تُسقط الأحداث يوم تلو الآخر الكثير من الأقنعة التي ارتدتها كل من الرياض وأبو ظبي حين أعلنتا أهدافهما الظاهرية من التدخل العسكري في اليمن وانطلاق عاصفة الحزم بمشاركة عدد من الدول العربية والإسلامية قبل 3 سنوات تقريبًا، إذ تفند الممارسات العملية على أرض الواقع ما أُعلن في السابق.
الأشهر الأخيرة على وجه التحديد أماطت اللثام بصورة كبيرة عن مخطط دول التحالف لفرض السيطرة على اليمن، والانتقال من تقاسم النفوذ في المناطق الخارجة عن سيطرة الحوثيين إلى تقاسم الثروات خاصة في المناطق الجنوبية، من أجل إحكام قبضتها على مصادر النفط والغاز وغيرهما من الثروات المعدنية، فبينما تتولى الإمارات عمليات النهب المنظم في محافظتي حضرموت وشبوة، يوكَل أمر محافظة المهرة إلى السعودية.
وثيقة كُشفت مؤخرًا أشارت إلى اعتزام الرياض إنشاء ميناء نفطي في محافظة المهرة جنوب شرقي اليمن، التي توجد فيها قوات سعودية، حيث أظهرت الوثيقة رسالة من شركة للأعمال البحرية إلى السفير السعودي باليمن، تشكره فيها على ثقته بالشركة وطلبه التقدم بعرض فني ومالي لتصميم وتنفيذ ميناء تصدير النفط، بحسب مصادر لـ”الجزيرة“.
أطماع السعودية في المهرة ومحاولة إعادة رسم الخريطة السياسية بها، لا شك أنه سيثير قلق وحفيظة سلطنة عمان التي كثيرًا ما اتهمت الرياض وأبو ظبي بالوقوف خلف الاحتجاجات في هذه المحافظة كنوع من الضغوط الممارسة ضدها
والمهرة تكتسب أهمية إستراتيجية بالغة لليمنيين والسعوديين والعمانيين على حد سواء، إذ تعد ثاني أكبر محافظة يمنية من حيث المساحة بعد حضرموت، ويوجد بها منفذان حدوديان مع عمان هما صرفيت وشحن، وأطول شريط ساحلي باليمن يقدر بـ560 كيلومترًا، وميناء “نشطون” البحري، فضلًا عن أنها كانت بعيدة نسبيًا عن مناطق الصراع بين القوات الشرعية والحوثيين، ما جعلها في مأمن طيلة الفترة الماضية.
غير أنه منذ نهاية العام الماضي ومطلع العام الحاليّ، دفعت السعودية بقوات وتعزيزات عسكرية إلى المهرة تحت شعار محاربة التهريب، إذ منعت حركة الملاحة والصيد في ميناء نشطون على مضيق هرمز، كما حولت مطار الغيضة الدولي إلى ثكنة عسكرية ومنعت الرحلات المدنية من الوصول إليه.
أطماع السعودية في المهرة ومحاولة إعادة رسم الخريطة السياسية بها، لا شك أنه سيثير قلق وحفيظة سلطنة عمان التي كثيرًا ما اتهمت الرياض وأبو ظبي بالوقوف خلف الاحتجاجات في هذه المحافظة كنوع من الضغوط الممارسة ضدها بسبب مواقفها السياسية حيال بعض الملفات، على رأسها الملف اليمني والقطري والتقارب بينها وبين طهران.
اتفاق تحت ضغط
لم يكن وجود السعوديين في المهرة منعًا للتهريب فقط كما اعتقد البعض بداية الأمر، خاصة بعد ما كشفته بعض الممارسات الميدانية للرياض عن نوايا غير طيبة تتنافى تمامًا مع ما أُعلن رسميًا، ما تسبب في تأجيج مشاعر الاحتقان والغضب لدى سكان المحافظة، ومن هنا كانت الاعتصامات والاحتجاجات التي عمت مختلف المناطق.
الضغوط الشعبية هذه نجحت بداية الأمر في إرضاخ السعودية لمطالب المعتصمين الرافضة لهيمنة وسيطرة قوات تتبع المملكة على مواقع سيادية في مدينتهم، ومن هنا كان الاتفاق الذي أبرم يوليو/تموز الماضي بين السلطة المحلية بالمهرة والقوات السعودية الذي جاء فيه الموافقة على معالجة القوة الموجودة في منفذ صرفيت الحدودي مع عُمان واستبدالها بقوة من الأمن العام، مع ممارسة السلطة المحلية بالمهرة السيادة على منافذها البرية والبحرية والجوية، وعدم السماح لأي قوة لا تخضع لها بالتدخل في الشؤون الداخلية للمحافظة.
الكثير من الشكوك أحاطت بنوايا الرياض خلال إبرام الاتفاق مع سكان المهرة، وهو ما يفسر تعاملها باستخفاف بداية الأمر مع الاحتجاجات من جانب وانقلابها سريعًا على بنود الاتفاق والالتفاف عليه من جانب آخر
كذلك شمل الاتفاق وضع آلية لاستيراد البضائع والسلع بالمنافذ الجمركية بمنع دخولها كونها تدخل ضمن المجهود الحربي، بخلاف إعادة فتح مطار الغيضة الدولي للطيران المدني، وأن تكون جميع مكونات المطار تحت إشراف وإدارة هيئة الطيران المدني، وتكون البوابات الرئيسية للمطار تحت حراسة الأمن العام (الأمن المركزي)، ما عدا البوابة الشرقية التي ستكون تحت إشراف قوات التحالف بقيادة السعودية والشرطة الجوية.
وعقب الاتفاق علق المعتصمون اعتصامهم لمدة شهرين، بحسب تفاهم بينهم وبين السلطة المحلية في المحافظة، وحذروا من أنهم سيعودون إلى الاعتصام حال عدم تنفيذ المطالب، غير أن ما اتُفق عليه لم يدم كثيرًا إثر حزمة القرارات التي اتخذها الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي التي أقال بموجبها مسؤولين في المهرة ناصروا مطالب المعتصمين، أبرزهم علي سالم الحريزي الذي عين بدلًا عنه مسلم سالم بن حزحيز زعبنوت وكيلًا لمحافظة المهرة لشؤون الصحراء.
المعتصمون اعتبروا هذه القرارات انتقامًا من رموز المعارضة لديهم ومحاولة لتقييد حركتهم مستقبلًا، وهي رسالة يبدو أنها وصلت إلى المُنظِّمين الذين تحدثت أوساطهم عن حالة حذر وترقب لما سيعقب خطوة الإقالة هذه، معتبرين ما حدث محاولة سعودية لتجريدهم من أذرع القوة التي يتسلحون بها، تحسبًا لأي خطوات مستقبلية قد يقدمون عليها، في حال تملّص “التحالف” من التزاماته حيالهم.
رضخت الرياض للضغوط الشعبية لسكان المهرة وأبرمت اتفاقًا تراجعت عنه بعد ذلك
السعودية تتملص
إنهاء أهالي المهرة اعتصامهم على ضوء قرارات هادي كان المبرر الذي دفع المملكة إلى التخلي عن الاتفاق المبرم سلفًا، والتراجع عن تسليم المنافذ والمطارات لقوات الأمن اليمنية حسب ما هو منصوص عليه، ما يعكس إصرار السعودية على تكريس نفوذ عسكري وأمني مستدامين في هذه المحافظة على وجه التحديد.
الكثير من الشكوك أحاطت بنوايا الرياض خلال إبرام الاتفاق مع سكان المهرة، وهو ما يفسر تعاملها باستخفاف بداية الأمر مع الاحتجاجات من جانب وانقلابها سريعًا على بنود الاتفاق والالتفاف عليه من جانب آخر، فالمملكة تحركها مطامع الوصول إلى بحر العرب وتفادي التحديات الإيرانية التي تأتي من سيطرتها على مضيق هرمز، خاصة في ظل تقارير إعلامية رسمية باتت تتحدث عن القناة المائية التي تربط الخليج ببحر العرب عبر المهرة.
مؤخرًا عقد في المحافظة الجنوبية اليمنية اجتماعًا برئاسة المحافظ راجح باكريت وبعض مسؤوليه وبحضور قيادات سعودية، من أجل مناقشة إعداد خطة أمنية لحماية المحافظة بالتعاون بين القوات المحلية اليمنية والقوات السعودية وفق خطة زمنية محددة، وهو ما أكد الشكوك السابقة بأن هناك رغبة سعودية في البقاء بالمحافظة لفترة طويلة عكس ما كان يتردد على منصات الإعلام في الرياض وأبو ظبي.
المعارضون للتدخل الأجنبي في اليمن يعتبرون الوجود السعودي في المهرة أشبه بالاحتلال، فمطار الغيضة تحول إلى ما يشبه الثكنة، فضلًا عن إقامة القوات السعودية نقاط تفتيش في المحافظة منذ نهاية العام الماضي، وسيطرتها بسرعة على مفاصل المحافظة، فيما يشير محللون إلى أن نكوص الرياض عن تعهداتها سيوسع الهوة مع سكان المهرة، وقد يفتح باب التصعيد الشعبي ضد الوجود العسكري السعودي.
جدير بالذكر أن طموح السعودية في مد نفوذها على الجزء الشرقي لليمن وبالذات المحافظات التي تحيط بها، يأتي من باب ضمان أمان حدودها وأمنها القومي، وإثبات وجودها وفرض سيطرتها وتثبيت قدمها على الأرض كما صنعت الإمارات في الجنوب، وهو ما يعني من جانب آخر تهديدًا لسلطنة عمان التي طالما وجهت اتهامات لجارتيها بالتحرش بها طيلة العقود الماضية، ما قد ينعكس على العلاقات بينهما خلال المرحلة المقبلة.
استمرار الرياض في استخدام القوة الناعمة بشكل أكبر، متمثلة في المعونات الإنسانية والمشاريع الخيرية والخدمات المجتمعية لتحسين صورتها لدى أبناء المدينة، بما يمكنها من تحقيق تقدم مطلوب لها في تلك المحافظة المهمة
ماذا عن العلاقات مع عمان؟
بينما تتخذ السعودية من ذريعة “مكافحة التهريب من عمان إلى المهرة” ستارًا لفرض وجودها العسكري في المحافظة، فإنه في الوقت ذاته يعد استفزازًا لمسقط ونوعًا من تصعيد الضغوط عليها خاصة فيما يتعلق بموقفها من أزمتي اليمن والأزمة الخليجية، بخلاف تقاربها المعلوم من طهران.
إستراتيجيات السعودية لاستمالة أهالي المهرة أثارت قلق العمانيين بصورة كبيرة، وأحدثت حالة من الجدل داخل المحافظة الحدودية مع السلطنة، لا سيما أنها تنضح في المقابل في مكانة عمان لدى سكان المهرة الذين يدينون بالجميل للسلطات العمانية وما تقدمه من خدمات ومساعدات لهم طيلة العقود الماضية.
حزمة من القوى الناعمة استخدمتها الرياض لسحب البساط من تحت أقدام مسقط في المهرة، منها إقامة مراكز دينية سلفية واستمالة بعض مشايخ القبائل هناك ومنح بعضهم الجنسية السعودية، وتقديم الدعم المادي والعيني لأبناء المدينة، بخلاف الدور الذي يقوم به مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، بهدف استمالة ذوي الحاجة من أبناء المحافظة عبر توزيع مساعدات عينية عليهم من حين إلى آخر.
الإجراءات السابقة كانت كفيلة بفتح الباب على مصراعيه أمام عسكرة المحافظة، عبر ضخ المزيد من القوات السعودية للإقامة بها بصورة شبه دائمة، في سيناريو مكرر للتجربة العدنية التي تعاني من تكاثر التشكيلات المسلحة متضاربة الأهداف والمصالح، ما أودى باليمنيين إلى ما هم فيه الآن.
التقارب بين مسقط وطهران أبرز نقاط الخلاف مع الرياض
المقربون من المطبخ السياسي في المهرة يتوقعون استمرار الرياض في استخدام القوة الناعمة بشكل أكبر، متمثلة في المعونات الإنسانية والمشاريع الخيرية والخدمات المجتمعية لتحسين صورتها لدى أبناء المدينة، بما يمكنها من تحقيق تقدم مطلوب لها في تلك المحافظة المهمة وتقويض الطموح العماني الذي ينظر إلى المهرة كجزء منه خارج حدوده.
تشهد العلاقات السعودية العمانية في السنوات الأخيرة حالة من التوتر جراء تباين وجهات النظر حيال بعض الملفات، فلم تنجرف مسقط وراء الرياض كما فعلت أبو ظبي والمنامة، إذ تمسكت بموقفها المحايد الواقف على مسافة واحدة من كل أطراف الصراعات التي تدخلها السعودية بخلاف علاقاتها القوية مع إيران، ما طرح مسألة إخراجها من مجلس التعاون الخليجي على موائد النقاش أكثر من مرة.
ولعل موقفها من الأزمة القطرية الأخيرة الذي اتسم بالحياد ومحاولة تقريب وجهتي النظر بين الطرفين، فضلًا عن رفضها المشاركة في التدخل العسكري في اليمن، كانا الأبرز في بورصة التصعيد السعودي ضدها، ما يفسر التحرشات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تمارسها المملكة ضدها بين الحين والآخر، وهو ما انعكس بصورة كبيرة على العلاقات بين البلدين التي تعاني من الفتور وإن لم يظهر ذلك بصورة علنية لحسابات أخرى.
لم تقتصر الضغوط الخليجية الممارسة ضد مسقط بسبب مواقفها السياسية على السعودية فحسب، بل كان لأبو ظبي دور بارز في تلك الاستفزازات أيضًا، بصورة دفعتها إلى الخروج عن صمتها والتهديد بالرد حال مواصلة تلك الاستفزازت، وهو ما جعل مسقط أسيرة تهديدات دائمة من جارتيها الطامعتين في إعادة تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة بما يتماشى مع أهوائهما وأطماعهما.