ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد مرور ما يقارب سنة على أول إبادة جماعية يتم بثها على الهواء مباشرة في العالم – والتي بدأت في غزة وتمتد بسرعة إلى الضفة الغربية المحتلة – لا تزال وسائل الإعلام الغربية الرسمية تتجنب استخدام مصطلح “الإبادة الجماعية” لوصف السُّعار الإسرائيلي المدمّر.
كلما ازدادت الإبادة الجماعية سوءًا، طال أمد الحصار الإسرائيلي والتجويع للقطاع وازدادت صعوبة التعتيم على هذه الفظائع وقلّت التغطية التي تحظى بها غزة.
كانت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” أسوأ الجناة نظراً لأنها هيئة البث البريطانية الوحيدة الممولة من القطاع العام. وفي نهاية المطاف، من المفترض أن تكون مسؤولة أمام الجمهور البريطاني الذي يُلزمه القانون بدفع رسوم ترخيصها. لهذا السبب، كان من المثير للسخرية أن نرى وسائل الإعلام المملوكة للمليارديرات تبالغ في الأيام الأخيرة في الحديث عن “تحيّز البي بي سي”، ليس ضد الفلسطينيين بل ضد إسرائيل. نعم، لقد سمعتم ذلك بشكل صحيح.
نحن نتحدث عن البي بي سي “المعادية لإسرائيل” التي نشرت مؤخرًا عنوانًا آخر – هذه المرة بعد أن أطلق قناص إسرائيلي النار على رأس مواطنة أمريكية – ونجحت بطريقة ما مجددًا في عدم الإشارة إلى هويّة من قتلها. وأي قارئ عادي قد يستنتج من العنوان الرئيسي “مقتل ناشطة أمريكية بالرصاص في الضفة الغربية المحتلة” أن الجاني هو مسلّح فلسطيني. ففي نهاية المطاف تمثّل حماس الفلسطينيين وليس إسرائيل، وهي جماعة “مصنفة منظمةً إرهابية” من قبل الحكومة البريطانية، وذلك حسب ما تذكّرنا به البي بي سي باستمرار.
كما أن هيئة الإذاعة البريطانية، التي يُفترض أنها “معادية لإسرائيل”، هي التي سعت الأسبوع الماضي إلى إحباط جهود 15 وكالة إغاثة تعرف باسم لجنة الطوارئ في حالات الكوارث (DEC) لإدارة حملة كبيرة لجمع التبرعات من خلال هيئات البث في البلاد.
لا يختلف إثنان على سبب عدم رغبة هيئة الإذاعة البريطانية في المشاركة في هذا الأمر. فقد اختارت لجنة الطوارئ الإنمائية غزة كمستفيد من حملتها الأخيرة للمساعدات. وواجهت اللجنة نفس المشكلة مع هيئة الإذاعة البريطانية في سنة 2009، عندما رفضت الهيئة المشاركة في حملة لجمع التبرعات لغزة بحجة استثنائية مفادها أن ذلك من شأنه أن يمس بقواعدها بشأن “الحياد”. ومن المفترض، في نظر هيئة الإذاعة البريطانية، أن إنقاذ حياة الأطفال الفلسطينيين يكشف عن تحيز لا يظهر عند إنقاذ حياة الأطفال الأوكرانيين.
في هجوم سنة 2009، قتلت إسرائيل “فقط” 1300 فلسطيني أو نحو ذلك في غزة، وليس عشرات الآلاف – أو ربما مئات الآلاف، لا أحد يعرف حقًا – الذين قتلتهم هذه المرة. ومن المعروف أن السياسي العمالي الراحل المستقل توني بن، الذي كان من ذوي التوجهات المستقلة، خرج عن صمته وتحدى الحظر الذي فرضته هيئة الإذاعة البريطانية على لجنة الطوارئ الخاصة بالكوارث بقراءة تفاصيل كيفية التبرع بالمال على الهواء مباشرة، على الرغم من اعتراضات مقدم البرنامج. وكما قال في ذلك الوقت، وهو ما أصبح أكثر صحة اليوم: “سيموت الناس بسبب قرار هيئة الإذاعة البريطانية”.
ووفقًا لمصادر داخل اللجنة وهيئة الإذاعة البريطانية، فإن المديرين التنفيذيين في المؤسسة مرعوبون – كما كانوا في السابق – من “رد الفعل العنيف” من إسرائيل وجماعات الضغط القوية في المملكة المتحدة إذا ما روّجت الهيئة لإغاثة غزة.
وقال متحدث باسم هيئة الإذاعة البريطانية لموقع “ميدل إيست آي” إن حملة جمع التبرعات لم تستوفِ جميع المعايير المحددة للنداء الوطني، على الرغم من أن رأي خبراء لجنة الطوارئ في حالات الكوارث يقول عكس ذلك، لكنه أشار إلى أن إمكانية بث النداء “قيد المراجعة”.
الخوف من الانتقادات
سبب قدرة إسرائيل على تنفيذ إبادة جماعية، وقدرة القادة الغربيين على دعمها بنشاط، هو تحديدًا تلاعب وسائل الإعلام الرسمية بالألفاظ باستمرار – لصالح إسرائيل إلى حد كبير. وعلى هذا النحو، لا يشعر القراء والمشاهدون بأن إسرائيل ترتكب جرائم حرب ممنهجة وجرائم ضد الإنسانية في غزة والضفة الغربية المحتلة، ناهيك عن الإبادة الجماعية. ويُفضّل الصحفيّون تأطير الأحداث على أنها “أزمة إنسانية” لأن هذا يجرّد إسرائيل من مسؤوليتها عن خلق الأزمة. وهم يركّزون على الآثار والمعاناة وليس على السبب: أي إسرائيل.
والأسوأ من ذلك أن هؤلاء الصحفيين أنفسهم يذرون الرمال في أعيننا باستمرار بادعاءات مضادة لا معنى لها للإيحاء بأن إسرائيل هي الضحية في الواقع وليست الجاني. لنأخذ على سبيل المثال “الدراسة” الجديدة حول التحيز المفترض لهيئة الإذاعة البريطانية ضد إسرائيل، والتي يقودها محامٍ بريطاني مقيم في إسرائيل. فقد حذّرت صحيفة “ديلي ميل” بتهويل مزيف خلال عطلة نهاية الأسبوع من أن “هيئة الإذاعة البريطانية أكثر عرضة بـ 14 مرة لاتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية من حماس… وسط دعوات متزايدة للتحقيق”.
لكن عند قراءة النص، فإن المذهل حقًا هو أن هيئة الإذاعة البريطانية ربطت إسرائيل بمصطلح “الإبادة الجماعية” 283 مرة فقط خلال الفترة المحددة التي استمرت أربعة أشهر – في إنتاجها الضخم عبر العديد من القنوات التلفزيونية والإذاعية، وموقعها الإلكتروني، والبودكاست، ومنصات التواصل الاجتماعي المختلفة، التي تخدم عددًا لا يحصى من السكان في الداخل والخارج.
وما لا تذكره صحيفة “ميل” وغيرها من وسائل الإعلام اليمينية المتطرفة هو حقيقة أن أياً من هذه الإشارات لم تكن من تحرير بي بي سي، وأنه حتى الضيوف الفلسطينيون الذين يحاولون استخدام هذه الكلمة في برامجها سرعان ما يتم إسكاتهم. وكانت العديد من هذه الإشارات في تقارير هيئة الإذاعة البريطانية عن القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية التي تحقق مع إسرائيل فيما وصفته أعلى محكمة في العالم في كانون الثاني/يناير بأنه خطر “معقول” بوقوع إبادة جماعية في غزة.
للأسف، بالنسبة لهيئة الإذاعة البريطانية، كان من المستحيل نقل هذه القصة دون ذكر كلمة “إبادة جماعية”، لأنها تقع في صلب القضية القانونية. وما يجب أن يدهشنا أكثر في الواقع هو أن إمبراطورية هيئة الإذاعة البريطانية الإعلامية الممتدة حول العالم لم تذكر الإبادة الجماعية النشطة التي يتواطؤ فيها الغرب بشكل كامل سوى 283 مرة في الأشهر الأربعة التي تلت السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
حملة الترهيب
يعد الحكم التمهيدي للمحكمة الدوليّة بشأن الإبادة الجماعية الإسرائيلية سياقًا حيويًا يجب أن تتضمنه افتتاحية ومتن كل تقرير إعلامي عن غزة. لكنه عادةً ما لا يُذكر، أو يتم إخفاؤه في نهاية التقارير حيث لن يقرأ عنه إلا القليلون.
لم تقدم هيئة الإذاعة البريطانية أي تغطية تذكر لدعوى الإبادة الجماعية التي قدمتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية في كانون الثاني/يناير، والتي وجدت لجنة القضاة أنها “معقولة”. ومن ناحية أخرى، بثت كامل دفاع إسرائيل أمام المحكمة نفسها.
إن الأمر الذي كان من المفترض أن يذهل صحيفة “ميل” وبقية وسائل الإعلام التابعة للمؤسسة الإعلامية بشكل أكبر بكثير هو أن هيئة الإذاعة البريطانية بثت 19 إشارة إلى “الإبادة الجماعية” التي ارتكبتها حماس في نفس فترة الأربعة أشهر. وفكرة أن حماس قادرة على ارتكاب “إبادة جماعية” ضد إسرائيل، أو اليهود، هي فكرة منفصلة عن الواقع مثلها مثل الخيال القائل إنها “قطعت رؤوس الرضع” في 7 تشرين الأول/أكتوبر أو الادعاءات، التي لا تزال تفتقر إلى أي دليل، بأنها ارتكبت “اغتصابًا جماعيًا” في ذلك اليوم.
إن حماس، وهي جماعة مسلحة قومها آلاف المقاتلين، التي يحاصرها حاليًا أحد أقوى الجيوش في العالم في غزة، عاجزةٌ تمامًا عن ارتكاب “إبادة جماعية” في حق الإسرائيليين. وهذا هو السبب، بالطبع، وراء عدم قيام المحكمة الدولية بالتحقيق مع حركة حماس بتهمة الإبادة الجماعية، ولماذا فقط أكثر المدافعين عن إسرائيل تعصبًا هم من يروجون للأخبار الكاذبة التي تدعي أن حماس ترتكب إبادة جماعية أو أن هناك إمكانية لمحاولة القيام بذلك.
لا أحد يأخذ على محمل الجد مزاعم الإبادة الجماعية التي ترتكبها حماس. وكان الدليل على ذلك رد فعل العالم المذهول عندما تمكنت المجموعة من الفرار من معسكر الاعتقال الذي يقع في غزة ليوم واحد في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وتسببت في الكثير من الموت والدمار.
فكرة أن حماس يمكن أن تفعل أي شيء أسوأ من ذلك – أو حتى تكرار الهجوم – هي فكرة وهمية بكل بساطة. وأفضل ما يمكن لحماس أن تفعله هو شن حرب استنزاف ضد الجيش الإسرائيلي من أنفاقها تحت الأرض، وهذا هو بالضبط ما تفعله.
وهنا إحصائية أخرى تستحق الاهتمام من “الدراسة” الأخيرة: خلال نفس الفترة التي استغرقت أربعة أشهر، استخدمت هيئة الإذاعة البريطانية مصطلح “جرائم ضد الإنسانية” 22 مرة لوصف الفظائع التي ارتكبتها حركة حماس في يوم واحد من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، مقارنة بخمس عشرة مرة فقط لوصف الفظائع الأسوأ التي ارتكبتها إسرائيل على مدار السنة الماضية.
الفكر المسموح به
إن التأثير النهائي للضجة الإعلامية الأخيرة هو زيادة الضغوط على هيئة الإذاعة البريطانية لتقديم تنازلات أكبر للأجندة السياسية اليمينية الأنانية التي تتبناها وسائل الإعلام المملوكة للمليارديرات والمصالح التجارية لآلة الحرب التي تمثلها.
تتمثل مهمة هيئة الإذاعة والتلفزيون الحكومية في وضع حدود للفكر المسموح به للجمهور البريطاني – ليس على اليمين، حيث يقع هذا الدور على عاتق صحف مثل “ميل” و”تلغراف” – وإنما على الجانب الآخر من الطيف السياسي، على ما يشار إليه بشكل مضلل باسم “اليسار”. وتتمثل مهمة هيئة الإذاعة البريطانية في تحديد ما هو مقبول من الكلام والأفعال – أي المقبول لدى المؤسسة البريطانية – من قبل أولئك الذين يسعون إلى تحدي سياستها الداخلية والخارجية.
برز زعيما المعارضة اليسارية التقدمية مرتين في الذاكرة الحية: مايكل فوت في أوائل الثمانينيات، وجيريمي كوربين في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وفي كلتا المناسبتين، توحّدت وسائل الإعلام لتشويه سمعتهما. لا ينبغي أن يفاجئ ذلك أحدًا. وجعل هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” كبش فداء – أي إدانتها بأنها “يسارية” – هو شكل من أشكال التلاعب الدائم المصمم لجعل وسائل الإعلام اليمينية المتطرفة في بريطانيا تبدو وسطيّة، وتطبيع حملة دفع البي بي سي نحو اليمين أكثر من أي وقت مضى.
على مدى عقود من الزمان، صاغت وسائل الإعلام المملوكة للمليارديرات في أذهان الجمهور فكرة مفادها أن هيئة الإذاعة البريطانية تحدد الطرف المتطرف من الفكر “اليساري” المزعوم. وكلما أمكن دفع المؤسسة إلى اليمين، واجه اليسار خيارًا غير مرغوب فيه: إما أن يتبع بي بي سي نحو اليمين، أو أن يصبح مكروهًا عالميًا باعتباره اليسار المعتوه، أو اليسار المستيقظ، أو اليسار المتزمت، أو اليسار المتشدد.
تعزيزًا لهذه الحجة التي تحقق ذاتها بنفسها، فإن أي احتجاجات من قبل موظفي هيئة الإذاعة البريطانية يمكن أن يعتبرها الصحفيون الذين يخدمون روبرت مردوخ وغيره من أباطرة الصحافة دليلًا إضافيًا على تحيز المؤسسة اليساري أو الماركسي. في الواقع، نظام الإعلام قائم على التزييف، وهيئة الإذاعة البريطانية هي الوسيلة المثالية لإبقائه على هذا النحو.
الضغط على الزر
ما تقلل هيئة الإذاعة البريطانية وبقية وسائل الإعلام الرئيسية من شأنه، ليس فقط حقائق الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، بل أيضًا نوايا الإبادة الجماعية الواضحة للقادة الإسرائيليين والمجتمع الإسرائيلي الأوسع نطاقًا والمدافعين عنها في المملكة المتحدة وأماكن أخرى.
لا ينبغي أن يكون الأمر مطروحًا للنقاش بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، في حين أن الجميع من رئيس وزرائها إلى أدنى المستويات أخبرونا أن هذه هي نيتهم. وملأت الأمثلة على تصريحات الإبادة الجماعية هذه التي أدلى بها القادة الإسرائيليون صفحات من ملف قضية جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية.
إن هذا ليس سوى مثال واحد فقط: فقد نعت رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الفلسطينيين بـ “العماليق” – في إشارة إلى قصة توراتية معروفة جيدًا لكل تلميذ إسرائيلي، حيث يأمر الله بني إسرائيل بمحو شعب بأكمله، بما في ذلك أطفالهم ومواشيهم، من على وجه الأرض.
سيواجه أي شخص ناشط على وسائل التواصل الاجتماعي مجموعة من التصريحات المماثلة التي تنطوي على إبادة جماعية من مؤيدي إسرائيل المجهولين في الغالب. واكتسب هؤلاء المشجعون للإبادة الجماعية مؤخرًا وجها ــ بل في الواقع وجهين. فقد انتشرت مقاطع فيديو لإسرائيليين اثنين، يذيعان برنامجًا إذاعيًا باللغة الإنجليزية تحت اسم “فتيان يهوديان لطيفان”، حيث يظهر الثنائي وهما يدعوان إلى إبادة كل رجل وامرأة وطفل فلسطيني.
وقال أحد مقدمي هذا البودكاست إن “لا أحد في إسرائيل” يهتم بما إذا كان تفشي شلل الأطفال الناجم عن تدمير إسرائيل لمرافق المياه والصرف الصحي والصحة في غزة سيؤدي إلى قتل الأطفال، مشيرا إلى أن موافقة إسرائيل على حملة التطعيم مدفوعة فقط باحتياجات العلاقات العامة البحتة.
وفي مقطع آخر، يتفق مقدما البودكاست على أن الرهائن الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية يستحقون “الإعدام عن طريق إدخال جسم كبير الحجم في مؤخراتهم”. كما يوضّحان أنهما لن يترددا في الضغط على زر الإبادة الجماعية للقضاء على الشعب الفلسطيني، وقال كلاهما: “أنا أؤيد بشدة هذا القرار”.
يوضحان أيضًا أنهما لن يترددا في الضغط على زر الإبادة الجماعية لمحو الشعب الفلسطيني: “إذا أعطيتني زرًا لمحو غزة ـ لمحو وجود كل كائن حي في غزة ـ فسوف أضغط عليه دون تردد… وأعتقد أن أغلب الإسرائيليين سوف يفعلون ذلك. ولن يتحدثوا عن الأمر كما أفعل أنا، ولن يقولوا “لقد ضغطت على الزر”، ولكنهم سوف يضغطون عليه”.
فساد لا هوادة فيه
من السهل أن نشعر بالانزعاج إزاء مثل هذه التعليقات غير الإنسانية، ولكن الضجة التي أحدثها هذا الثنائي من المرجح أن تنحرف عن نقطة أكثر أهمية: وهي أنهما يمثلان تمامًا الوضع الذي وصل إليه المجتمع الإسرائيلي الآن. فهما ليسا على هامش المجتمع الفاسد ولم يكونا منبوذين بل ينتميان إلى التيار الرئيسي.
إن الدليل لا يتلخص فقط في حقيقة أن الجيش الإسرائيلي يضرب السجناء الفلسطينيين ويعتدي عليهم جنسيًا بشكل منهجي، ويطلق النار على الأطفال الفلسطينيين في غزة في الرأس، ويهلل لتفجير الجامعات والمساجد، ويدنس أجساد الفلسطينيين، ويفرض حصارًا تجويعيًا على غزة، بل يتلخص الدليل أيضًا في الترحيب بكل هذا الفساد المستمر من قِبَل المجتمع الإسرائيلي الأوسع نطاقًا.
وبعد ظهور شريط فيديو لمجموعة من الجنود يعتدون جنسيًا على سجين فلسطيني في معسكر التعذيب الإسرائيلي سدي تيمان، حشد الإسرائيليون صفوفهم. وقد تطلب حجم الإصابات الداخلية التي تعرض لها السجين نقله إلى المستشفى.
في أعقاب ذلك، جلس المعلقون الإسرائيليون ــ “الليبراليون” المتعلمون ــ في استوديوهات التلفزيون يناقشون ما إذا كان ينبغي السماح للجنود باتخاذ قراراتهم الخاصة بشأن ما إذا كانوا سيغتصبون الفلسطينيين أثناء الاحتجاز، أو ما إذا كان ينبغي للدولة أن تنظم مثل هذه الانتهاكات كجزء من برنامج رسمي للتعذيب.
اختار أحد الجنود المتهمين في قضية الاغتصاب الجماعي الكشف عن هويته بعد أن دافع عنه الصحفيون الذين أجروا معه مقابلة. فقد أصبح يُعامل الآن كنجم في البرامج التلفزيونية الإسرائيلية.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن الغالبية العظمى من الإسرائيليين اليهود إما يوافقون على تدمير غزة، أو يريدون المزيد من ذلك. ويريد نحو 70 بالمائة حظر أي تعبير عن التعاطف مع المدنيين في غزة على منصات التواصل الاجتماعي.
لا شيء من هذا جديد حقًا. وكل ما في الأمر أنهم أصبحوا أكثر تفاخرًا بعد هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر. وفي نهاية المطاف، وقعت بعض أعمال العنف الأكثر إثارة للصدمة في ذلك اليوم عندما صادف مقاتلو حماس في طريقهم مهرجان رقص بالقرب من غزة. في المقابل، أصبح السجن الوحشي لـ 2.3 مليون فلسطيني، والحصار المستمر منذ 17 سنة الذي يحرمهم من مقومات الحياة وأي حريات ذات معنى، أمرًا عاديًا جدًا بالنسبة للإسرائيليين لدرجة أن الشباب الإسرائيلي المحب للحرية يمكن أن يقيموا حفلًا صاخبًا بسعادة بالقرب من تلك الكتلة من المعاناة الإنسانية.
وكما قال أحد الصبية اليهوديين الطيبين تعبيرا عن مشاعره تجاه الحياة في إسرائيل: “من الجيد أن تعرف أنك ترقص في حفل موسيقي بينما مئات الآلاف من سكان غزة بلا مأوى، يجلسون في خيمة”. وقاطعه شريكه قائلاً: “إن هذا يجعل الأمر أفضل… فالناس يستمتعون بمعرفة أن [الفلسطينيين في غزة] يعانون”.
“جنود أبطال”
لا تقتصر هذه اللامبالاة الوحشية تجاه تعذيب الآخرين أو حتى الاستمتاع به على الإسرائيليين. فهناك جيش كامل من المؤيدين البارزين لإسرائيل في الغرب الذين يتصرفون بثقة كمدافعين عن أعمال الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل. وما يوحدهم جميعًا هو أيديولوجية الصهيونية اليهودية العنصرية.
في بريطانيا، لم يتحدث الحاخام الأكبر إفرايم ميرفيس ضد المذبحة الجماعية للأطفال الفلسطينيين في غزة، ولم يلتزم الصمت بشأنها. وبدلاً من ذلك، أعطى مباركته لجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل. وفي منتصف كانون الثاني/ يناير الماضي، عندما بدأت جنوب أفريقيا الإعلان عن قضيتها ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية التي وجدت المحكمة الدولية أنها “معقولة”، تحدّث ميرفيس في اجتماع عام، حيث أشار إلى العمليات الإسرائيلية في غزة بأنها “أكثر شيء تميزًا”. كما وصف القوات التي وثقت بوضوح ارتكابها لجرائم حرب بـ “جنودنا الأبطال” – وهو ما يخلط بشكل لا يمكن تفسيره بين تصرفات جيش أجنبي إسرائيلي والجيش البريطاني.
حتى لو تصورنا أنه كان جاهلاً حقًا بجرائم الحرب في غزة قبل ثمانية أشهر، فلا يمكن أن تكون هناك أعذار الآن. مع ذلك، تحدث ميرفيس مرة أخرى الأسبوع الماضي، هذه المرة لتوبيخ الحكومة البريطانية لفرضها حدًا جزئيًا للغاية على مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل بعد أن تلقت نصيحة قانونية تفيد بأن مثل هذه الأسلحة من المرجح أن تستخدمها إسرائيل لارتكاب جرائم حرب.
بعبارة أخرى، دعا ميرفيس علنًا حكومته إلى تجاهل القانون الدولي وتسليح دولة ترتكب جرائم حرب، وفقًا لمحامي الحكومة البريطانية، و”إبادة جماعية معقولة”، وفقًا لمحكمة العدل الدولية. إن هناك مدافعين مثل ميرفيس يتقلدون مناصب مؤثرة في جميع أنحاء الغرب.
في أواخر الشهر الماضي، ظهر نظيره في فرنسا، حاييم كورسيا، على شاشة التلفزيون وحث إسرائيل على “إنهاء المهمة” في غزة، ودعم نتنياهو، الذي يلاحقه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب. ورفض كورسيا إدانة قتل إسرائيل لما لا يقل عن 41 ألف فلسطيني في غزة، بحجة أن هذه الوفيات “ليست من نفس الدرجة” مثل مقتل 1150 إسرائيليًا في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. وكان من الصعب عدم الاستنتاج بأنه كان يقصد أن حياة الفلسطينيين ليست بنفس أهمية حياة الإسرائيليين.
الفاشية الداخلية
قبل ما يقارب 30 سنة، نشر عالم الاجتماع الإسرائيلي دان رابينوفيتش كتابًا بعنوان “إطلالة على نتسيرات“، قال فيه إن إسرائيل مجتمع عنصري أكثر عمقًا مما كان مفهومًا على نطاق واسع. لقد اكتسب عمله أهمية جديدة – وليس فقط بالنسبة للإسرائيليين – منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
في تسعينيات القرن العشرين، كما هو الحال الآن، افترض الغرباء أن إسرائيل منقسمة بين المتدينين والعلمانيين، والتقليديين والحداثيين، وبين المهاجرين الجدد المبتذلين و”المحاربين القدامى” الأكثر استنارة. وكثيرًا ما يرى الإسرائيليون مجتمعهم منقسمًا جغرافيًا أيضًا: بين مجتمعات محيطية تزدهر فيها العنصرية الشعبية، ومركز حضري حول تل أبيب حيث تسود الليبرالية الحساسة المثقفة.
مزق رابينوفيتش هذه الأطروحة إلى أشلاء. فقد اتخذ لدراسة الحالة مدينة نتسيرات عيليت اليهودية أو الناصرة العليا (نوف هجليل حاليًا) في شمال إسرائيل، والتي اشتهرت بسياساتها اليمينية المتطرفة، بما في ذلك دعم الحركة الفاشية للحاخام الراحل مائير كاهانا. وقد نسب رابينوفيتش سياسة المدينة بشكل رئيسي إلى حقيقة أنها بُنيت من قبل الدولة لتكون على رأس الناصرة، أكبر مجتمع فلسطيني في إسرائيل، على وجه التحديد لاحتواء جارتها التاريخية والسيطرة عليها وقمعها.
كانت حجته أن يهود نتسيرات عيليت لم يكونوا أكثر عنصرية من يهود تل أبيب. لقد كانوا ببساطة أكثر تعرضًا للوجود “العربي”. ونظرًا لحقيقة أن قِلة من اليهود اختاروا العيش هناك، فقد كان عددهم أقل بكثير من جيرانهم “العرب”. لقد وضعتهم الدولة في منافسة مباشرة مع الناصرة على الأرض والموارد. وعلى النقيض من ذلك، لم يصادف يهود تل أبيب قط “عربيًا” إلا إذا كان في دور خادم: كنادل أو عامل في موقع بناء.
لكن رابينوفيتش أشار إلى أن الفرق هو أن يهود نتسيرات عيليت كانوا يواجَهون بعنصريتهم الخاصة على أساس يومي. لذا فقد برروا الأمر وأصبحوا متساهلين معه. أما اليهود في تل أبيب فقد كان بإمكانهم التظاهر بأنهم منفتحون لأن تعصبهم لم يُختبر قط بشكل حقيقي.
حسناً، غيّر السابع من تشرين الأول/أكتوبر كل ذلك. فقد وجد “الليبراليون” في تل أبيب أنفسهم فجأة في مواجهة وجود فلسطيني انتقامي غير مرحب به داخل دولتهم. ولم يعد “العربي” ذلك الشخص المظلوم والمستأنس والخاضع الذي اعتادوا عليه. وعلى نحو غير متوقّع، شعر يهود تل أبيب بأن المساحة التي اعتقدوا أنها خاصة بهم فقط تتعرض للغزو، تماماً كما شعر يهود نتسيرات عيليت لعقود من الزمان. واستجابوا بنفس الطريقة تماماً. لقد برروا فاشيتهم الداخلية. وبين عشية وضحاها، أصبحوا مرتاحين مع الإبادة الجماعية.
حزب الإبادة الجماعية
تمتد مشاعر الغزو هذه إلى ما هو أبعد من إسرائيل بطبيعة الحال. لم يكن الهجوم المفاجئ الذي شنته حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر مجرد هجوم على إسرائيل. فهروب مجموعة صغيرة من المقاتلين المسلحين من أحد أكبر السجون وأكثرها تحصينًا على الإطلاق [قطاع غزة المحاصر] كان أيضاً هجوماً مروعاً على شعور النخب الغربية بالرضا عن نفسها ـ اعتقادًا منهم بأن النظام العالمي الذي بنوه بالقوة لإثراء أنفسهم أبديٌ ولا يمكن المساس به.
لكن هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر هزّ ثقتهم في إمكانية احتواء العالم غير الغربي إلى الأبد ومواصلة إجباره على تنفيذ أوامر الغرب والبقاء مستعبداً إلى أجل غير مسمى. ومثل ما حدث مع الإسرائيليين، سرعان ما كشف هجوم حماس النزعة الفاشية بين صفوف النخبة السياسية والإعلامية والدينية في الغرب، التي أمضت حياتها كلها في التظاهر بأنها حارسة لرسالة الحضارة الغربية ـ رسالة مستنيرة وإنسانية وليبرالية. نجحت مساعيهم لأن العالم كان منظمًا على نحو يسمح لهم بالتظاهر بسهولة أمام أنفسهم والآخرين بأنهم يقفون ضد همجية الآخر.
لقد كانت النزعة الاستعمارية الغربية بعيدة عن الأنظار إلى حد كبير، حيث تحولت إلى الشركات الدولية الغربية المستغلة والمدمّرة للبيئة، وشبكة من نحو 800 قاعدة عسكرية أمريكية في الخارج من أجل التحرك في حال تعرضّت أذرع هذه الإمبريالية الاقتصادية الجديدة لأي تحديات.
مزّقت حماس قناع الخداع هذا – سواء عن قصد أو عن غير قصد – في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. وتبدّد الخلاف الأيديولوجي المزعوم بين زعماء الغرب من اليمين و”اليسار” بين عشية وضحاها، ليتبيّن أنهم ينتمون جميعًا إلى نفس حزب الحرب، وأصبحوا جميعًا أتباع حزب الإبادة الجماعية.
طالب الجميع “بحق إسرائيل المزعوم في الدفاع عن نفسها” ـ أو بالأحرى حقها في مواصلة عقود من قمع الشعب الفلسطيني ــ من خلال فرض حصار على إمدادات الغذاء والمياه والطاقة لسكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة. ووافقت كل هذه الدول بنشاط على تسليح إسرائيل لقتل وتشويه عشرات الآلاف من الفلسطينيين. ولم تفعل أي شيء لفرض وقف إطلاق النار باستثناء التشدق بتأييد هذه الفكرة.
يبدو أن كل هذه الدول أكثر استعداداً لخرق القانون الدولي وتجاهل المؤسسات الداعمة له من فرضه على إسرائيل. في المقابل، تدين كل هذه الدول الاحتجاجات الجماهيرية ضد الإبادة الجماعية باعتبارها معاداةً للسامية، بدلاً من إدانة الإبادة الجماعية نفسها.
لقد كان السابع من تشرين الأول/ أكتوبر لحظة فارقة. فقد كشف عن وحشية وهمجية يصعب تقبلها، ولن نقبل بها حتى نواجه حقيقة صعبة: وهي أن مصدر هذا الفساد أقرب إلينا كثيراً مما كنا نتصور.
المصدر: ميدل إيست آي