هناك من يستغل التكنولوجيا من السوريين منذ بداية الثورة السورية قبل سبع سنوات لأغراض قتالية بداية من بناء السلاح إلى التجسس وتحديد الأهداف، إلخ، وهناك من يستغلها لحماية المدنيين ومحاولة مساعدتهم للخروج من المعارك بأقل خسائر ممكنة، إلا أن أصوات كل من يستغل التكنولوجيا لأغراض قتالية أو حتى لأغراض إرهابية تعلو على أصوات الآخرين، ولهذا بقيت الصورة محصورة فقط حينما تُذكر أي مساعدة إنسانية للقضية السورية على المساعدات المالية أو المعنوية أو الطبية ونادرًا ما يُذكر “المساعدات التكنولوجية”.
في كل مكان حول العالم هناك مجموعة كبيرة من الأفراد لديهم القدرة على تقديم أفكار إبداعية بخصوص التكنولوجيا وكيفية تطويعها لمساعدة كل الموجودين في المناطق المنكوبة أو مناطق النزاعات، وسوريا واحدة من تلك الأماكن حول العالم الموجود فيها عقول مبتكرة مستعدة أن تبتكر أفكارًا تكنولوجية لتكون واحدة من الوسائل القليلة التي تساعد المدنيين الموجودين داخل سوريا.
ومع قلة وصعوبة الوصول إليهم من داعمي الأفكار ماليًا، وقلة وجود الحلول الخاصة ببناء السلام تجاه المدنيين السوريين كان من الصعب على كل تلك الأفكار أن تطفو على الساحة، وبناءً عليه لم يكن هناك اهتمام بالدعم الرقمي للثورة السورية أو المبدعين السوريين في مجال التكنولوجيا.
كان هناك مبادرات رقمية تمحورت فقط حول مشكلة الأزمة السورية، مثل مبادرة منظمة “Disaster Tech Lab” بتوفير نقاط إنترنت (واي فاي Wifi) على بعض الجزر التي يتكاثر فيها اللاجئون الذين يهاجرون عبر البحر بعد أزمات الغرق التي أودت بحياة الكثير من السوريين العام الماضي، استطاعت تلك المبادرة النجاح بفضل التعاون مع شركة جوجل لتطوير نظام بث مجاني يستوعب حجمًا معينًا من الأجهزة المتصلة بالإنترنت في تلك الجزر.
كما تم إطلاق كثير من المبادرات الرقمية من خلال بعض تطبيقات الهواتف الذكية التي تسهل على اللاجئين حياتهم الجديدة في بلد المهجر أو الملجأ، مثل تطبيقات تساعدهم على إيجاد شخص مستعد لاستقبالهم في منازلهم مثل تطبيق My Refuge لمساعدة اللاجئين على إيجاد مسكن مبدأي لإيوائهم للسكن مع مواطنين محليين على استعداد لمساعدتهم للتكيف مع البلد في أيامهم الأولى فيها، كما توجد مبادرة تطبيق “MedShr” الذي يهدف إلى تبادل المعلومات الطبية والتشخيص بالاشتراك مع الزملاء الأطباء الذين يتعاملون مع اللاجئين من أجل إيجاد الحلول المناسبة لأي أمراض عضوية أو نفسية أصيبوا بها.
مبادرات رقمية بأيد سورية
مبادرة خطوات رقمية
لم تتركز المبادرات الرقمية على الأفكار القادمة من كل من يريد مساعدة اللاجئين من الغرب فحسب، بل بدأ مؤخرًا ظهور مبادرات رقمية سورية تدعم المبتكرين السوريين إن كان لديهم أفكار تساعد على حماية المدنيين داخل سوريا أو مساعدة اللاجئين والمهاجرين السوريين خارجها، منها “مبادرة خطوات رقمية” بالتعاون مع المركز الثقافي البريطاني من خلال منح زمالة تهدف لدعم المنظمات والمبادرات السورية في اكتساب المهارات الرقمية التي يمكن أن تساعد في زيادة التأثير المجتمعي وبناء السلام وحماية المدنيين في الأزمة السورية من خلال دعم كل الأفكار الرقمية المبتكرة.
كما كان هناك مبادرة سورية لمساعدة اللاجئين في ألمانيا، فحاول بعض المبرمجين السوريين بمساعدة شباب من ألمانيا ابتكار ما عُرف بتطبيق “واصل جديد لبرلين” وهو ما يساعد أي لاجئ سوري على التعرف على المدينة التي وصل إليها حديثًا بما يتوافق مع خلفية اللاجئ الثقافية والدينية، فيساعده التطبيق على الوصول إلى أماكن المطاعم التي تبيع الطعام الحلال مثل المطاعم التركية، بالإضافة إلى شرح مفصل لكل ما يحتاجه اللاجئ الواصل حديثًا، مثل الأماكن الحكومية التي سيضطر للتعامل معها وأماكنها وأماكن المستشفيات التي تتعامل مع اللاجئين، بالإضافة إلى شرح مفصل عن كيفية الوصول إلى تلك الأماكن باستخدام المواصلات العامة.
لا يزال الجهاز قيد التطوير من مكتب بسيط في تركيا، إلا أنه استطاع تغيير المشهد المحزن لكارثة إنسانية تعقب كل قذيفة تخرج من طائرة حربية
ولكن ماذا عن مساعدة السوريين في الداخل رقميًا؟ ربما لم يخطر على بال الكثيرين احتياج المدنيين السوريين، خصوصًا الموجودين في مناطق المعارضة منهم، لأي مساعدة رقمية أو احتياج لأجهزة تكنولوجية تساعدهم في حماية أنفسهم من قصف النظام السوري الذي بدأ عام 2012 واشتد عنفه في 2014 و2016، إلا أن هناك من فكر في ذلك من داخل أروقة عمله في وزارة الدفاع الأمريكية، حيث وجد أن بإمكانه مساعدة الآلاف ممن نزحوا من القرى التي تعرضت للقصف من النظام السوري، ومات الكثير منهم وخلفوا الآخرين في فقر مدقع.
ماذا لو كان هناك جهاز يخبر السوريين بالمكان الذي ستستهدفه القذيفة؟
صورة لجهاز الإنذار وهو قيد التطوير بمكتب الفريق في تركيا
ربما لو استطاع السوريون من داخل سوريا معرفة اتجاه والطريق التي تتخذه القذيفة المطلقة من قوات نظام الأسد لاستطاع المدنيين تفادي الكارثة الإنسانية التي يخلفها القصف السوري العنيف، كانت تلك ببساطة فكرة جون جياجر، أمريكي عمل في الشرق الأوسط لحساب وزارة الدفاع الأمريكية، وجد في مجال عمله، كونه يعمل في مجال الذكاء الاصطناعي والقرصنة الإلكترونية، فرصة ذهبية لاستخدام التكنولوجيا لمساعدة المدنيين السوريين، ضحية النظام السوري والتحالفات الأمريكية والروسية لمحاربة داعش، عرف جون جياجر أنه ليس بإمكانه أن يوقف قصف المدنيين، ولكن بإمكانه مساعدتهم ليتجنبوه!
نحن نستخدم كثير من التطبيقات على هواتفنا الذكية الآن بإمكانها تحديد الكثير من المعلومات بناءً على الصوت، مثل برامج التعرف على الموسيقى والأغاني من خلال الاستماع إلى الصوت “Shazam”، من هنا جاءت الفكرة لمطوري “إنذار القذائف”، كان من بينهم الأمريكي جون جياجر الذي وظفته الحكومة الأمريكية عام 2012 حينما كانت بحاجة لمبرمجين من شأنهم نقل الخبرة التكنولوجية إلى قلب الأزمة في سوريا، يقول جون في مقابلة صحافية له إنه حينها لم يكن لديه أدنى فكرة عن الأزمة السورية وأسباب النزاع هناك، إلا أنه وجد نفسه ينتقل إلى إسطنبول ومن ثم أصبح مستشارًا لكل شخص يحاول إعادة “الحياة الطبيعية” في المدن غير الواقعة تحت سيطرة نظام الأسد.
وجد مطورو تطبيق “إنذار القذائف” أن المدنيين السوريين بحاجة إلى كثير من المساعدات داخل سوريا من بينها الدعم التكنولوجي
بعد عامين من العمل كمستشار وجد جون أن أكثر مشكلة واجهت السوريين في الداخل هي القصف، كما رأى أن كل المنظمات غير الربحية انصب همها على مساعدة الضحايا المدنيين بعد القصف ومحاولة تقليل الخسائر بقدر المستطاع طبيًا، إلا أنه فكر في طريقة أخرى لمساعدة المدنيين، وهي إنذارهم قبل حدوث الكارثة من الأساس، حينها وجد جون ذلك من اختصاصه وفي قدرته العمل عليه، استطاع الأخير الوصول إلى صاحب منظمة “Refugee Open Ware” التي تدعم أي مشاريع تكنولوجية من شأنها مساعدة المدنيين السوريين أو اللاجئين في الخارج، ومقابلة صاحب المنظمة ومؤسسها ديف ليفين في تركيا من أجل عرض فكرة تطبيق جهاز إنذار القذائف.
وصل الاثنان إلى مبرمج سوري ادعى اسم “إلياس” لأسباب أمنية لنفسه، أراد الأخير مساعدة المدنيين السوريين لإنذارهم قبل القصف الجوي، إلا أنه أراد الوصول لمن يدعم فكرته ويساعده على تنفيذها، وكان الأمريكيان جون جياجر وديف ليفين على استعداد للمساعدة.
قبل أن يعمل إلياس، المبرمج السوري، معهم، كان قد استطاع أن يكون جزءًا من الثورة السورية من خلال خبرته في تقنية وإدارة أنظمة المعلومات، فاستطاع تعليم النشطاء والثوار كيفية اجتناب اعتراض اتصالاتهم الرقمية من النظام السوري، إلا أن النظام السوري هدده بسجن أهله جميعهم، فاضطر الأخير للعودة إلى تركيا من جديد ليكمل مهمته من هناك، من خلال مساعدته للمجتمع السوري في تركيا على استخدام التكنولوجيا في ثورتهم.
صورة للمبرج السوري للجهاز يحمل لافتة إنذار
على الرغم من عرض جياجر لـ”إلياس” وظيفة للعمل على فكرة تطبيق “إنذار القذائف” براتب ضئيل فإن الأخير قرر المشاركة بكامل وقته لمساعدة المدنيين من أهل بلده، وعلى الرغم من صعوبة الحصول على دعم مادي من المستثمرين، اضطر كل واحد من المطورين استثمار ماله الشخصي في الفكرة بهدف إنقاذ أرواح الضحايا المدنيين داخل سوريا.
في النهاية استطاع الفريق الوصول إلى شبكة من النشطاء الثوريين في الداخل السوري من بينهم فريق الخوذ البيضاء، أو الدفاع المدني السوري، وعملوا على نظام وقاعدة بيانات من شأنها مساعدة جهار إنذار القذائف على التنبؤ بالمكان والطريق الذي تتخذه القذيفة في تلك الحرب الجوية على الضحايا السوريين.
من الصعب أن يقنع أي شخص المستثمرين بالاستثمار في مشروع يهدف في الأساس إلى إنقاذ الأرواح – جون جياجر، واحد من مطوري جهاز إنذار القذائف
من الممكن التعرف على المكان المتوقع أن تضربه القذيفة والوقت المتوقع أن تصل إليه من خلال إدخال بياناتها للتطبيق، حيث عمل فريق التطوير على قاعدة بيانات تتضمن مواصفات الطائرات الحربية، وذلك من خلال ملاحظات كثير من الثوريين والنشطاء في الداخل منهم فريق الدفاع المدني السوري على سبيل المثال، يحتاج التطبيق إنذار المستخدمين عند رؤيتهم لطائرة حربية عبرت مناطق جغرافية معينة ولتكن عدة قرى في أوقات معينة، وعليه يعمل التطبيق على توقع المنطقة التي تستهدفها الطائرة الحربية والوقت المتوقع لوصولها.
ربما لا يتوقع الكثيرون أهمية الدقة والإحكام بالنسبة لتطبيق كهذا، إلا أن مطورينه عرفوا جيدًا أهمية ذلك بالنسبة إليهم، ولهذا تعاونوا مع كثير من الطيارين المنفصلين عن الجيش السوري لمعرفة الطريقة التي يقود بها الطيارون تلك الطائرات الحربية، وبناءً عليه استطاعوا الحصول على معلومات أدق عن السرعة التي يقود بها الطيار وبالتبعية دقة أكثر في تحديد موعد وصول القذيفة.
عرف مبرمجو التطبيق أن كل ثانية يتأخر فيها الجهاز عن التبليغ عن الإنذار تعني وفاة عشرات بل مئات الضحايا المدنيين، ولهذا قضى ثلاثتهم وقتًا طويلًا في مشاهدة مقاطع مصورة لطائرات حربية ترمي القذائف ومحاولة الوصول إلى شهود عيان لها لمعرفة المعلومات التي قد يعطوها لهم عن مواصفات الطائرة وحركتها، ومن الممكن أن يضطرهم الأمر أن يحللوا لساعات طويلة في اليوم طائرة حربية منذ خروجها من القاعدة إلى وصولها للمكان المستهدف للحصول على أدق معلومات عنها تضاف لقاعدة بيانات الجهاز.
خرج الجهاز للنور في العام الماضي في الأول من شهر أغسطس/آب تحديدًا في محافظة إدلب، أكثر المناطق التي استهدفتها قذائف النظام السوري، حاول الجميع الإعلان عن الجهاز على منصات التواصل الاجتماعي وتوزيع الإعلانات الورقية على كل المدنيين هناك، وخلال يوم ونص جاءت كثير من المقاطع المصورة لمطوري التطبيق تشكرهم على إنقاذ حياتهم حيث استخدمه البعض واستطاعوا بالفعل النجاة والخروج من المنازل قبل دقائق من انهيارها على يد طائرات حربية.
لا يزال الجهاز قيد التطوير من مكتب بسيط في تركيا، إلا أنه استطاع تغيير المشهد المحزن لكارثة إنسانية تعقب كل قذيفة تخرج من طائرة حربية، استطاع الفريق الصغير الآن الوصول إلى طائرة بعينها وقاعدة عسكرية بعينها وطيار معين بل وقائد معين من خلال مواصفات الطائرة وصوتها، وهو ما يسعى الفريق الصغير إلى تعزيزه وحماية أكبر عدد من المدنيين ما داموا لن يستطيعوا إيقاف القذيفة.