لم تكن العلاقات التركية مع أوروبا أو الولايات المتحدة على خط تاريخها ذات معالم واضحة، فسعي تركيا الدائم منذ قيامها لخلق شخصية خاصة بها، تتوافق فيها السمات الأورواسيوية والإرث العثماني مع سمات الدولة الليبرالية الحديثة، كان سببًا في جعلها إحدى القوى المؤثرة في النظام العالمي ومحط لتجاذب القوى الإقليمية والعالمية على اختلافها.
تمثلت محاولات حكام تركيا على اختلاف مرجعياتهم الفكرية والأيديولوجية في خلق هذه الشخصية، فعقب الحرب العالمية الأولى حاول أتاتورك التملص من الشخصية الشرقية والاتجاه نحو الغرب، دون الالتفات للقواعد الشعبية الكبيرة المتمسكة بأصولها الشرقية والدينية، بينما شهدت الألفية تحولاً كبيرًا في تلك السياسات، حيث اتجهت تركيا نحو الشرق الذي مثل لها إرثًا عثمانيًا، دون الانسلاخ من التجربة الأوروبية، وقد تجسدت تلك الصورة لتركيا من خلال سياسات أردوغان الجامعة بين تلك السمات مع التوجه القوي نحو بناء قوة اقتصادية هائلة، مكنتها من أن تكون إحدى القوى المؤثرة في العالم، ومن الصمود حتى الآن في وجه الأزمة الحاليّة المتمثلة بانهيار الليرة.
واجهت تركيا فرض العقوبات من الولايات المتحدة بمزيد من العناد والاندفاع نحو كل من روسيا وإيران وكذلك الصين
وبدأت الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة على خلفيه رفض تركيا تسليم القس الأمريكي أندرو برانسون المعتقل في تركيا بتهمة التعاون مع فتح الله غولن وحزب العمال الكردستاني في التخطيط للانقلاب الأخير، وكانت تركيا قد طالبت الولايات المتحدة بتسليم فتح الله غولن المعروف بخصومته لأردوغان والمتهم الأول بالتخطيط للانقلاب الذي اتخذ من الولايات المتحدة مكانًا للإقامة منذ العام 1999، إلا أن الأخيرة رفضت بحجة نقص الأدلة، ما دفع تركيا لاتخاذ إجراء مماثل وهو رفض تسليم برانسون، فتخطت هذه الأزمة في أهميتها الأبعاد الاقتصادية والسياسية والحدود الجغرافية لتركيا لتمتد للعالم أجمع، محدثة تغييرات غير متوقعة في مسلمات اللعبة السياسية.
حيث واجهت تركيا فرض العقوبات من الولايات المتحدة بمزيد من العناد والاندفاع نحو كل من روسيا وإيران وكذلك الصين، فقطعت تركيا حصار إيران بإعلان شرائها الغاز الإيراني، كما شجعت على الإنتاج المحلي والتصدير والاعتماد على الأسواق الآسيوية في استيراد الإلكترونيات وغيرها، وكل ذلك باستخدام الليرة التركية بدلاً من الدولار.
وساهم عدم انضواء تركيا ضمن الاتحاد الأوروبي، في الابتعاد قليلاً عن قيود العملة الموحدة التي كانت ستحد من حركتها وعدم قدرتها على التبادل التجاري والاقتصادي بمرونة أكبر، فخلق لها حماية من الوقوع في دوامة السياسات الأمريكية المتسمة حاليًّا بالطابع الشعبوي (أمريكا أولاً).
ويتجاوز بعض المحللين مسألة العداء بين تركيا والولايات المتحدة لتلك الأسباب، إلى رغبة أمريكا الحقيقية في تضييق الخناق على التنين الصيني الصاعد بقوة والمهدد لأمريكا كقوى وحيدة وعظمى منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، عن طريق خلق أزمات اقتصادية لحلفاء الصين الإستراتيجيين أو من تربطهم بها علاقة اقتصاد قوية كتركيا، فسياسات ترامب المتطرفة وعداواته المستحدثة مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين ساهمت بشكل كبير في تقريب المسافات بين أوروبا ممثلة بألمانيا ووروسيا والصين، (في محاولة لكبح جماح تهور سياسات البيت الأبيض).
سيلعب كسر احتكار الدولار على التبادل التجاري والاقتصادي العالمي، إلى إضعاف الاقتصاد الأمريكي وتراجع الهيمنة الأمريكية على العالم
غير أن البعض الآخر يجد في سياسات تركيا عجزًا في قراءة الواقع بشكل سليم، فتركيا تعاني من أزمة حقيقة، وهي في حقيقة الأمر لن تكون قادرة على مواجهة الولايات المتحدة التي تفرض سيطرتها على المحيط الإقليمي لتركيا، وتوجد توقعات بعدم استطاعة الليرة التعافي التام والعودة إلى قوتها السابقة حتى في حال انتهاء هذه الأزمة.
وفي حال استطاعت تركيا تخطي هذه الأزمة دون اللجوء للحلول السياسية، (وهو أمر مستبعد إلى حدا ما) فإن ذلك سيعود بنتائج سلبية على الاقتصاد الأمريكي وهيمنته في المستقبل، حيث سيلعب كسر احتكار الدولار على التبادل التجاري والاقتصادي العالمي، إلى إضعاف الاقتصاد الأمريكي وتراجع الهيمنة الأمريكية على العالم، حيث تتجه تركيا إلى ضخ المزيد من الاستثمارات ودعم القطاعات الاقتصادية في الداخل وفتح السوق أمام المنتجات الصينية والكورية، بالاعتماد على الليرة التركية.
ومن جهة أخرى ولأول مرة في التاريخ بدأت الصين بالتعامل التجاري والاقتصادي بالاستناد إلى العملة الوطنية، متمثلة بشراء النفظ الإيراني باليوان بدلاً عن الدولار.
ويبقى السؤال الأهم عن الخطوات التي سيتخذها الاتحاد الأوروبي في هذه الأزمة، فالترابط الاقتصادي بين تركيا والاتحاد الأوروبي أعاد معضلة الاتحاد إلى الواجهة، فقد اتهم الاتحاد الأوروبي بعدم قدرته على تجنب المشكلات الاقتصادية وعدم قدرته على حلها كما هو الحال مع اليونان، فالأهمية التي تتمتع بها تركيا تفرض الكثير على الأوروبيين في التحرك الجاد لتخفيف حدة هذه الأزمة، فتركيا تمثل البوابة الشرقية لأوروبا، وتمتلك مفاتيح جوهرية تتمثل في مسألة الأمن سواء بتهديد التنظيمات الإرهابية كداعش أم عبء المهاجرين، والأهم كونها الدعم الأكبر لحلف الناتو في مواجهة الأخطار التي تتهدد القارة العجوز.
فهل سيتجه الاتحاد الأوروبي للخروج من العباءة الأمريكية، وتجاوز المخاوف تجاه العدو المتخيل (روسيا) وهو ما يعني توصل الاتحاد الأوروبي مع روسيا إلى تقارب في القضايا الأمنية، الأمر الذي يعني التخفيف من الهيمنة الأمريكية على القرارات والتوجهات في السياسة الخارجية للاتحاد، وأولى هذه الخطوات تتجسد فيما دعا إليه الرئيس الفرنسي ماكرون بشأن إنشاء قوة دفاعية لأوروبا خارج حلف الأطلسي الذي تسيطر أمريكا من خلاله على سياسات الاتحاد الأوروبي الخارجية، أم سيبقى حبيسًا لفكرة السلمية التي تأسس عليها ورهنًا للمخاوف الآتية من الحليف الأول الولايات المتحدة الأمريكية؟