يومًا بعد آخر يفقد النازحون والمهجرون من مدنهم وقراهم الواقعة في أرياف إدلب الجنوبية الشرقية وأرياف حماة الشمالية، الأمل في استرجاع أراضيهم وأملاكهم التي باتت تحت تصرف قوات نظام الأسد والميليشيات المحلية التابعة له والميليشيات الإيرانية.
وبدا واضحًا سعي حكومة نظام الأسد الدؤوب عبر مجلس المحافظة في تنظيم مزادات علنية مع بداية كل موسم زراعي، تهدف إلى إيجاد شرعية وصبغة قانونية لعمليات استثمار واستملاك الأراضي الزراعية السليخ والأراضي الشجرية والعقارات السكنية بعد غياب أصحابها المهجرين والنازحين في مخيمات ومناطق شمال غربي سوريا.
نهب أملاك النازحين
يبدي النازحون والمهجرون مخاوفهم من عمليات الاستثمار للأراضي الزراعية والشجرية التي تبدو أشبه بعمليات استملاك، لأنها تتعرض إلى قطع للأشجار بهدف التحطيب وتدمير للأبنية بهدف استخراج حديد الأسقف، وغيرها من التعديات والانتهاكات التي تطال الأملاك الخاصة والعامة.
ومن بينهم بسام الأطرش، الذي ينحدر من بلدة معرتصين التابعة لناحية كفرنبل في منطقة معرة النعمان جنوب إدلب، حيث خسر وإخوته الثلاث ما يقارب 1000 شجرة زيتون نتيجة تعرضها للقطع والتحطيب من الميليشيات، فضلًا عن هدم وتدمير أملاكهم العقارية (أبنية سكنية).
وقال الأطرش الذي يقيم في منطقة عفرين شمال غرب حلب خلال حديثه لـ”نون بوست” إن كرم الزيتون الذي تعود ملكيته له وإخوته استثمره ضابط في جيش نظام الأسد لمدة سنة واحدة، لكن في العام الثاني انتقل الاستثمار إلى ضابط آخر نتيجة تغير الوحدة العسكرية المسؤولة عن القطاع.
وأضاف: “مع نهاية موسم قطاف الزيتون قام الضابط بقطع الأشجار بشكل كامل بهدف تحطيبها وبيعها، وتحولت الأرض إلى أرض سليخ، كما تعرضت ممتلكاتنا السكنية للهد والتدمير بهدف استخراج الحديد من أسقف البيتون والأبواب”.
وأوضح أن المنطقة مقسمة إلى قطاعات وكل قطاع تديره وحدة عسكرية أو مجموعة من الميليشيات، وتجلب “ورش” من أرياف حماة وغيرها يقومون بالعمليات الزراعية وفك الأسقف “البيتون”، لا سيما المناطق القريبة من خطوط التماس مع غرفة عمليات الفتح المبين، بينما في المناطق الداخلية البعيدة عن خطوط التماس تكثر أعين الطامعين.
وسيطرت قوات نظام الأسد والميليشيات الإيرانية على مناطق معرة النعمان وسراقب وخان شيخون جنوب إدلب ومنطقة مورك وبلدات أخرى في شمال حماه خلال الفترة الممتدة بين عامي 2018 حتى الربع الأول من العام 2020، بدعم جوي من الطيران الروسي.
وعلى وقع المعارك فرّ الأهالي إلى مخيمات الشمال السوري، تاركين خلفهم منازلهم وأملاكهم التي باتت عرضة للنهب والسلب من قادة الميليشيات والضباط وعناصر الأجهزة الأمنية، التي تمنع النازحين العائدين إلى المنطقة من استثمار كامل أراضيهم، أو توكيل أحد ينوب عنهم لإدارة المشروع واستثماره.
وأكد الأطرش، أن مسألة توكيل شخص، لإدارة واستثمار الأرض عوضًا عن صاحبها يكون من الأقارب أو المعارف في المنطقة، صعبًا للغاية لأن معارفه موجودون في المنطقة، لكنهم غير قادرين على استثمار أراضيهم، وفي حال كان لديهم علاقات متنفذة ضمن الأجهزة الأمنية يمكنهم الحصول على أجزاء من المحصول الزراعي.
من جانبها، أوضحت الناشطة المجتمعية نجلاء معمار، أن النازحين والمهجرين في الشمال السوري يعيشون في فقر مدقع، ولا يمكنهم استثمار أراضيهم الزراعية بسبب تسلط قادة الميليشيات واتباع سياسة الاستيلاء على أموال المعارضين لنظام الأسد.
وقالت الناشطة التي تنحدر من معرة النعمان جنوبي إدلب، وتقيم في مخيمات دير حسان، خلال حديثها لـ”نون بوست” إن نظام الأسد صادر أملاكهم من منازل ومحلات تجارية وأراضٍ زراعية بالكامل وهم لا يستطيعون الوصول إليها لأسباب أمنية.
وأضافت أن النظام يؤجر أراضي النازحين بقوة السلاح بعدما ارتكب أعظم الجرائم بحقهم، مستغلًا القانون لتشريع عمليات النهب واستملاك أرزاق المهجرين.
مزاد لاستثمار الأراضي
أعلن مجلس محافظة إدلب التابع لحكومة نظام الأسد في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر/أيلول الجاري، عن تنظيم مزاد علني لاستثمار أشجار الزيتون والعقارات في مناطق معرة النعمان وخان شيخون وسراقب جنوب شرق مركز المحافظة.
وبحسب الإعلان الذي نشرته صفحة “محافظة إدلب” في موقع فيسبوك، يجب على المتقدمين للمزاد دفع تأمينات مسبقة تتراوح بين 40 و80 ألف ليرة سورية ضمن 3 مناطق، إضافة إلى دفع تأمينات نهائية بنسبة 10% من قيمة الإحالة، فضلًا عن دفع قيمة 50% من قيمة المزاد بمجرد الفوز، وفي حال عدم الالتزام في التسديد يعاد طرح العقار في المزاد مباشرة.
وأشار الإعلان إلى أنه يجب على المتقدمين في المزاد مراجعة دائرة العقود في الأمانة العامة لمحافظة إدلب للحصول على الإضبارة الفنية بقيمة 50 ألف ليرة سورية، إضافة إلى عدم إدراج أكثر من منطقة عقارية في الطلب الواحد، بحيث يتضمن الطلب منطقة عقارية واحدة فقط، مؤكدًا أن الاستثمار يقتصر على موسم زراعي واحد.
كما أكد على ضرورة حصول المتقدمين على الموافقة الأمنية، وبيان من مديرية المالية يؤكد عدم منعه من المزاد العلني، وبيان قيد عائلي وحصر إرث يثبت صلة القرابة للمستثمرين من الأقارب من الدرجتين الأولى والثانية.
وتعتبر الموافقة الأمنية من أبرز الشروط، ما يعني أن استثمار الأشجار والعقارات السليخ عبر وكلاء من الأقارب والمعارف سيكون بمثابة الدخول في مزاد علني كباقي المتقدمين رغم أن العقار يعود إلى ملكية الموكل.
وفرضت وزارة العدل في حكومة نظام الأسد خلال تعميمها رقم (30) 2021، عمليات مساومة وابتزاز مادي، كون الكثير من السوريين الغائبين مطلوبين للأفرع الأمنية، ويعني هذا التعميم استحالة إعطاء أقاربهم وذويهم حق استخراج الوكالة لإدارة أموال الغائب.
وسبق أن أعلنت الأمانة العامة في مجلس محافظة إدلب عن تنظيم مزاد علني لأراضي أشجار الفستق الحلبي، في كل المناطق التابعة للمحافظة الواقعة تحت سيطرة نظام الأسد، على أن تكون المزادات وفق أولوية التقدم للمزاد، الأولى للأقارب، والثانية لأبناء المحافظة، والثالثة مزاد عام للأراضي المتبقية.
وخلال تصريحات سابقة لرئيس مجلس محافظة إدلب سائر سلهب، نقلتها صحيفة الوطن الموالية لنظام الأسد: فإن “الأراضي التي تطرح للاستثمار هي أراضي المتوارين عن الأنظار الموجودين في الشمال”، مشترطًا عودة المهجرين إلى مناطقهم بعد تسوية أوضاعهم الأمنية للسماح لهم باستعادة أراضيهم التي وضعت في الاستثمار والمزادات العلنية.
ويستغل نظام الأسد غياب أصحاب الأراضي الزراعية والعقارات من خلال استثمارها وتأجيرها لقادة الميليشيات والمقربين من مجلس المحافظة، حيث يشتكي أهالي المنطقة من تعرض أشجار الفستق الحلبي والزيتون إلى القطع والتحطيب من الميليشيات، إضافة إلى التحكم بأملاكهم وعقاراتهم.
واعتبر المحلل الاقتصادي يونس الكريم، لـ “نون بوست”، أن لا غاية اقتصادية لحكومة نظام الأسد من استثمار الأراضي والعقارات لصالحه، وإنما هي بمثابة عطاءات يمنحها للضباط وقادة الميليشيات والعناصر حتى يحافظوا على وجودهم العسكري في المنطقة.
استغلال القانون
بينما يعيش مئات آلاف المهجرين والنازحين قسريًا من أرياف إدلب الجنوبية والشرقية ظروفًا صعبة في مخيمات مناطق شمال غربي سوريا، يحاول نظام الأسد استغلال غيابهم في مصادرة أملاكهم وعرضها في مزادات علنية بهدف استثمارها تحت ذريعة “المتوارين عن الأنظار”، فضلًا عن وضع شروط وقوانين تحدد إمكانية عودة الملكية أو توكيل أحد الأقارب لإدارتها.
وأوضح الصحفي محمود السويد، أن عناصر النظام والميليشيات منعوا بعض أصحاب الأراضي في بلدة التمانعة جنوب شرق إدلب من قطف محصول الفستق الحلبي قبل أسابيع، كما يحدث مع موسم قطاف الزيتون، لأنهم يفرضون أنفسهم سلطة أمر واقع ولا يستطيع صاحب الأرض استعادة أرضه.
وقال الصحفي المنحدر من مدينة كفرنبل خلال حديثه لـ”نون بوست”: “نظام الأسد يلجأ إلى المزادات العلنية المسننة بالقوانين بهدف تشريع عمليات السلب والاستثمار”، مضيفًا: “المتقدمون للمزادات ممثلون عن شخصيات أمنية وإيرانية والمزاد صوري لا أكثر ويرسى على شخص وضع يده على الأرض في الغالب”.
وأكد أن الميليشيات الإيرانية هي المتحكمة والمسيطرة على مناطق ريف إدلب الجنوبي وشمال حماة، ووجود نظام الأسد شكلي لا أكثر، وما يرفع فوق الأبنية والمقار أعلام إيران ورايات الميليشيات الرديفة كحزب الله اللبناني.
اعتبرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقريرها الصادر في فبراير/شباط 2022، أن إقامة المزادات العلنية لأراضي المشردين قسريًا، أسلوب إضافي من أساليب نظام الأسد بهدف الاستيلاء الواسع والمدروس على ممتلكات المعارضين.
وأكدت أن المزادات العلنية نوع من أنواع العقاب للمهجرين، يهدف إلى تحقيق مكاسب مادية تمكن نظام الأسد من إعادة توزيعها على الأجهزة الأمنية، والميليشيات المحلية كنوع من المكافأة بدلًا من دفع مستحقاتها المالية نقديًا، مشيرةً إلى أن مجلس الشعب يشرع القوانين والمراسيم كي يستند إليها نظام الأسد في سرقة المعارضين.
وأكد فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أن نظام الأسد يستخدم المزاد العلني كتقنية تتضمن محددات ومعايير قانونية، وتلك التقنية تستخدم عندما يصدر حكم قضائي بحق شخص غير قادر على سداد الأموال، ما يدفع الدولة إلى عرض الأرض/الأملاك في المزاد بهدف سد أموال الدائنين وغرامة الدولة، لكن النظام يطبقها بطريقة نهب وسرقة علنية.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “اللجان التي تقوم على المزادات عمادها الأجهزة الأمنية، وأعضاء في الحزب، وشخصيات من المحافظة تستهدف النازحين والمهجرين غير القادرين على الوصول إلى أراضيهم بينما يعود توزيعها على الموالين”.
وأضاف أن “ما يقوم به نظام الأسد فرض سيطرة على أملاك المهجرين غير القادرين عن الدفاع عنها، لكن الحقيقة أنها لا تمر على سلطة قضائية، بمعنى: ما التهمة الموجهة لصاحب الأرض؟ وكيف أثبتت؟ وهي مراحل ضرورية للوصول إلى مرحلة المزاد”.
وأوضح أن تلك المعايير غائبة وغير موجودة كليًا لدى نظام الأسد، ولا يوجد لها أرضية قانونية، وحتى لو وضعها بشكل قانوني فهي تنتهك حقوق الإنسان لأنه يسيطر على الأراضي بالقوة والسلاح ويكون القانون غطاءً يشرعن عملية السطو على الأراضي الزراعية والمحاصيل.
ختامًا.. يستمر نظام الأسد في انتهاك أملاك المهجرين والنازحين من مناطق سيطرته إلى شمالي سوريا، ويعرقل محاولات من يرغب في العودة عبر ضرورة تسوية الأوضاع الأمنية والحصول على الموافقة، محاولًا إيجاد تبريرات قانونية تهدف في نهاية المطاف إلى تشريع عمليات الاستثمار والاستملاك التي تقوم بها الأجهزة الأمنية وأعضاء حزب البعث، والميليشيات الإيرانية.