بدأت الأزمة الأمريكية ـ التركية بإطلاق نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس عبر حسابه على تويتر، تهديد لتركيا بفرض عقوبات قاسية في حال لم تفرج عن القس الأمريكي أندرو برانسون، الموقوف في تركيا بتهمة التجسس.
وبعيدًا عما هو مُعلن، وعلى صعيد تحليلي، يُتوقع أنه إلى جانب رفض تركيا الانضمام إلى العقوبات الأمريكية ضد إيران، يظهر تعاونها العسكري مع روسيا من خلال الاتفاق معها على شراء منظومة الدفاع الجوي “إس 400” على أنه أحد الأسباب الرئيسية للأزمة الفاعلة، لتصبح المسألة رهن تساؤل مفاده: هل الأزمة ناتجة عن محاولة تركيا لتنويع مصادر تعاونها العسكري فعلًا؟
بداية، إن تكرار الرئيس ترامب في أكثر من تغريدة عبر تويتر استخدام كلمة “المسيحي الجيد”، يؤكد أن الأزمة جاءت أيضًا نتيجة لسعي الحزب الجمهوري الذي انبثق عنه ترامب لتوظفيها في انتخابات الكونغرس الجارية، أما على صعيد دولي فيبدو أن العاملين أعلاه هما الأساسييان في نشوب الأزمة الحاليّة.
تركيا والاتجاه صوب التعاون العسكري متعدد الأقطاب
إن الاتجاه التركي صوب التعاون العسكري متعدد الأقطاب بدأ في سبتمبر/أيلول 2013، حيث أعلنت تركيا مناقصة لإنشاء منظومة دفاع جوية، ورست المناقصة على شركة “سي بي إم أي إي سي” الصينية، ولكن نتيجة لضغوطات حلف “الناتو” والولايات المتحدة بذريعة صعوبة توليف منظومة الدفاع الصينية مع المنظومات التابعة لحلف “الناتو”.
كان السبب الأساسي وراء تحرك هذه الدول على هذا النحو، رغبتها في رفع مستوى الضغوط على تركيا، كي تعزف عن إنشاء منظومة دفاع جوي تكون قريبة للاستخدام الذاتي من قبلها، وإبقائها على حاجة لها
وفي عام 2012 احتاجت تركيا لمنظومة دفاع جوي جراء ارتفاع المخاطر الناتجة عن الأزمة السورية، فمدها “الناتو”- عبر الولايات المتحدة وهولندا وألمانيا – بمنظومة دفاع جوي، لكن بعد إعلان مناقصة إنشاء منظومة دفاع ذاتية لم تتلق عروضًا مجديةً من دول القطب الغربي، لذلك قبلت بالتفاوض مع الصين، لكنها كانت تعمد إلى تأجيل توقيع اتفاقية بدء العمل في إنشاء المنظومة كي تستطيع تقييم العروض الغربية في حال عُرضت.
وأجرت مفاوضات حثيثة مع الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا في هذا الصدد، غير أنها أُصيبت بخيبة أمل ولم تتلق أي عرض غربي، بل وصُعقت بقرار هولندا في يناير/كانون الثاني 2015، ومن ثم ألمانيا والولايات المتحدة في أغسطس/آب 2015، سحب جزء من منظومات الدفاع الجوي دون إنذار مسبق، وقبل موعدها الذي كان محددًا بشهر يناير/كانون الثاني 2016، بذريعة حاجتها للصيانة الميكانيكية.
على الأرجح كان السبب الأساسي وراء تحرك هذه الدول على هذا النحو، رغبتها في رفع مستوى الضغوط على تركيا كي تعزف عن إنشاء منظومة دفاع جوي تكون قريبة للاستخدام الذاتي من قبلها، وإبقائها على حاجة لها، كي تستطيع استخدام الأمر كورقة ضغط عليها في تمرير بعض الملفات الأخرى، لكن يبدو أن تركيا لم تزعن لهذه الضغوطات، وأقدمت بعد سحب المناقصة من الشركة الصينية منتصف عام 2015 على عقد اتفاقية مع روسيا في ديسمبر/كانون الأول 2017، لاستيراد منظومة الدفاع الجوي الروسية إس 400، بشريطة دمجها بالأسلحة التركية وإدارتها بشكل مشترك من مستشارين أتراك وروس، بهدف بناء قوتها الذاتية البديلة لتبعية حلف “الناتو”، تأكد من الشروط من الرابط أدناه.
أسفرت الأزمة عن توقيع ترامب لقرار الكونغرس القاضي بإيقاف تسليم 100 طائرة إف 35 لتركيا، والنظر في عملية تسليمها من خلال مراقبة مدى توافق سياسة تركيا مع الولايات المتحدة
ومع تجميد ترامب تسليم تركيا طائرت إف 35، قد تُقدم أنقرة على تحرك أوسع صوب التعاون العسكري متعدد الأقطاب الذي لطالما سعت للحفاظ عليه، لكنها كانت تشعر بخيبة أمل وضغوطات دول “الناتو” السلبية على طموحها، حتى استوعبت أنه قد حان وقت تقوية عونها الذاتي قليل الاعتماد على التحالفات.
تأثير الأزمة على سوق السلاح
أسفرت الأزمة عن توقيع ترامب لقرار الكونغرس القاضي بإيقاف تسليم 100 طائرة إف 35 لتركيا، والنظر في عملية تسليمها من خلال مراقبة مدى توافق سياسة تركيا مع الولايات المتحدة، بإصدار تقرير يقيم الحالة كل 6 شهور، وقد يؤدي هذه القرار إلى انعكاس للأزمة على سوق السلاح على صعيد عالمي:
– تكبد الشركات الأمريكية خسارة بقيمة 12 مليار دولار
تشترك تركيا في مشروع تصنيع مقاتلات إف 35 بالتعاون مع عدد من الشركات العالمية الأخرى، وسيؤدي خروجها من المشروع، وفقًا لصحيفة “حرييت” التركية، لتكبد الولايات المتحدة والدول الـ8 الأخرى المشاركة في المشروع خسارة بقيمة 12 مليار دولار، حيث تشترك شركة “آيساش” التركية التي تضم تحت جناحها 10 شركات تركية أخرى في إنتاج قطعتين من العناصر الأساسية للمقاتلة، وهي المصنع والمورد الوحيد لهما، وهذا ما يمكن أن يؤخر عملية إتمام المشروع لمدة عامين على الأقل.
– حدوث المزيد من التوجهات صوب الأقطاب البديلة واشتداد التنافس في سباق التسلح
على الأرجح يُفقد هذا القرار ثقة حلفاء الولايات المتحدة بها، فهو بمثابة “القرار الغادر” الذي يعبر عن ركاكة التحالف مع الولايات المتحدة التي لا تتورع عن استخدام أسس تحالفها مع الدول الأخرى كورقة تبتزهم بها، ما يمكن أن يدفعهم نحو البحث عن بديل سواء داخل القطب الغربي ككندا وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا، أم الأقطاب البديلة كروسيا والصين التي توفر بدائل أكثر قوة من بدائل الولايات المتحدة داخل القطب الغربي.
لا يبدو أن احتدام التنافس مقتصر على الصعيد الدولي، بل يشمل الصعيد الإقليمي بين تركيا و”إسرائيل”
وهذا ما يوحي باحتمال اشتداد التنافس في سباق التسلح على الصعيدين القريب والبعيد، ما يوحي ببدء تأسيس فعلي لعالم متعدد القطبية يشوبه التداخل بين الحلفاء، بحيث يمكن أن تكون دولة ما حليفة لأكثر من قطب، في سبيل موازنة قوتها والتهديدات المحيطة بها، ولكن لا يعني أن ذلك انتهاء أحادية القطبية الأمريكية وإنما بداية لإنهائها، وكي تكلل هذه البداية بنجاح فإنها بحاجة إلى تنويع ركائز توازن القوى، بحيث تشمل أسس للاستغناء عن الدولار والسلاح والتكنولوجيا والهيمنة الاستخباراتية والمعلوماتية والقوة الشرعية الأمريكية، بمشاريع تحالفية إستراتيجية على جميع الأصعدة.
ولا يعني ذلك وقوف الولايات المتحدة “مكتوفة الأيدي”، بل يوحي باحتمال تعزيز استخدامها إستراتيجيتي “العصا الغليظة” التي تُشير إلى تنويع وتكثيف استخدام جميع الوسائل الوقائية الاستباقية لإفشال جميع المحاولات، و”الاحتواء والتطويق” التي تعني رفع مستوى التحالفات الإقليمية المحورية ضد تحركات الدول المناوئة لهيمنتها العالمية، ونجاح الطرفين – القطبين الأمريكي والآخر المناوئ لها – في تحقيق هدفهما المختلفين، على مدى قدرتهما في امتلاك قوة اقتصادية ودبلوماسية وأمنية وعسكرية محورية متكافلة.
ولا يبدو أن احتدام التنافس مقتصر على الصعيد الدولي، بل يشمل الصعيد الإقليمي بين تركيا و”إسرائيل”، “إسرائيل” التي أبدت رغبتها في تعويض عمل الشركات التركية، ومن المفترض أن يؤدي ذلك لامتعاض تركي يرى في التحرك الإسرائيلي محاولة لإبعادها عن المشروع.
– رفع مستوى القدرات العسكرية الذاتية
إن تنويع مصادر التعاون العسكري على نحو وثيق مع أطراف متجاذبة يعود على الدولة بورقة الاستفادة من هذه التناقضات في اللعب على وتر ترجيح كفة ميزان القوى لصالحها، عبر الضغط على الأقطاب المتجاذبة بمعزلٍ عن “القطبية التامة” ومن خلال معادلة التعاون مع جميع الأطراف على حساب جميع الأطراف، مما يوفر لها مستوى جيد من الاستقلال الدبلوماسي والإرادة السياسية المتحركة وفقًا للمصلحة الوطنية أولًا وأخيرًا، ومن ثم مستوى جيد من القدرات العسكرية الرادعة أمام الدول الإقليمية.
في المحصلة، لكل دولة قومية مصلحة ذاتية تُسقى وتُرعى طبقًا لحجم إدراك قادتها لهذه المصلحة، وبالتفكر بما يحدث بين الولايات المتحدة وتركيا، يُلاحظ أن قادة تركيا يزداد وعيهم بضرورة تنويع مناهل تعاونهم العسكري الذي يعتمد على توازن قوى يفيدهم في رعاية المصلحة القومية عبر الاستفادة من تناقضات هذا الميزان، وهذا ما قد يتمخض عنه توجه ليس تركيًا فقط، بل توجه عام نحو تنويع مصادر التعاون، مخافة الوقوع ضحية لسياسة الابتزاز الأمريكية.