ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال العشر سنوات التي قضاها كأمين عام للأمم المتحدة، كان كوفي عنان غالبا ما يوصف بالشخصية الهادئة على نحو غير طبيعي. فقد بدا، حتى لأولئك الذين عملوا معه بشكل وثيق، كرجل لا يغضب، ولا يأخذ الأمور على محمل شخصي مطلقا، وهي ميزة انعكست حتى على أسلوبه في الخطاب الذي يستخدم فيه “نحن”، حتى عندما تكون الأمور على المحك. وغالبا ما كانت قدرة عنان على إبراز هذه الشخصية الهادئة، التي تعد بمثابة الوسيط النزيه بين المصالح المتضاربة، تعتبر من أهم نقاط القوة لديه عموما. ومن ناحية أخرى أكثر عمقاً، كانت انطوائيته أحد أبرز نقاط ضعفه.
قبل أن يصبح أمينا عاما للأمم المتحدة سنة 1997، شغل عنان منصب رئيس عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وتولى بناء على ذلك رئاسة التحقيقات حول الإخفاقات الفاضحة لمهام الأمم المتحدة في كل من الصومال ورواندا والبوسنة. لكن، إلى غاية وفاته، يوم السبت الماضي في سويسرا، أصر عنان على إنكار أي مسؤولية تخص شخصه أو المنظمة التي كان يترأسها تجاه هذه الخروقات، حتى عند حديثه المتكرر عن حاجة العالم الماسة إلى قيادة مسؤولة أكثر “ورؤساء جيدين وقرارات متزنة”. وقد تطرق عنان إلى ذلك في مقابلة مع “بي بي سي”، في شهر نيسان/ أبريل، خلال ظهور علني له بمناسبة عيد ميلاده الثمانين.
كانت إحدى البرقيات الأربع التي ذكرها عنان تتألف من تقرير مفصل بشكل خطير، عن الاستعدادات للإبادة الجماعية، تم إرساله من قبل قائد القوات في كيغالي، الجنرال الكندي روميو دالير، في كانون الثاني/ يناير من سنة 1994
لقد كانت الصورة الهادئة التي كان يروج لها عنان لا تتعدى كونها مجرد صورة. فلا شك أن الجانب الغاضب من شخصيته الخشنة قد ظهر، على سبيل المثال، في برقية قام بإرسالها سنة 1995، عشية الذكرى الأولى للإبادة الجماعية في رواندا، إلى مسؤول آخر في الأمم المتحدة. وقد كانت سخريته واضحة في الجملة الأولى، حيث كتب: “لقد كانت بعض ملاحظات المدافعين عن حقوق الإنسان أو الصحفيين التي عادة ما تظهر بين الحين والآخر على وسائل الإعلام، إما من قبلهم أو من قبل أشخاص آخرين، قد حذرت بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في رواندا من إبادة جماعية وشيكة”.
من ثم، أضاف عنان قائلا: “لا نتذكر أي تقارير مفصلة تلقيناها من كيغالي في هذا الغرض”. وقد أكدت إعادة النظر في ملفات حفظ السلام أنه لم يتم تلقي سوى أربع برقيات من كيغالي في الأشهر التي سبقت الإبادة الجماعية والتي ذكرت أن “التوترات العرقية قد تكون مرتبطة، أو غير مرتبطة، بحوادث عنف معينة”.
لكن، في الواقع، كانت إحدى البرقيات الأربع التي ذكرها عنان تتألف من تقرير مفصل بشكل خطير، عن الاستعدادات للإبادة الجماعية، تم إرساله من قبل قائد القوات في كيغالي، الجنرال الكندي روميو دالير، في كانون الثاني/ يناير من سنة 1994. وقد علم دالير من مصدر موثوق به بكشوف مرتبات الحزب الحاكم في رواندا، كما كشف له عن خطط “لإشعال فتيل حرب أهلية”، وقتل قوات حفظ السلام البلجيكية من أجل إسقاط بعثة الأمم المتحدة هناك. وقال المصدر نفسه إنه شارك في وضع قوائم بأسماء أفراد مجموعات التوتسي في كيغالي، الذي أكد دالير “أنه يشك في إمكانية أن تتم إبادتهم. وذكر الجنرال الكندي قدرة قواته على قتل ما يصل إلى ألف منهم في عشرين دقيقة”.
عادة عنان في التحدث باسم الأمم المتحدة عند تعرضه لانتقادات، أو حين يلقي اللوم على العالم بأسره لفشل المنظمة، تتناقض بشكل كبير مع رغبته في نسب الفضل لنفسه عندما يكون هناك مديح
عندما طلب دالير الإذن باتخاذ إجراءات بناء على هذه المعلومات ومداهمة مخابئ الأسلحة غير القانونية والاستيلاء عليها، رد مكتب عنان على الفور، في برقية باسمه، ووقعت من قبل نائبه، أخبر فيها دالير بعدم اتخاذ أي إجراءات. وبدلا من ذلك، طُلب منه اتباع البروتوكول الدبلوماسي ومشاركة المعلومات التي بحوزته مع الرئيس الرواندي، رئيس الحزب الذي أراد دالير التحرك ضده. وبعد ثلاثة أشهر، وتحديدا في نيسان/ أبريل سنة 1994، حدث ما وصفه دالير في تحذيره، وخلال مائة يوم تم ذبح حوالي مليون شخص من التوتسي.
في آيار/ مايو سنة 1998، عندما قمت بنشر تقرير عن الفاكس الذي أرسله دالير ورد عنان عليه، رفض هذا الأخير، الذي تمت ترقيته آنذاك إلى منصب الأمين العام، أسئلة الصحفيين بشأن هذه المسألة، قائلا إن “هذه القصة قديمة وقد تم تحريفها”. وقد قال مؤكدا: “لا أشعر بأي ندم”. بعد مرور سنة، وعندما أشار التحقيق الذي أجرته الأمم المتحدة إلى أن السبب وراء عدم رغبة عنان في مشاركة المعلومات الموجودة في فاكس دالير مع مجلس الأمن كان غير مفهوم، ظل عنان هادئا وكأن الأمر لا يهمه. وفي هذا الصدد، قال عنان: “علينا جميعا أن نأسف بشدة لأننا لم نبذل قصار جهدنا لمنع ذلك. لذلك، وبالنيابة عن الأمم المتحدة، أقر بهذا الإخفاق وأعبر عن ندمي الشديد”.
في الحقيقة، كان عنان أول أمين عام يتمتع بسيرة مهنية طويلة في إصلاح بيروقراطية الأمم المتحدة. وقد كتبتُ عنه مقالا سنة 2003، خلال الفترة التي سبقت حرب العراق، حيث تحدثت عن خلفيته وكيف قامت بتشكيل سلوكه وردود أفعاله. وقد كتبت في ذلك الوقت أن “عادة عنان في التحدث باسم الأمم المتحدة عند تعرضه لانتقادات، أو حين يلقي اللوم على العالم بأسره لفشل المنظمة، تتناقض بشكل كبير مع رغبته في نسب الفضل لنفسه عندما يكون هناك مديح”.
فضلا عن ذلك، أوضحتُ أن “هذا يعد رد فعل متأصل بين مسؤولي الأمم المتحدة. فهم غالبا ما يلقون باللوم على الدول الأعضاء في إخفاقات المنظمة، تماماً مثلما تلقي الدول الأعضاء باللوم على الأمم المتحدة. وعلى الدوام، هناك شكاوى عديدة من الطرفين، ولكننا لا يمكن أن نحكم عليها على نحو صحيح وفقا للمعايير ذاتها”.
قاوم عنان، كونه أمينا عاما، الإغراءات التي تدعو إلى تقديم المزيد من الوعود الكاذبة المتعلقة بالحماية، التي لا طالما خرقتها الأمم المتحدة مرارا وتكرارا أثناء توليه منصب الوكيل العام لعمليات حفظ السلام، ولهذا تم الترحيب به كمصلح
بصفته الأمين العام، سعى عنان إلى المطالبة بأن تكون الأمم المتحدة صاحبة القرار الأخير عندما يتعلق الأمر بالشرعية وتطبيق القانون المتعلق بالعلاقات الدولية. ومع ذلك، فإن المفارقة في تلك السلطة هي أنها مستمدة بالكامل من السلطات السيادية التي تريد فرض سيطرتها. ويبدو أن إصرار عنان على أنه لا يجب توجيه اللوم للأمم المتحدة بسبب فشلها، وأنها يجب أن تحصل على ائتمان في حال نجاحها، فشل في حل هذا التناقض.
كما قاوم عنان، كونه أمينا عاما، الإغراءات التي تدعو إلى تقديم المزيد من الوعود الكاذبة المتعلقة بالحماية، التي لا طالما خرقتها الأمم المتحدة مرارا وتكرارا أثناء توليه منصب الوكيل العام لعمليات حفظ السلام، ولهذا تم الترحيب به كمصلح. الجدير بالذكر أن محاولته إعادة صياغة دور الأمم المتحدة لتكون سلطة قانونية دولية عنى تقييد شرعيتها، كي لا تتعدى مجرد ختم بالموافقة على قرارات مجلس الأمن.
خلال الفترة التي سبقت حرب العراق، وصلت التناقضات بخصوص هذا الموقف القانوني ذروتها. ففي الوقت الذي قدمت فيه الولايات المتحدة قضيتها من أجل الإطاحة بصدام حسين عند رفضه الامتثال لقرارات مجلس الأمن السابقة، وقع عنان في مأزق كبير، مما ساعد مجلس الأمن في منح الشرعية لشن حرب على العراق. وقد حدث ذلك على الرغم من أن عنان وأغلب الدول الأعضاء في مجلس الأمم المتحدة اعتقدوا أن هذا القرار غير شرعي.
في آخر مؤتمر صحفي له بصفته أمينا عاما، تحدث بشكل سيء، أو بالأحرى بشكل ساخر، عن إلقاء الجميع باللوم عليه فيما يخص فشل مجلسه
في الواقع، كان عنان آخر شخص يتقلد منصب أمين عام في الأمم المتحدة، يتصدر عناوين الأخبار ويعتبره الجميع شخصية أساسية لحل النزاعات الدولية الرئيسية في عصره. لكن أبرز نقاط ضعفه تمثلت في عدم القدرة على التحكم في مجلسه، بالإضافة إلى تصرفاته الغريبة التي كانت عبارة عن مزيج من التكبر واللامبالاة. لقد كان يظن نفسه قائدا عظيما، لكنه كان غير قادر من الناحية الدستورية على تحمل الأعباء التي ترتبط بالقيادة العظيمة.
ففي آخر مؤتمر صحفي له بصفته أمينا عاما، تحدث بشكل سيء، أو بالأحرى بشكل ساخر، عن إلقاء الجميع باللوم عليه فيما يخص فشل مجلسه. وفي هذا الصدد، أفاد عنان أن “هناك ميل كبير نحو إلقاء اللوم على الأمين العام في كل شيء، خاصة لما حدث في رواندا وسربرنيتسا ودارفور. ألا ينبغي علينا إلقاء اللوم أيضا على الأمين العام في كل ما يحدث في العراق وأفغانستان ولبنان ولومه على التسونامي والزلازل كذلك؟ ربما ينبغي حقا لوم الأمين العام على كل تلك الأمور، وبوسعنا أن نستمتع بذلك إذا أردتم”.
تجدر الإشارة إلى أنه في نيسان/أبريل الماضي، وعندما حضر عنان في مقابلة مع شبكة “بي بي سي”، تم الضغط عليه للمرة الأخيرة للإقرار بأن بعض أفعاله وعملياته على الساحة العالمية كانت لها عواقب وخيمة، لكنه رفض الاعتراف بذلك كما فعل دائمًا. وعندما تم التطرق إلى الضربات الجوية على البوسنة، قال عنان: “إنه من السهل دائما العثور على كبش فداء”. أما بالحديث عن رواندا، فقال: “لقد كنا عاجزين”.
المصدر: نيويوركر