الأكاذيب الاستخباراتية: كيف يستخدم نتنياهو الصحافة الأجنبية لخدمة أجنداته؟

ترجمة وتحرير: نون بوست

في الرابع من أيلول/سبتمبر، دعا بنيامين نتنياهو إلى مؤتمر صحفي لوسائل الإعلام الأجنبية من أجل شرح إصراره العنيد على إبقاء القوات الإسرائيلية في ممر فيلادلفيا في غزة حتى لو كان ذلك على حساب اتفاق تبادل الرهائن. وأرفق رئيس الوزراء الإسرائيلي حجة جديدة مع ادعائه المتكرر بأن الحدود بين غزة ومصر كانت تاريخياً “سهلة الاختراق” لتهريب الأسلحة. وأفاد بأنه إذا لم يسيطر الجيش الإسرائيلي على المنطقة، فإن “حماس” ستتمكن من “تهريب الرهائن بسهولة… إلى صحراء سيناء”، ومن هناك إلى “إيران أو… اليمن” ثم “سيختفون إلى الأبد” بعد ذلك.

في اليوم التالي، نشرت صحيفة “جويش كرونيكل”، أقدم صحيفة يهودية في بريطانيا، تقريرًا حصريًا بث الحياة في حجة نتنياهو المفترضة. وزعمت الصحيفة أنها تكشف عن أدلة من “مصادر استخباراتية” إسرائيلية تثبت أن زعيم حماس يحيى السنوار كان ينوي تهريب الرهائن المتبقين عبر ممر فيلادلفيا إلى إيران، وأن قادة حماس الباقين في غزة بمن فيهم السنوار نفسه سيذهبون معهم.

ورد في المقال أن هذه الخطة “تم الكشف عنها خلال استجواب مسؤول كبير في حماس تم القبض عليه، وكذلك من خلال معلومات تم الحصول عليها من الوثائق التي تم الاستيلاء عليها يوم الخميس 29 آب/أغسطس، وهو اليوم الذي وقع فيه استعادة جثث الرهائن الستة المقتولين“. وتابع التقرير “بالنسبة للسنوار، اتضح أن ممر فيلادلفيا هو الخيار الوحيد المتاح لتحقيق خطته”.

سرعان ما اكتسب السبق الصحفي الذي نشرته صحيفة “جويش كرونيكل” زخمًا كبيرًا وتداوله عدد كبير من وسائل الإعلام الإسرائيلية اليمينية والمؤثرين في وسائل الإعلام الإسرائيلية، بما في ذلك يائير نجل نتنياهو.

وفي 9 أيلول/سبتمبر، التقت زوجة رئيس الوزراء، سارة، بأهالي الرهائن المتبقين وقيل إنها أخبرتهم: “لا يوجد خيار مع ممر فيلادلفيا – هناك تقارير تفيد بأن [حماس] ستهرب إلى إيران [مع الرهائن]”. في الحقيقة، هناك مشكلة واحدة فقط: القصة مختلقة بالكامل.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يحضر جلسة عامة وتصويت في قاعة الجمعية العامة للكنيست، القدس، 11 حزيران/يونيو 2024.

في اليوم التالي لنشر التقرير، فنّدت القناة 12 الإسرائيلية المزاعم  الواردة فيه مشيرة إلى أن “جميع المصادر ذات الصلة في المؤسسة الأمنية” لا علم لها بالمعلومات الاستخباراتية المفترضة، سواء من خلال استجواب أو وثيقة مكتوبة.

وبعد يومين، نقل الصحفي رونين بيرغمان في موقع “واي نت” عن أربعة مصادر من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وشعبة الأسرى والمفقودين في الجيش الإسرائيلي، وصفوا مزاعم صحيفة “جويش كرونيكل” بأنها “تلفيق جامح” وذكروا أنه لا وجود لوثيقة من هذا القبيل. ووصفها آخر بأنها “أكذوبة بنسبة مائة بالمائة”. كما نفى المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري رسميًا هذه القصة باعتبار أنه لا أساس لها من الصحة.

لم يكن هذا التقرير الوحيد الذي أثار الانتباه الأسبوع الماضي حول انتشار معلومات استخباراتية إسرائيلية وهمية. ففي 6 أيلول/ سبتمبر، زعم تقرير حصري في صحيفة “بيلد” اليومية الأكثر قراءة في ألمانيا أنه كشف عن محتويات وثيقة سرية عثر عليها في حاسوب السنوار الشخصي في غزة في وقت سابق من هذه السنة.

وزعمت “بيلد” أن تلك الوثيقة تحتوي على استراتيجية حماس تجاه مفاوضات الرهائن كما وافق عليها السنوار نفسه، كاشفةً عن كيفية “تلاعب الحركة بالمجتمع الدولي، وتعذيب عائلات الرهائن [نفسياً]، والسعي لإعادة تسليح نفسها”.

والأهم من ذلك، حسب التقرير، أن الوثيقة السرية تقدم دليلاً على أن حماس لا تعتبر التوصل إلى وقف إطلاق النار أولوية ملحة. ووفقًا لـ”بيلد”، تحتوي الرسالة على جملة “يجب تحسين بنود مهمة في الاتفاق، حتى لو استمرت المفاوضات فترة زمنية أطول”.

ومن اللافت للنظر أن تلك القصة – التي رددها نتنياهو في اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي يوم الأحد – كانت أيضًا مبنية إلى حد كبير على الفبركة. وقالت مصادر عسكرية إسرائيلية لموقع “واي نت” إن الجيش الإسرائيلي اكتشف بالفعل وثيقة في غزة في وقت سابق من هذه السنة تشبه إلى حد ما الوثيقة التي وصفتها الصحيفة الألمانية، لكنها كانت مجرد اقتراح صاغه أحد صغار الضباط.

وعلى عكس ادعاءات “بيلد”، لم تكن الوثيقة وثيقة استراتيجية رسمية، ولم يكن السنوار أو أي قيادي كبير آخر في حماس من صاغها. أما بالنسبة للسطر الذي يتحدث عن استعداد حماس لإطالة أمد المفاوضات فلم يظهر في الوثيقة الحقيقية على الإطلاق.

إذن ما الذي يحدث هنا؟ يبدو أن الجيش الإسرائيلي يتعامل مع المقالين في صحيفة “جويش كرونيكل” و”بيلد”، على أنهما متصلان ببعضهما البعض، وفتح تحقيقًا داخليًا لمحاولة العثور على مصدر التسريبات والتلفيقات.

وحسب بيرغمان في موقع “واي نت”، فإن الجيش يشتبه في أن المسؤول عن ذلك يسعى للتأثير على الرأي العام الإسرائيلي لصالح نتنياهو، في الوقت الذي تهدد فيه الاحتجاجات الإسرائيلية الحاشدة على اتفاق الرهائن بإفشال محاولاته لإبقاء الحرب مستعرة. وكما قال مسؤول عسكري مطلع على تحقيقات الجيش لبيرغمان بشكل قاطع: “هذه حملة تأثير على الجمهور الإسرائيلي، ونحن مصممون على العثور على الشخص أو الجهة التي تقف وراءها”.

إسرائيليون يتظاهرون للمطالبة بالإفراج عن الرهائن الذين تحتجزهم حماس في غزة خارج مقر وزارة الدفاع في تل أبيب، 7 أيلول/سبتمبر 2024.

يشير البعض في إسرائيل بأصابع الاتهام مباشرة إلى رئيس الوزراء حيث يُعتقد على نطاق واسع أن نتنياهو يقوم منذ أشهر بتسريب معلومات بشكل انتقائي إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية تحت ستار “مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى“، ولكن هذا من شأنه أن يشكل مرحلة جديدة في محاولاته لخداع الجمهور. كما أن الانقسامات التي حدثت في الأشهر الأخيرة بين نتنياهو والمؤسسة الأمنية، بما في ذلك حول قضية ممر فيلادلفيا، موثقة بشكل جيد.

غرّد الصحفي الإسرائيلي المخضرم شلومي إلدار: “كيف يُعقل أنه بعد عودة الرهائن الستة موتى وتزايد الغضب الشعبي واشتداد الاحتجاجات، كُتبت رسالة تجيب على كل مشاكل نتنياهو؟” في إشارة إلى الوثيقة المزورة التي كشفت عنها صحيفة بيلد.

وأضاف: “طوال نصف عام، كانت “وثيقة السنوار… تنتظر على حاسوب السنوار الشخصي للنشر؟ من المنطقي بالطبع أن يجلس السنوار في نفق يفكر ويفكر ليصل إلى وثيقة تتطابق تمامًا مع شعارات نتنياهو؟”.

وتابع إلدار: “كان من الواضح بالنسبة لي أن هذا تسريب من مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يتلاعب بالصحافة الأجنبية من أجل مزيد تمزيق المجتمع الإسرائيلي المنقسم وإنقاذ نتنياهو من الاحتجاجات المتصاعدة. والخلاصة المحزنة هي أن هذه حملة تم انتقاء توقيتها ضد عائلات الرهائن”.

من هو إيلون بيري؟

لكن القصة تزداد غرابة. فكاتب التقرير الذي نشرته صحيفة “جويش كرونيكل” هو رجل يدعى إيلون بيري، وقد نشر سلسلة من التقارير الصحفية الحصرية في الصحيفة منذ بدء الحرب – بما في ذلك الكشف عن تفاصيل جديدة حول الاغتيالات الأخيرة التي قام بها الجيش الإسرائيلي للقائد العسكري لحماس محمد ضيف (الذي نفت حماس مقتله) ورئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية، في غزة وطهران على التوالي.

تشير السيرة الذاتية لبيري على موقع صحيفة “جويش كرونيكل” على الإنترنت إلى أنه كان جندي كوماندوز في لواء جولاني الإسرائيلي لمدة 28 سنة، وأن لديه 25 سنة من الخبرة الصحفية، وأنه يحاضر عن الشرق الأوسط في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

لوحات إعلانية لزعيمي حماس إسماعيل هنية ومحمد ضيف تحمل عبارة “تمت تصفيته” في تل أبيب، 2 آب/أغسطس 2024.

يدعي موقعه على الإنترنت أنه كان خلال خدمته العسكرية جزءًا من وحدة من المستعربين، أو الجنود الذين يتخفون في زي فلسطينيين، وأنه شارك أيضًا في عملية عنتيبي، وهي الغارة الإسرائيلية على طائرة ركاب اختطفها مقاتلون فلسطينيون وألمان سنة 1976. يدعي بيري أيضًا أنه ألّف كتابين، ويصفه ناشر الكتاب الثاني الذي صدر في نيسان/أبريل من هذه السنة بأنه كان أستاذًا في جامعة تل أبيب لأكثر من 15 سنة.

لكن هذا كله غير صحيح تقريبًا. فقد كشف تحقيق أجراه برنامج “هازينور” على القناة 13 الإسرائيلية في 9 أيلول/سبتمبر أنه لا يوجد أي سجل يثبت أن بيري عمل في جامعة تل أبيب، ولم يشارك في عنتيبي. والأكثر من ذلك أن الصورة المنشورة على موقعه الإلكتروني التي يزعم أنها تظهره متخفيًا في مظاهرة مرتديًا زيًا فلسطينيًا – والتي وصفها بأنها تعود إلى سنة 1992 – التقطت في الواقع في سنة 2015.

وفيما يبدو أنها كانت مقابلة مباغتة، تحدّت مراسلة “هازينور” بيري بشأن كل هذه التناقضات. وتحت الضغط، أنكر بيري أنه كان عميلًا سريًا، على الرغم من ظهور هذا الادعاء أيضًا في كتابه الثاني. ونفى أيضًا أن يكون قد عمل في وحدة مكافحة الإرهاب، قائلًا: “ربما أخطأ الناشر في ذلك”، ونفى أن يكون قد شارك في عنتيبي. وعندما سُئل بيري عن سبب ادعاء موقعه الإلكتروني خلاف ذلك، أجاب بيري: “أنا لا أتصفح موقعي الإلكتروني. لم أتحقق منه”.

لكن الادعاء المتعلق بعملية عنتيبي لم يكن فقط من موقعه الإلكتروني: فقد وجد موقع +972 أنه أيضًا نشر مقالا باسمه في مجلة “سولدجرز أوف لاك” قبل ثلاثة أسابيع، كما تم تضمينه في مقدمة مقابلة أجراها مع مجلة “عامي” اليهودية الأرثوذكسية الأسبوع الماضي.

جنود من وحدة سايريت ماتكال التابعة لجيش الدفاع الإسرائيلي في السيارة التي استخدموها لخداع الأوغنديين خلال غارة عنتيبي، 3 تموز/يوليو 1976.

كانت سيمي سبولتر، الصحفية التقنية في صحيفة “ذا ماركر” الإسرائيلية، متشككة أيضًا بشأن هوية بيري وأجرت بعض التحقيقات. وتدّعي السيرة الذاتية لبيري على موقع “تايمز أوف إسرائيل” على الإنترنت – حيث نشر مقالين في سنة 2021 – أنه كتب تقارير “للعديد من الصحف الوطنية الإسرائيلية وكذلك للإذاعة والتلفزيون” كما قال لصحيفة التلغراف اليهودية البريطانية في سنة 2014 أنه عمل في صحيفة معاريف – وهي كذبة أخرى واضحة.

غردت سبولتر: “شخصيًا، لم أجد أي مقال أو ذكر له في وسائل الإعلام العبرية… لا في معاريف ولا في أي مؤسسة إعلامية [أخرى]. وباستثناء تسع مقالات في [جويش كرونيكل]، جميعها في الأشهر الأخيرة، لا يوجد تاريخ موثق لإيلون بيري كصحفي منذ 25 سنة”.

وقد كشف بيرغمان أيضًا في مقاله الذي نشره لموقع “واي نت” أن تقرير بيري الأخير في صحيفة “جويش كرونيكل” ليس الوحيد الذي يحتوي على أكاذيب، بل أيضًا التقرير الذي سبقه بتاريخ 28 آب/أغسطس بعنوان “السبب الحقيقي لعدم قدرة حماس على تحرير الرهائن المتبقين”.

فقد نقل مرة أخرى عن “مصادر استخباراتية” لم يسمها بزعم أن حماس تحتجز حالياً حوالي 20 رهينة فقط من أصل حوالي 100 رهينة إسرائيلية لا يزالون في غزة – وأن العديد منهم مقيدو الأيدي في محيط السنوار – وأن البقية في حوزة جماعات مسلحة أخرى، مما يؤخر اتفاق الرهائن. لكن ضابطًا في قسم الأسرى والمفقودين في الجيش الإسرائيلي قال لـ”واي نت” إن الجيش يعرف أن مثل هذه الادعاءات “هراء”.

بالنسبة لأولئك المطلعين على تغطية صحيفة “جويش كرونيكل” في السنوات الأخيرة، فإن الكشف عن نشرها تقارير غير دقيقة وذات دوافع سياسية ليس أمرًا مفاجئًا. فبعد الاستحواذ الغامض على الصحيفة في سنة 2020، أصبحت مخرجات الصحيفة ونهجها التحريري – الذي كان يمينيًا بالفعل – أكثر تطرفًا تحت إدارة المحرر جيك واليس سيمونز، الذي كان ضيفًا متكررًا في أكبر البرامج الإخبارية والسياسية في بريطانيا. لكن هذه الاكتشافات تشير إلى شيء أعمق بكثير من مجرد الحزبية المباشرة والقليل من الإهمال.

ولا تزال هناك أسئلة خطيرة حول ما عرفته أو لم تعرفه صحيفة “جويش كرونيكل” عن هوية بيري المزيفة، وكذلك مدى معرفة الصحيفة البريطانية وصحيفة “بيلد” بالأصول المضللة للمعلومات الاستخباراتية التي قدمتها تقاريرهم باعتبارها حقيقة. وحتى لو لم يكونا كذلك، فليس هناك أي عذر للصحيفتين في عدم القيام بعملية التحقق الأساسية قبل النشر. وكانت النتيجة، سواء عن قصد أو عن غير قصد، إهداء نتنياهو الرصاصة الفضية المثالية لمواصلة تفادي الضغط الشعبي والدولي من أجل التوصل إلى اتفاق رهائن ينهي الحرب. وتجدر الإشارة إلى أن كلا من صحيفة جويش كرونيكل وإيلون بيري لم يستجيبا لطلبات 972+ للتعليق.

المصدر: +972