قد يكون عيد الأضحى إعادةَ تمثيل لقصة النبي إبراهيم، الذي كان مستعدًا للتضحية بابنه استسلامًا لأمر الله، لكنه يحمل في جوهره ما هو أبعد من بُعده الدينيّ والإيمانيّ هذا. فحسب ما هو متوارث، فإنّ ثلث الأضحية هو للعائلة، وثلثٌ للأصدقاء والأقارب، والثلث الأخير للفقراء والمحتاجين، ما يعني أنّ ثمّة بعدًا اجتماعيًا وتكافليًا خالصًا يرتكز عليه العيد بعاداته وقيمه وتقاليده المتوارثة منذ مئات السنين.
لكن في السنوات الأخيرة، أصبح عيد الأضحى، شأنه شأنَ غيره من المناسبات الدينية المختلفة، يحمل أبعادًا اقتصادية ثقيلة، إضافةً إلى أبعاده الدينية والاجتماعية. إذ يتأثر بالعوامل الاقتصادية في الدولة وفي العالم ككلّ، ويؤثّر بها. فلا يمكننا الحديث عن رمضان مثلًا دون الحديث عن السلوكيات الاستهلاكية التي يسلكها المسلمون خلال أيّامه. تمامًا كما لا نستطيع التطرّق لعيد الأضحى بعيدًا عن الوضع الاقتصادي العامّ والخاص وأثره على سعر الأضحية ونسبة الإقبال عليها وغيرها الكثير من النقاط.
أصبحت الأضحية سلعة باهظة الثمن ومجرد علامة تجارية أخرى نستهلكها مع غيرها من السلع بدلًا من كونها رمزًا دينيًّا يهدف للتكافل والترابط الاجتماعيّ
ولا نبالغ إنْ قلنا أنّ شعائرنا الدينية، التي من المفترض أنْ تحتلّ مكانةً خاصة في مجتمعاتنا بطقوسها وعاداتها وعباداتها المتوارثة، قد تحوّلت في السنين الأخيرة إلى عبءٍ اقتصاديّ كبير يثقل كاهل شرائح واسعة من العائلات والأفراد. خاصة في حال نظرنا إلى الارتاع المهوّل في أسعار الأضاحي استغلالًا للدافع الدّيني والاجتماعيّ عند الأفراد، الأمر الذي قد يضعهم في مأزقٍ كبير بين الرغبة بممارسة هذا الطقس الدينيّ\الاجتماعيّ وبين الواقع الاقتصاديّ والماديّ الصعب.
الأضحية: شعيرةٌ دينيّة أم سلوكٌ استهلاكيّ؟
النظر في مظاهر العيد الحديثة وكيفية تحوّلاته من طقس دينيّ\اجتماعيّ إلى جزءٍ لا يتجزأ من المؤسسة الرأسمالية الاستهلاكية التي تفتك بالأفراد وتشوّه جوهر أعيادهم وشعائرهم، يطرح أمامنا العديد من الأسئلة عن علاقة الدين بظاهرة الاستهلاك المتزايد خلال الأعياد أو شهر رمضان أو غيرها من الأوقات المقدّسة عند المسلمين، إضافةً لدور البُعد الدينيّ بتفعيل أو تنشيط السلوك الاستهلاكيّ عند الأفراد.
ويُعتبر سؤال أثر الدين على الاقتصاد ذا تاريخٍ طويل، دون أنْ يُحسم النقاش حوله. لكنّ الباحثين في العقود الأخيرة استطاعوا باستخدام أدوات الاقتصاد الحديث الوصول لبضع افتراضاتٍ فيما يخصّ ذلك السؤال، خاصة حين دراسة الأثر الاقتصاديّ لبعض الشعائر الدينية على الدول والمجتمعات، سواء كان ذلك بشكلٍ سلبيّ أو إيجابيّ.
سجّلت أسعار الأضاحي زيادات كبيرة في معظم الدول العربية
بمعنى آخر؛ فالدين والاقتصاد قد تداخلا منذ زمن طويل. ولو أسقطنا هذه النظرية على الإسلام، لوجدنا أنّ القرآن والأحاديث المروية تحوي الكثير في طيّاتها على الكثير من الآيات والروايات حول الإنفاق والمال والعمل والزكاة والصدقات وما إلى ذلك. وعلى أنّ الأضحية بالفعل تحمل العديد من الفوائد الإيجابية الاقتصادية على الدولة ومجتمعاتها الصغيرة، سواء من خلال حجم التكافل الاجتماعيّ الذي يركّز عليه العيد، أو من خلال الإيجابيات المالية التي تجنيها الدولة نفسها ويجنيها الأفراد ممّن يرتكز عملهم على تربية المواشي وذبحها وبيع لحمها وجلدها وما إلى ذلك، إلّا أنّنا لا يمكننا غضّ النظر عن ما يتعلّق بها من جوانب اقتصادية واستهلاكية سلبية في السنوات الأخيرة.
فلا يكاد يبدأ موسم عيد الأضحى كلّ عامٍ، حتى يبدأ الأفراد بالشكوى حيال ارتفاع الأسعار بشكلٍ عام في البلد تماشيًا مع موسم العيد، وارتفاع سعر الأضحية بشكلٍ خاص، ما يدفعهم إلى العزوف عن الشراء والتضحية، فيما اضطر آخرون إلى الشراء بالتقسيط أو اللجوء لمشاركة عددٍ من الأقارب والأصدقاء من غير القادرين على شراء أضحية كاملة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد سجلت أسعار الخراف في عدد من البلدان العربية زيادات كبيرة، حيث وصل في مصر إلى 250 دولارا بزيادة 14% عن العام الماضي. وسجلت أسعار الأضاحي في السعودية ارتفاعًا ملحوظًا مقارنة بالعام الماضي، حيث تراوح سعر الأضحية بين 1400 و1500 ريال، مقابل 700 و800 ريال للخروف العام الماضي.
أما في الأردن، فقد شهدت أسعار الأضاحي انخفاضًا ملموسًا هذا العام بنسبة 20% عن العام الماضي، إلا أنّ حجم استيراد التجّار من الألبسة والأحذية لموسم العيد قد بلغ ما يقارب 64 مليون دولار. أما إنفاق الأسر الخليجية فيزداد في العيد بنسب تتراوح من 50% إلى 80%.
الاستقراض لشراء الأضحية: تناقضٌ يدعمه الفقهاء
يختلف الحُكم الفقهيّ المتعلق بالأضحية باختلاف المذاهب الأربعة. فهي عند الأحناف واجبة على كلّ حرّ مسلم مقتدر، أما عند المذاهب الثلاثة الأخرى فهي سنّة مؤكدة يقوم بها كلّ قادر عليها. ومقارنةً بشعيرة الحج التي يقوم بها المقتدرون ماليًا ومادّيًا في أغلب الأحيان، فالأضحية تبقى موضع جدلٍ وتناقض غريب. فعلى الرغم من أنها ليست بفرضٍ، إلا أنّ نسبةً كبيرة من الأفراد يتعاملون معها على أنها كذلك، ضاربين بعرض الحائط الأوضاع المادية والاقتصادية التي ترتبط بها وتحكمها.
وعلى الرغم من أنّ جوهر الأضحية والعيد يستند إلى بُعده الاجتماعيّ والترابطيّ والتكافليّ، إلا أنّ العديد من الآراء الفقهية التي تخرج بين الفينة والآخرى، تثير جدلًا واسعًا حول الأضحية وحُكمها والهدف من ورائها، ضاربةً بعرض الحائط ذلك الجوهر وروح الأضحية، وخالقةً تناقضًا شاسعًا بين البُعد الديني والبُعد الاجتماعيّ لها.
ولعلّ أكثر تلك الفتاوى المثيرة للجدل هي تلك التي تفتي بجواز الاقتراض والاستدانة لشراء الأضحية، وهو سؤالٌ قديم أفتى به العديد من بينهم ابن باز. وقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة في تداول آراء الفقهاء ورجال الدين وحتى غير المختصّين بالموضوع، خاصة وأنها تمتدّ إلى نقاش جواز الاقتراض\الربا من عدمه، أو جوازه فيما يتعلّق بالشعائر والممارسات الدينية دون غيرها.
فتوى في المغرب تجيز أخذ قرض من البنك لأجل شراء الأضحية
أمّا في المغرب العربيّ، فيعود النقاش كلّ عامٍ إلى الواجهة، مثيرًا جدلًا كبيرًا بين أوساط الشعب من جهة، وأوساط الفقهاء ودارسي الدين من جهةٍ أخرى. فقد صدرت قبل أيام فتوى بجواز الاقتراض من البنك من أجل شراء الأضحية من باب ما سمّته “الضرورة الاجتماعية”، ومشيرةً إلى اختلاف العلماء في حكم الفائدة البنكية ما بين محرّم ومحلّل.
وعلى النقيض منها، فقد ردّ العديد من العلماء ورجال الدين على تلك الفتوى، وصفت إحداها الأمر بكونه سوى “تمييعٌ للدين” يهدف لاستغلال الأزمات لإفراغ ما تبقى من جيوب الفقراء الفارغة أصلًا. أما على المستوى الشعبيّ، فقد أبدى عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي استغرابهم من الفتاوي التي تبيح الاستقراض من أجل اقتناء أضحية العيد في الوقت الذي يواجه فيه عدد من المغاربة أزمة على مستوى السكن ولا يقدرون على الاقتراض من البنوك لأسباب دينية.
الأضحية\الدين إذ يخضع لسيطرة الاستهلاكية
عادةً ما يركّز النقد الإسلامي للنزعة الاستهلاكية على نقطة الخضوع للسلع المادية، على اعتبار أنها أصنام، بدلًا من التركيز على الدين والعبادات والآخرة. وبكلماتٍ أخرى، يرفض الإسلام الاستهلاك ويدعو للترشيد والاقتصاد والاكتفاء بالحاجة التي تعين على الاستمرار والبقاء.
باتت النزعة الاستهلاكية هي الإطار الذي من خلاله نترجم ذواتنا وهويّاتنا بما في ذلك علاقتنا مع الله والدين
لكن وبطريقةٍ أو بأخرى، نجد أنفسنا عالقين في مصفوفة الاستهلاك التي لم تعد تحكم رغباتنا ومجتمعاتنا وحسب، وإنما تحكم الشعائر والمناسبات الدينية التي تختلف عن غيرها من المناسبات حين تتضاعف الأسعار وتنفجر الرغبات الاستهلاكية عند الأفراد، فيندفعون وراء الشراء والامتلاك.
ولهذا، ليس من الغريب أن نقول أنّ تحوّل الأضحية لسلعة استهلاكية بات يشابه تحوّل الكريسماس عند الغرب أيضًا إلى موسمٍ استهلاكيّ تحكمه قوانين التسوّق والامتلاك، الأمر الذي يمكن تصنيفه بظاهرة استهلاك دينية عالمية “تمثّل بديلًا للمعنى الديني”، كما وصفها البروفيسور في جامعة دورهام الإنجليزية “بيت وارد”، الذي يرى أنّ النزعة الاستهلاكية باتت هي الإطار الذي من خلاله نترجم ذواتنا وهويّاتنا بما في ذلك علاقتنا مع الله والدين.
فعندما تصبح الأضحية كسلعة باهظة الثمن بدلًا من رؤيتها كرمز دينيّ يهدف للتكافل والترابط الاجتماعيّ، تصبح مجرد علامة تجارية أخرى نستهلكها مع غيرها من السلع ولا تختلف عنهم، لكنها تكون بغطاءٍ هويّاتيّ إسلاميّ نبحث عنه من خلال فتاوى الشيوخ ورجال الدين الذين قد يجيزون لنا الاقتراض والاستدانة على الرغم من معرفتهم بالظروف الحياتية الصعبة التي يمرّ بها الأفراد، ضاربين بعرض الحائط أساس الدين وجوهره. وقد أكّد عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر على أنّ النزعة الاستهلاكية والظاهرة الدينية هما ظاهرتان متلازمتان. ويكفي أنْ ننظر إلى حجم الاستهلاك والزيادة في شراء مختلف السلع المعروضة في الأسواق، لنعرف ما قصده فيبر وعناه قبل أكثر من قرن.