قررت الإدارة الأمريكية – بشكل مفاجئ – في 11 سبتمبر/أيلول الجاري، منح مصر المعونة الأمريكية السنوية كاملة دون اقتطاع، والبالغ قيمتها 1.3 مليار دولار، استنادًا إلى ما وصفته بـ”مصلحة الأمن القومي الأمريكي”، وفق البيان الصادر عن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية.
وأثار هذا القرار الذي يعد الأول من نوعه منذ عام 2020 الكثير من التساؤلات حول دوافع إدارة بايدن في منح القاهرة المعونة كاملة دون أي استقطاعات كما كان في السنوات السابقة، في ظل استمرار التحفظات على سجل مصر الحقوقي وعدم حدوث أي اختراق بشأنه، وسط سيناريوهات عدة وقراءات متباينة بشأن تلك الخطوة.
تعد المعونة الأمريكية مبلغًا ثابتًا تتلقاه القاهرة من واشنطن في أعقاب توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، وتبلغ قيمتها 2.1 مليار دولار، منها 815 مليون دولار معونة اقتصادية، و1.3 مليار دولار معونة عسكرية، وبلغ إجمالي ما حصلت عليه مصر من تلك المعونة (تمثل 57% من إجمالي ما تحصل عليه الدولة المصرية من منح ومعونات دولية) منذ توقيع اتفاقية السلام مع الكيان المحتل، نحو 80 مليار دولار.
وخلال السنوات الماضية ربطت الولايات المتحدة جزءًا من تلك المعونة بالوضع الحقوقي في مصر، حيث اقتطعت مبلغًا سنويًا منها بسبب عدم تحقيق النظام المصري لأي إنجازات في هذا الملف الشائك، ليبقى السؤال: ما الذي تغير حتى تتراجع واشنطن عن سياستها وتفرج عن القيمة الكاملة للمعونة السنوية دون أي اقتطاعات؟ وما هي أهداف إدارة بايدن إزاء هذا التحول اللافت تجاه النظام المصري؟
مزاعم واشنطن
يعاني المشهد الحقوقي المصري منذ عام 2013 من انتهاكات خارقة، اعتقالات وأحكام جزافية وتكميم أفواه وغلق صحف وحجب مواقع واستهداف ممنهج للمعارضة وتقويض الأفق السياسي بشكل لم تعرفه مصر حتى في أحلك محطاتها التاريخية، ما زج بها إلى المراتب المتأخرة في الترتيب العالمي لمؤشر الحريات.
ورغم المناشدات، المحلية والإقليمية والدولية، والضغوط الممارسة على نظام عبد الفتاح السيسي لإعادة النظر في هذا الملف، وإفساح المجال نحو متنفس من الحرية ولو ضئيل، فإن الإصرار على المضي قدمًا في هذا المسار كان الرد الوحيد على كل الأصوات العاقلة التي تنادي بتخفيف حجم ومساحة القبضة الأمنية على المشهد، وسط تحذيرات من الوصول إلى لحظة الانفجار التي لا يمكن التراجع بعدها.
وكان نتاجًا لهذا الصلف وغلق وخنق المجال العام – كما تزعم واشنطن – حجب إدارة بايدن جزءًا من المساعدات السنوية المقدمة لمصر، كنوع من العقاب وتعبير عن الامتعاض من هذا التغول على الحقوق والحريات، حيث حجبت 235 مليون دولار في 2023، و130 مليون دولار عام 2022، و130 مليون دولار عام 2021، وسط صيحات وتصريحات وتهديدات تحذر من مزيد من العقوبات حال الإصرار على ممارسة تلك الانتهاكات التي لم تتوقف على مدار أكثر من عقد كامل.
هل من جديد؟
أمام هذا السجل الأسود المشين من الانتهاكات الحقوقية، وغض السلطات الحاكمة في مصر الطرف عن كل التحذيرات الإقليمية والدولية من مغبة هذا المسار، استيقظ الجميع على إعلان الخارجية الأمريكية منح القاهرة المعونة كاملة دون أي اقتطاع، متجاهلة مطالب الكونغرس بحجز ربع المساعدات بسبب مخاوف تتعلق بأوضاع حقوق الإنسان في مصر، في خطوة يُفهم منها قطع القاهرة شوطًا مقبولًا في المسار الحقوقي والتراجع عن سياستها التقليدية التي أقرتها منذ 2013 وحتى الآن.. فهل شهد الشارع المصري أي اختراقات في هذا الملف؟
الواقع يقول إن النظام المصري تعامل مع هذا الملف بنظام “المماطلة والتسويف” وربما “الخداع” نسبيًا، حيث أوهم الجميع باتخاذ بعض الإجراءات التي فسرها البعض شكليًا على أنها تعديل للمسار، على رأسها “جلسات الحوار الوطني” ومخرجاتها بشأن الإفراج عن المعتقلين وفتح المجال أمام الحريات والتعبير عن الرأي، ومنح المعارضة متنفسًا للعمل وممارسة نشاطها السياسي.
وعلى مدار أكثر من عامين على انطلاق الحوار الوطني الذي شهد قرابة 44 جلسة، جاءت النتائج مخيبة للآمال، فلا انفراجة في الأفق، ولا متنفس للحريات، ولا فتح المجال أمام المعارضة، فيما اكتفى الأمر بالإفراج عن بعض الأسماء المنتقاة بدقة من المحبوسين (بعضهم محسوب على النظام مثل رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى والبلطجي صبري نخنوخ)، متجاوزة تلك القابعة في السجون منذ سنوات بسبب آرائها ومواقفها السياسية، في خطوة وصفها البعض بـ”الشكلية” التي حاول من خلالها النظام الإيهام بإطلاق سراح المسجونين فيما تتنافى حقيقة الأمر مع ما تم الترويج له.
اللافت هنا حالة التزامن بين قرار واشنطن منح القاهرة المعونة بأكملها مع مناقشة مجلس النواب (البرلمان) مشروع تعديل قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950، والذي يواجه موجة انتقادات عارمة، تتعلق ببعض البنود التي وصفها حقوقيون بـ”الكارثية” وتقوض العدالة وتجز آخر أعشاب الحريات المتآكلة في مصر، الأمر الذي دفع للتساؤل عن الأسباب الحقيقية وراء هذا القرار الأمريكي؟
ما دوافع أمريكا إذًا؟
بات واضحًا أن مسألة ربط إدارة بايدن لجزء من المعونة بملف حقوق الإنسان في مصر، ليست إلا شعارات جوفاء، تحاول من خلالها واشنطن توظيف هذا الملف الشعبوي لتحقيق مكاسب وأهداف تتجاوزه بكثير، ليتحول مع مرور الوقت إلى “أداة ابتزاز” واضحة، لا سيما بعدما فقدت الولايات المتحدة مصداقيتها وسمعتها الحقوقية دوليًا إثر الانتهاكات التي مارستها ضد أبنائها المتظاهرين من المدنيين وطلاب الجامعات الداعمين لغزة والمنددين بالتواطؤ الأمريكي مع دولة الاحتلال في حرب الإبادة التي تُشن على مدار أكثر من 11 شهرًا ضد أطفال ونساء وشيوخ غزة وأسفرت عن استشهاد عشرات آلاف المدنيين العزل.
وكشفت التطورات الأخيرة بشكل جلي أن حقوق الإنسان، سواء في مصر أم غيرها من بلدان العالم الأخرى، في حقيقتها فيلم درامي أنتجته الولايات المتحدة لخدمة مصالحها الخارجية، وعليه يمكن قراءة قرار منح المعونة كاملة للقاهرة رغم الانتهاكات الحقوقية الفجة، في ضوء عدد من الدوافع والمؤشرات التي تحقق في النهاية حزمة من المكاسب للولايات المتحدة بعيدًا شكلًا ومضمونًا عما تتشدق به بشأن البعد الحقوقي والإنساني، وذلك بعدما اعترفت الخارجية الأمريكية ولأول مرة بتغليب أمنها القومي على حقوق الإنسان.
أولًا: مكافأة مصر على الموقف من حرب غزة
القراءة الأولى لهذا القرار تأتي في إطار كونه مكافأة للنظام المصري على موقفه من حرب غزة، والاكتفاء بدور الوسيط، وعدم الاستجابة للأصوات التي تطالبه بالانخراط في تلك المعركة، إما دفاعًا عن أمنه القومي وسيادته التي تجرأت عليها قوات الاحتلال، وإما نصرة لغزة والقضية الفلسطينية التي تتعرض لمخطط إجهاض ووأد وجودي.
ومنذ اليوم الأول لتلك الحرب يحرص النظام المصري وعلى رأسه عبد الفتاح السيسي على الالتزام بالابتعاد بالمساحة الكافية عن دعم المقاومة، وهو ما تجسد في لغة الخطاب المستخدمة والتي تماهت بشكل أو بآخر مع الأهداف الإسرائيلية، فيما تعرض لانتقادات لاذعة من الشارع العربي، وصلت إلى اتهامه بالتواطؤ في حرب التجويع والحصار والإبادة التي يتعرض لها فلسطينيو القطاع، والمساهمة في تجفيف منابع المقاومة، لتتحول القاهرة من حليف مفترض بحكم الجغرافيا والتاريخ، مرورًا بالوسيط المحتمل، إلى شريك إسرائيلي في تلك الحرب، وعليه جاءت المكافأة الأمريكية تقديرًا لهذا الدور الذي مارسته مصر كما رُسم لها.
ثانيًا: الحفاظ على الحليف المصري
بات واضحًا لدى الإدارة الأمريكية أن القاهرة في وضعيتها تلك، وفي ظل النظام الحاكم الحالي، أصبحت حليفًا موثوقًا في إخلاصه وأمانته، وقادرًا على القيام بما هو مطلوب منه مهما كانت الضغوط والتحديات حتى وإن تقاطعت بشكل كبير مع مرتكزات الدولة الدينية والتاريخية والقومية والأخلاقية.
وأيقن سيد البيت الأبيض ورفقاؤه أن الحفاظ على هذا الحليف أمرًا حيويًا للدفاع عن مصالح أمريكا في الشرق الأوسط، ومن ثم كان لا بد من طي صفحات الخلاف بين الدولتين، والتي على رأسها ملف حقوق الإنسان، والذي كانت تتشدق به واشنطن لحجب جزء من المساعدة السنوية المقدمة، وفي ضوء مساعي الحفاظ على هذا الحليف كان لا بد من الإفراج عن المعونة كاملة وتجاهل الشأن الحقوقي وتغييبه عن خريطة تقييم العلاقات البينية.
ثالثًا: امتصاص الغضب المصري وضمان تحييده بما لا يؤثر على المصالح الإسرائيلية
في ظل حالة التوتر التي تخيم على العلاقات المصرية الإسرائيلية في أعقاب انتهاكات جيش الاحتلال بحق السيادة المصرية على الحدود والإصرار على احتلال محور فيلادلفيا رغم التحفظ المصري، والتحرش بين الحين والآخر بالحدود والجنود المصريين، حاولت واشنطن التدخل لامتصاص الغضب المصري وتحييده عن الانجرار نحو الرد على الاستفزازات الإسرائيلية الشعبوية التي يحاول من خلالها بنيامين نتنياهو تحقيق مكاسب سياسية خاصة ولو على حساب العلاقة مع الحليف المصري.
وارتأت واشنطن أن مغازلة القاهرة عبر الورقة الاقتصادية ومنحها المعونة كاملة دون أي استقطاعات قد تكون السلاح الأنجع لتحقيق الأهداف المنشودة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها الدولة المصرية جراء السياسات الاقتصادية والمالية الخاطئة والتي ثبت فشلها بعدما أغرقت البلد بأسره في مستنقع من الديون من الصعب الخروج منه في الوقت الراهن.
في المجمل قد يرى البعض في هذا القرار الأمريكي، بعيدًا عن كونه نسفًا للشعارات الأخلاقية والحقوقية التي تتشدق بها واشنطن، خطوة نحو تحسين العلاقات مع مصر، وطي صفحات الخلاف التي تتسع عامًا تلو الآخر خلال السنوات الماضية، لكن في المقابل هناك من يتخوف من هذا الانقلاب الواضح في السياسة الأمريكية، معتبرًا أن الكرم الأمريكي غير المعتاد في الغالب قد يكون مخدرًا موضعيًا، مؤقتًا أو ممتدًا، يتبعه طعنة مؤلمة وربما غادرة.