده
تحججت الوزارة إعلاميًا في إلغاء القرار، بالحاجة لدراسة الأمر بعمق، حتى لا تتعرض السياحة الداخلية لأي مخاطر، خاصة أن غرفة المنشآت الفندقية ثارت بشدة، وهي التي كانت وراء تصعيد الأزمة لأعلى مستويات بالدولة، وكان القرار بشقيه الأول والثاني، مؤشرًا على آلية اتخاذ القرار وفقًا لرؤى انطباعية دون تأني أو دراسة شاملة.
المايوه.. أزمة تعايش
الخطورة في أزمة البكيني، تحول مشكلة بهذه البساطة إلى أزمة تعايش، تحيا فيها المجتمعات العربية وليس المجتمع المصري وحده، منذ اندلاع ثورات الربيع العربي التي فجرت العديد من الدمامل الكامنة تحت الجلد منذ عقود، أصبح هناك حالة من الهوس بمنع دخول المحجبات والمنتقبات القرى السياحية والفنادق الكبرى، وبوجه خاص تلك التي ترتادها الطبقات الأرستقراطية والأثرياء، وهي في مجملها انعكاسات للأزمة الدائرة ببعض البلدان الغربية التي قررت رفض السماح للمحجبات بالتنزه على الشواطئ، وممارسة حقوقهن في الاستمتاع بالمصايف بطريقتهن الخاصة في الملبس التي تناسب خصوصيتهن الدينية والاجتماعية.
وتعتبر فنادق شرم الشيخ والغردقة من أكثر المنشآت السياحة المصرية تشددًا في حظر منع دخول المحجبات بما يسمى المايوه الشرعى، وبوجه خاص داخل حمامات السباحة، تبعها في ذلك شواطئ الساحل الشمالي التي لم تكن تتعامل بهذه الكيفية حتى سنوات قليلة مضت، ولكن يبدو أن الفنادق تتابع حالة الحراك والضجيج المنتشر بشأن قضية المايوه الشرعي، وبالتأكيد في إطار سعيها المستمر لاستقطاب أرفع المستويات الاجتماعية إلى المنطقة، أقدمت العديد من الشواطئ والفنادق على منع أي ظهور لمحجبة من الدخول والظهور بهذا الشكل الذي يثير حفيظة الأثرياء.
استثمر بعض نشطاء الإسلاميين، بجانب الكثير من المناهضين لفكرة حجز الشواطئ لأنماط حياتية تناسب الأثرياء وأبناء الطبقات الاجتماعية المرتفعة وحدهم، شيوع بعض البدع الغريبة والممارسات الشاذة في طقوس العبادة
كانت السوشيال ميديا قد انفجرت بصور سيدات مصر في ثلاثينيات وأربعينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي خلال الأشهر الماضية، لدرجة أن بعض الحقوقيين والمهتمين بالرأي العام، بات لديهم شبه اعتقاد أن هناك حالة من الربط المستمر بين نشر هذه الصور بكثافة شديدة وإصدار مثل هذه القرارت، بما يوحي أن هناك من يدير توجهات ممنهجة بإعادة تنشيط الذاكرة المصرية وإبصارها بحالة التحرر التي كانت سائدة في أزهى عصور الليبرالية المصرية، منتصف القرن الماضي، وكيف كان يبدو المجتمع المصري آنذاك وكأنه قطعة من قلب الحداثة الأوروبية.
على الجانب الآخر، استثمر بعض نشطاء الإسلاميين، بجانب الكثير من المناهضين لفكرة حجز الشواطئ لأنماط حياتية تناسب الأثرياء وأبناء الطبقات الاجتماعية المرتفعة وحدهم، شيوع بعض البدع الغريبة والممارسات الشاذة في طقوس العبادة، كان أكثرها إثارة للجدل ظهور سيدة ـ لم يتأكد من جنسيتها سواء كانت مصرية أم عربية ـ وهي تصلي شبه عاريه بالبكيني، في مخالفة صارخة لأصول العبادة واشتراطاتها الإسلامية، مع أن التصوير خلسة في حد ذاته، رسالة أسوأ من تلك التي حاول مضمون الفيديو إيصالها للمسلمين وغيرهم على حد سواء.
قبول التنوع بـ”القانون”
حالة الجدل المستمرة وتنامي ظاهرة رفض الآخر، أصبحت تمثل هاجسًا للكثير من المعتدلين من الكتاب والمثقفين، وبعضهم أصبح يرى ضرورة كبرى في سن قانون يضمن للجميع ممارسة الحريات بنفس القدر والضمانات، لإيجاد حلقة التعايش المفقودة وفرض قيم الاختلاف الثقافي والفكري والديني على كل رديكالي متطرف من كل الاتجاهات، ويشمل ذلك الحرية الدينية والنمط الحياتي بألوانه كافة، عبر ضمانات قانونية ملزمة للجميع، وهو منهج سارت عليه بعض الدول الغربية التي فرضت التنوع بقانون حتى صار عقيدة وفكر ومنهج في سلوك الشعوب.
كان على رأس هذا كتيبة المثقفين والباحثين الداعين إلى ضمان التنوع أولاً، كبداية لعلاج قضية الفوارق الاجتماعية التي أحدثت شرخًا هائلاً في المجتمع المصري، وتسببت بشكل أو بآخر في هذه الأزمات الطبقية والفكرية والإنسانية التي تتفجر واحدة تلو الأخرى، الدكتورة نادين عبد الله الباحثة بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية.
عندما نحلل أزمة رفض التنوع، وتفشي الطبقية التي نحياها منذ سنوات، سنجد أنها جاءت نتاجًا لسنوات طويلة كان المجتمع المصري يتعرض فيها لهزات اجتماعية كبرى
القبول بالمستويات الاجتماعية والاندماج والتعايش معها تلزمها قوانين تفرضها، حسبما تراها نادين عبد الله، عربون نجاح، فالدول التي كانت تعاني من نفس الأزمات نجحت بشكل كبير في تقليصها ثم إنهائها تمامًا عبر سياسات اجتماعية قانونية، وفرت من خلالها تعليمًا وصحة على أعلى مستوى لأغلبية أبناء المجتمع، ومن ثم قللت الفجوات بين الطبقات الأعلى والأقل، بما مكن الطبقة الوسطى من الحصول على الأغلبية، وهي الوحيدة التي تستطيع صنع حلقة وصل صحية، وترابطًا مجتمعيًا قائم على التصالح مع الاختلاف.
وجهة نظر نادين يؤيدها الدكتور أحمد مصطفى بدوي الباحث بالمركز العربي للبحوث الذي يعتبر أن تغير الخريطة الطبقية في مصر لإنهاء مثل هذه الأزمات في قبول التنوع والاختلاف، يلزمها تطبيق برامج اقتصادية واجتماعية جديدة تراعي العدالة الاجتماعية والمساواة في مختلف المجالات، بما يساهم بشكل مباشر في إحداث تقارب بين الطبقات، يساهم في إزالة هذه الهوامش الضارة التي تتوحش بشدة وتتزايد عامًا بعد الآخر وتضر بالتماسك المجتمعي.
هذا مافعلته فينا الثمانينيات والتسعينيات
ما قاله بدوي ونادين ليس بعيدًا عن الواقع، فعندما نحلل أزمة رفض التنوع وتفشي الطبقية التي نحياها منذ سنوات، سنجد أنها جاءت نتاجًا لسنوات طويلة، كان المجتمع المصري يتعرض فيها لهزات اجتماعية كبرى، وعلى وجه الدقة منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وساهمت تلك الهزات في تشكيل مجتمع جديد قائم على فجوات طبقية غير معقولة، قادتنا في النهاية إلى ثقافة البكيني والبوركيني الشرعي، بسبب تآكل الطبقة الوسطى التي شهدت في هاتين الحقبتين تناقصًا مخيفًا، بسبب التفاوت الرهيب المتوحش، من أثر الطبقية الجديدة في فرص العمل بجميع مستوياتها بالدولة، وعدم معقولية الفارق الشاسع بين الحد الأدنى والأقصى للأجور، حتى بين العاملين في المؤسسة الواحدة، وينطبق ذلك على القطاعين الخاص والعام.
ما تتعرض له مصر حاليًّا وحالة الهياج لمنع أي دخيل اجتماعي على الطبقات الأرستقراطية والأثرياء في الشواطئ، يجعل المجتمع في حاجة متزايدة إلى إحداث حراك طبقي، بما يمكن المصريين من تشكيل شرائح طبقية مختلفة، تعيد بناء الطبقة الوسطى
واكب ذلك سياسات ارتجالية في التنمية، بداية من مشروع توشكى الذي اعتبره الرئيس الأسبق حسني مبارك ونظامه مفتاح الابتعاد بمصر إلى دول العالم الأول، ولكنه انتهى إلى تبديد ميزانية الدولة، فضلاً عن الفشل النفسي الذريع والإحباط الذي الذي أصاب الشخصية المصرية من إمكانية الالتحاق بالدول التي لديها قدرة على الإنتاج، ليتحول المجتمع تدريجيًا إلى نداهة التربح غير الشرعي، باعتباره بديلاً في الممكن، للحصول على نعيم الثراء السريع، وضمان الحياة وسط الطائفة الناجية من الفقر، بكل ما يجلبه لصاحبه من مهانة وتغريب ثقافي وإنساني حتى داخل المجتمع نفسه.
ما تتعرض له مصر حاليًّا، وحالة الهياج لمنع أي دخيل اجتماعي على الطبقات الأرستقراطية والأثرياء في الشواطئ، يجعل المجتمع في حاجة متزايدة إلى إحداث حراك طبقي، بما يمكن المصريين من تشكيل شرائح طبقية مختلفة، تعيد بناء الطبقة الوسطى، بما يضمن حياة أفضل لجميع المصريين، بمختلف انتماءاتهم الاجتماعية والدينية والفكرية، وليس طائفة على حساب أخرى!