ما فتئت الجزائر تبحث منذ سنوات عن تعزيز دورها الإقليمي وعلاقاتها مع الشقيقة موريتانيا، الأمر الذي يتنزل في إطاره فتح المعبر الحدودي البري بين الطرفين أمس الأحد، فتح المعبر الجديد جاء بعد تأجيل متكرر نتيجة أسباب متعددة، وجدل كبير رافق فترة إنجازه، حيث يقول العديد من المغاربة إن هذا المعبر موجه لبلادهم قصد التضييق عليها، وهو ما تنفيه السلطات الجزائرية الموريتانية.
الأول بين البلدين منذ استقلالهما
هذا المعبر الحدودي الذي يطلق عليه اسم “تيندوف – شوم” يعتبر الأول بين البلدين منذ استقلالهما عن الاستعمار الفرنسي، وقد حصلت موريتانيا على استقلالها سنة 1960، أما الجزائر فحصلت عليه سنة 1962.
ويربط المعبر بين محافظة تندوف الواقعة جنوب غرب الجزائر وولاية زويرات الواقعة شمال شرق موريتانيا، وهما منطقتان قريبتان من الصحراء الغربية المتنازع عليها بين المغرب وجبهة البوليساريو، ويناهز طول الحدود بين البلدين 460 كيلومترًا، وهي الحدود الأقصر لكل من البلدين الشاسعين.
تأمل الجزائر بأن يتحول المعبر الجديد بديلًا للمعبر الحدودي الكركرات الذي يربط المغرب بعمقه الإفريقي
وكالة الأنباء الجزائرية ذكرت في وقت سابق أن المعبر الحدودي كلف الجزائر قرابة 8 ملايين دولار، موضحة أنه مكون من 49 وحدةً من البناء الجاهز، تضم 46 مكتبًا مخصصًا للقيام بجميع إجراءات الدخول والخروج من الجزائر وموريتانيا، بالإضافة إلى 4 مواقف للسيارات ومرافق مخصصة للراحة.
وفي 8 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وقع البلدان اتفاقًا ينص على إنشاء المركز الحدودي البري على شكل مركزين حدوديين متقابلين على مستوى الشريط الحدودي المشترك بالمنطقة المسماة حاسي 75 العلامة الحدودية 8 وعلى مسافة تتراوح بين 400 إلى 800 متر من خط الحدود عند ولاية تندوف الجزائرية الواقعة في أقصى جنوب غرب البلاد.
الدولة الثانية بعد تونس
باستثناء تونس التي تمتلك معابر حدودية دائمة مع الجزائر، لا توجد معابر بين الجزائر وجيرانها الـ5 الآخرين، وتعتبر موريتانيا الدولة الثانية التي تفتح الجزائر معها معبرًا حدوديًا، إذ لا توجد حدود مغلقة بينهما.
وعكس الحدود الموريتانية – الجزائرية، فالحدود مع المغرب مغلقة منذ عام 1994، وهو قرار اتخذته الجزائر في إطار رد الفعل على فرض المغرب للتأشيرة على الجزائريين بسبب ما قال المغرب إنه تورط من أفراد حاملين للجنسية الجزائرية في اعتداءات إرهابية.
كما أغلقت الجزائر حدودها مع ليبيا عام 2014 بسبب أعمال العنف هناك ولم تقدم بعد على إعادة فتحها، وأغلقت كذلك الحدود مع النيجر للسبب ذاته، ثم قررت عام 2015 إغلاق الحدود مع مالي بعد مقتل عدة سياح في باماكو عاصمة مالي.
الجزائر تبحث عن عمقها الإفريقي
يهدف هذا المعبر إلى “بعث حركية اقتصادية وتجارية جديدة بين البلدين”، حسبما أعلن وزير الداخلية الجزائري نور الدين بدوي، بعد تدشين الموقع بحضور نظيره الموريتاني أحمدو ولد عبد الله، أمس الأحد، كما أنه سيكون بوابة الجزائر نحو غرب إفريقيا وصولاً إلى السنغال وكوت ديفوار.
وتأمل الجزائر بأن يتحول المعبر الجديد بديلًا للمعبر الحدودي الكركرات الذي يربط المغرب بعمقه الإفريقي، حيث تعتزم سلطات البلاد من خلال الطريق الجديد مد جسور التعاون بين الجزائر عبر نواكشوط صوب دول القارة الإفريقية، وهو ما يعبد الطريق لبعث الحياة بالميناء الدولي لوهران الجزائري المفتوح على البحر الأبيض المتوسط.
صورة بالقمر الاصطناعي تحدد مكان المعبر
في هذا الإطار قال عبد الرحيم المنار أسليمي رئيس المركز الأطلسي للدراسات الإستراتيجية والتحليل الأمني لنون بوست: “يهدف المعبر إلى منافسة منطقة الكركرات والطريق الرابط بين المغرب وموريتانيا، وقد تدفع السلطات الجزائرية المسؤولين الموريتانيين بعد شهور من بداية اشتغال معبر الحدود الموريتاني الجزائري إلى افتعال أزمة لعرقلة الممر التجاري بين المغرب وموريتانيا”.
لذلك يمكن القول وفق عبد الرحيم المنار أسليمي: “ما وراء المعبر الجزائري الموريتاني يخفي مشروعًا توسعيًا جزائريًا نحو الشمال الموريتاني، وقد تصل الجزائر عبر أداة البوليساريو إلى السواحل الأطلسية الموريتانية، فالجزائريون ما زالوا يحلمون بالوصول إلى المحيط الأطلسي بكل الطرق وقد يكون معبر تندوف نحو الشمال الشرقي والشمال الموريتاني أول خطوة”.
ويتيح المعبر للجزائر الاستفادة من الثروة البحرية في موريتانيا والتسويق لصادرات منجم “غار جبيلات” للحديد، الذي يعد من أكبر مناجم الحديد في العالم باحتياطي يقدر بـ3.5 مليار طن وهو غير مستغل لحد الآن، لكن الحكومة الجزائرية أعلنت خطوات في اتجاه استغلاله العام 2015 وقدرت قيمة الاستثمارات ما بين 15 إلى 20 مليار دولار.
وتشجع الجزائر – التي تعيش على وقع أزمة اقتصادية بدأت صيف 2014 على إثر تراجع عائدات النفط – شركاتها على التوجه إلى العمق الإفريقي، حيث كسبت منافساتها المغربية تقدمًا كبيرًا هناك، لتنويع اقتصادها “المريض”.
الجزائر تسعى من خلال هذا المعبر إلى توجيه العديد من الرسائل للمغرب بخصوص مسألة الصحراء الغربية
غير أن العديد من المراقبين يقللون من أهمية هذا المعبر في هذا الشأن، ذلك أنه من الصعب حاليًّا أن يأخذ مكان الطريق الذي يعبر الساحل الأطلسي للمغرب ويربط بين أوروبا وإفريقيا عبر المغرب وموريتانيا، فهذا الطريق الذي يمر من طنجة إلى الداخلة على الساحل الأطلسي يتمتع ببنيات تحتية ذات جودة عالية، ويتوفر على مستوى عالٍ من الأمان، ويعبرها يوميًا آلاف الناقلات، سواء للأشخاص أم السلع والبضائع في اتجاه موريتانيا، ومنها إلى باقي دول إفريقيا الغربية، الأمر الذي لا يتوفر في الطريق بين الجزائر وموريتانيا.
وتعرف الحدود الموريتانية الجزائرية في الآونة الأخيرة نشاطًا متزايدًا لعصابات التهريب الدولي يمتد حيز نشاطها من حدودها مع مالي شرقًا وحدودها مع الجزائر شمالًا، وصولًا إلى منطقة الكركرات الحدودية غربًا.
وترتبط الجزائر مع موريتانيا بمجموعة من الاتفاقيات الأمنية، أبرزها معاهدة تأسيس اتحاد المغرب العربي عام 1989، والاتفاقية الأمنية لتشكيل ما يسمى بمجموعة دول الميدان (الجزائر وموريتانيا ومالي والنيجر)، التي مقرها بمدينة تمنراست جنوبي الجزائر في يوليو/تموز 2010.
صراع على النفوذ
تعتبر القارة الإفريقية الساحة الأبرز للصراع الجزائري المغربي، ويتجلى هذا الصراع على مختلف الأصعدة والملفات، وأهمها الأمن والاقتصاد، إذ تمتلك الجزائر ذات المساحة الأكبر في القارة والثروات الأغنى، اليد الطويلة في ملفات النزاع الحدودية، خاصة في رعاية النزاع المالي الأزوادي والنزاع الليبي – الليبي، كما أن المخابرات الجزائرية ذات قوة، ونفوذ واختراق للجماعات المسلحة في منطقة الساحل الإفريقي.
بينما يمتلك المغرب نفوذًا اقتصاديًا كبيرًا في دول القارة، ويركز المغرب على الشراكة مع دول جنوب الصحراء التي تشكل بالنسبة إلى المملكة حافزًا اقتصاديًا مهمًا، وفي هذا السياق وقع العاهل المغربي عشرات الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية مع زعماء الدول التي زارها ضمن جولاته الإفريقية العديدة.
وحمل تطور العلاقات بين المغرب وباقي دول القارة الإفريقية معه تطورًا في حجم المبادلات بينهما، إذ بلغت خلال الفترة الممتدة ما بين 2014 و2016 ما يربو عن 11 مليار دولار، مسجلًا نموًا لافتًا مقارنة مع بداية العقد الحاليّ، وإجمالًا سجل المغرب حضورًا اقتصاديًا في العمق الإفريقي داخل 21 دولة.
يسعى البلدان إلى تعزيز نفوذهما في إفريقيا
تنوعت الاستثمارات المغربية لتشمل الاتصالات والمصارف والتأمين والعقار والبناء والنقل الجوي والمعادن والكهرباء والصحة والصيدلة والتجارة والصناعة والأسمنت، ويستورد المغرب من إفريقيا نحو نصف حاجياته من الغاز وباقي المشتقات النفطية، ويصدر إليها سلعًا صناعية أو نصف مصنعة، مكونة أساسًا من “مصبرات” السمك والأسمدة الطبيعة والكيميائية وما شابه.
ويسعى البلدان للعب دور إستراتيجي في إفريقيا، كبوابة لمشاريع دول أوروبا وأمريكا في القارة السمراء، إذ لا يمكن لكلا البلدين أن تلج دولًا وجهات بإفريقيا أو أن تتحرك بدبلوماسيتها وفاعليها الاقتصاديين والماليين في مناطق هي حكر على فرنسا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية.
ما علاقته بنزاع الصحراء؟
إلى جانب البحث عن مكان لها في إفريقيا، يرى العديد من المغاربة أن الجزائر تسعى من خلال هذا المعبر إلى توجيه العديد من الرسائل للمغرب بخصوص مسألة الصحراء الغربية، في هذا الشأن يقول عبد الرحيم المنار أسليمي رئيس المركز الأطلسي للدراسات الإستراتيجية والتحليل الأمني لنون بوست: “من الصعب جدًا قراءة إنشاء المعبر الحدودي بين الجزائر وموريتانيا خارج سياق التنافس الإقليمي بين الجزائر والمغرب”.
ويضيف أسليمي في حديثه لنون بوست: “الأمر لا يتعلق بحب جزائري في سواد عيون موريتانيا بقدر ما هو رسائل جيوسياسية من الجزائر للمغرب تتجاوز العقل الإستراتيجي الموريتاني، فالسلطات الجزائرية اختارت أولًا وقت فتور في العلاقات المغربية الموريتانية لتقدم على هذه المبادرة وتدفع بها، ولا أعتقد أنه لو كانت العلاقات المغربية الموريتانية جيدة ستقبل موريتانيا بهذا المعبر، خاصة أن المنطقة التي سيلجها عابروا هذا المعبر نحو موريتانيا ظلت منطقة موريتانية مغلقة نظرًا لخطورة الوضع الأمني فيها”.
تعتبر موريتانيا عاملًا أساسيًا في العلاقات المغربية الجزائرية، إذ تسعى إلى حفظ بعض التوازنات التي تعنيها بالأساس
في يوليو/تموز 2017 أعلنت وزارة الدفاع الموريتانية أن حدودها الشمالية مع الجزائر باتت منطقة عسكرية محظورة على المدنيين، داعية المواطنين والعابرين إلى تجنب دخول المنطقة العسكرية، وبررت السلطات الموريتانية ذلك في بلاغها أن هذا الإجراء جاء بعد اتساع حركة المهربين وصعوبة التفريق بين المدنيين والضالعين في شبكات التهريب.
وحددت السلطات الموريتانية المنطقة المعنية بالحظر في المربع الممتد بين “الشكات” في الشمال الشرقي و”عين بنتيلي” في الشمال الغربي، و”ظهر تيشيت” في الجنوب الغربي، و”المرية” في الجنوب، ما يجعل مجموع الشريط الحدودي مع الجزائر منطقة محظورة ومغلقة على المدنيين، وما زال الوضع على حاله إلى الآن.
وأكد رئيس المركز الأطلسي للدراسات الإستراتيجية والتحليل الأمني أن “الجزائر بادرت لإنشاء هذا المعبر كورقة أخيرة تلعبها في ملف الصحراء، وهي ورقة خطيرة على السلطات الموريتانية، لأن الجزائريين باتوا يدفعون منذ 4 سنوات بالعديد من الصحراويين نحو الأراضي الموريتانية في الشمال الشرقي والشمال الموريتاني، الشيء الذي يعني أن الجزائر تفكر في وضع جزء من صحراويي جبهة البوليساريو فوق الأراضي الموريتانية”، على حد تعبيره.
وتابع عبد الرحيم المنار أسليمي: “من يزور الشمال الشرقي الموريتاني والشمال الموريتاني سيلاحظ أن البنية الديموغرافية تتغير، إذ بات أغلب السكان الموجودين أو العابرين من صحراويي مخيمات تندوف، وبذلك فالمشروع الجزائري من المعبر أكبر من مجرد ممر تجاري كما يقدمه الجزائريون وإنما له علاقة بنزاع الصحراء”.
تعتبر موريتانيا عاملًا أساسيًا في العلاقات المغربية الجزائرية، إذ تسعى إلى حفظ بعض التوازنات التي تعنيها بالأساس، أو اللعب على التناقضات المغربية الجزائرية، للحصول على موقع معين في الساحة، حيث تسعى نواكشوط في كثير من الأحيان إلى كسب نقاط على حساب النزاع بين المغرب والجزائر خدمة لمصالحها وفقًا لعدد من المحللين.