ظلت طقوس المصريين في العيدين، الفطر والأضحى، علامة مسجلة على مر التاريخ، تميزوا بها عن سائر الشعوب، فكانت ملمحًا جليًا وسمة واضحة يعرفون بها دون غيرهم، بل في كثير من الأحيان ظلت العامل الأكثر جذبًا لعشرات الآلاف من السائحين لقضاء عطلة العيد في أرض الكنانة.
غير أنه من الملاحظ هذا العام، وبينما يحتفل المصريون بعيد الأضحى المبارك، اختفت بعض المظاهر التي كانت حاضرة بقوة خلال الأعوام الماضية، وتراجعت أخرى، فيما جاءت الأوضاع الاقتصادية العامل الأبرز في إعادة تشكيل خريطة الطقوس المصرية في الأعياد، ما انعكس بشكل أو بآخر على استقبال الكثيرين لهذه المناسبة التي كانت المتنفس الوحيد لهم هربًا من الضغوط التي تحاصرهم معظم أيام العام.
وفي المقابل فإن نسبة كبيرة من المصريين سعت لاقتناص الفرصة وتسول الفرحة مهما كانت قتامة الصورة، حتى لو كان الثمن عدم قدرتهم على إحياء الكثير من الطقوس التي اعتادوها لأسباب خارجة عن إرادتهم، في محاولة لإضفاء البهجة والسرور على أفراد الأسرة وجموع العائلة، لتكتظ شوارع مصر وميادينها بموجات قزحية الألوان فرحًا وابتهاجًا بالعيد.
عيد بلا أضاحي
“للأسف لم أوفق هذا العام لشراء أضحية كما الأعوام السابقة، إحساس صعب ومؤلم حقًا، لكن ما بيد الحيلة”، بهذه الكلمات عبر شريف جاد عن حزنه الشديد لعدم نحره لأضحية في هذا العيد، مضيفًا” الأسعار ولعت وسعر الخروف حتى بلاش المواشي تجاوز 6 آلاف جنيه”.
جاد لـ”نون بوست” أكد أنه كل عام كان يشترك وأخوته في أضحية “عجل” كان سعره لا يتجاوز 12 ألف جنيه، إلا أنه هذا العام فوجئ بالسعر يتجاوز حاجز الـ18 ألف جنيه في المتوسط، قائلاً: “مقدرتش أوفر فارق المبلغ، بيتي وأولادي محتاجين الفرق ده وأشقائي كذلك، ما دفعنا للتأجيل هذا العام وإن كان بعضنا عرض فكرة شراء خروف بدلاً من ماشية إلا أن الباقي رفض ذلك”.
لم يختلف حال جاد عن كثير من المصريين، فهاهو محمد دياب (جزار) يؤكد أنه ولأول مرة يلمس تراجع معدلات الأضحية بهذه النسبة الكبيرة، لافتًا في حديثه لـ”نون بوست” أنه خلال السنوات الماضية ومن كثرة عدد المضحين ما كان يستطيع الوفاء بما عليه من التزامات إلى الحد الذي كان يؤخر بعضهم لما بعد الظهيرة بساعات.
ويضيف: “هذا العام لا أدري ماذا حدث؟ ففي قرية تعدادها قرابة 7 آلاف مواطن كان عدد المضحين بها يتجاوز الـ400 فرد مقسمين على 10 جزارين أو أكثر، إلا أن هذا العيد الوضع مختلف” وتابع: “أعلم أن ارتفاع أسعار الأعلاف والسلع عمومًا السبب الأساسي وراء تراجع معدلات الأضاحي قياسًا بالسنوات السابقة”.
الأمر لم يتوقف عند حد الأضاحي التي يتحمل كلفتها المواطن وحده، وربما تكون فوق قدرته على الشراء، إذ ارتفعت أسعار صكوك الأضحية (حصة في الأضحية، واشتراك أكثر من فرد في شراء الصك الواحد، فضلاً عن الاشتراك في أضحية والتبرع بها) حتى التي توفرها مؤسسات العمل الخيري، لعيد الأضحى هذا العام، بنسب تتراوح ما بين 8 و12%، مقارنة بأسعار العام الماضي.
زيادة نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى 27.8%، أي نحو 30 مليون مصري وفق الإحصاءات الرسمية للعام الماضي
وفي جولة سريعة لـ”نون بوست” على بعض الجمعيات الخيرية التي توفر هذه الصكوك تبين أن أسعار صكوك اللحوم المستوردة على سبيل المثال تتراوح ما بين 1800 و2250 جنيهًا للصك، كما تراوح سعر صك الحم البلدي بين 3000 و3300 جنيه للصك، وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى عدم الإقبال عليها بالشكل المعتاد.
هذا ما أكده الدكتور أشرف حمدي، مدير جمعية “رسالة” الخيرية فرع أسيوط (صعيد مصر) الذي أوضح تأثر حجم الصكوك بالأسعار سلبًا هذا العام، مما خفض حجم المشاركة في الصكوك كما رفع أسعار بعضها لتصل إلى ما بين 3500 و3800 جنيه.
يذكر أن سعر كيلو “الخرفان” القائم (حي) ارتفع هذا العام، بنحو 8 جنيهات للكيلو، مقارنة بأسعار العام الماضي، لتسجل نسبة زيادته 14% عن العام الماضي، بينما ارتفعت أسعار المواشي “الأبقار والعجول” بين 3 و4 جنيهات للكيلو القائم، فيما وصل سعر كيلو الخروف القائم إلى 65 جنيهًا مقابل 57 جنيهًا العام الماضي، كما ارتفع كيلو القائم للأبقار والعجول إلى ما بين 62 و63 جنيهًا مقابل 59 جنيهًا للكيلو العام الماضي، بينما يبلغ كيلو الجاموسي القائم نحو 52 جنيهًا مقابل 48 جنيهًا العام الماضي.
ركود في أسواق الأضاحي نتيجة ارتفاع الأسعار
الأحوال المعيشية تؤثر سلبًا
هبط مؤشر الأحوال المعيشية في مصر خلال السنوات السبعة الماضية إلى معدلات لم يسبق لها مثيل في التاريخ المصري الحديث، حيث تعرض محدودو ومتوسطو الدخل في الفترة الأخيرة لصدمات ارتفاع أسعار السلع والخدمات بصورة جنونية، فلم تخرج سلعة ضرورية أو خدمة حيوية عن السقوط في فخ زيادة أسعارها بصورة أثقلت كاهل المواطنين ممن تحول جزء كبير منهم إلى شريحة الفقراء.
موجات الأسعار الجنونية وتبعاتها من زيادة نسب التضخم ومعدلات البطالة ومن ثم العجز، أودت إلى زيادة نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى 27.8%، أي نحو 30 مليون مصري وفق الإحصاءات الرسمية للعام الماضي، وأن متوسط دخل الأسرة المصرية يبلغ 45 ألف جنيه سنويًّا، بينما متوسط دخلهم الشهري 3750 جنيهًا، تزامنًا مع ذلك زيادة مرتفعة للأسعار ومعدل التضخم السنوي، وفقًا لتقارير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
ربة منزل: كيلو اللحم وصل 140 جنيهًا وزيادة ولو حبيت أشتري 2 كيلو على الأقل محتاجة 280 جنيهًا، وطبعًا المبلغ ده مش موجود
تردي المستوى الاقتصادي لا شك أنه ألقى بظلاله على طقوس احتفالات المصريين بعيد الأضحى، خاصة أن العيد هذا العام يعقبه بداية العام الدراسي الجديد بكل ما يتضمنه من إرهاق مادي ومعنوي للأسر المصرية، فبجانب تراجع معدلات الأضحية تراجعت أيضًا قيمة العيدية (نقود تعطى للصغار والشباب في العيد)، وهو ما أكدته نهى إبراهيم، طالبة جامعية، بقولها: كان والدي يعطيني كل عام نحو 300 جنيه عيدية لكن هذا العام أكتفى بـ100 فقط” وتابعت: أنا ألتمس له العذر فالأوضاع صعبة جدًا والحمد لله إنه قادر يكفي إيجار الشقة ومصاريف العام، هذا غير الدراسة اللي على الأبواب التي تحتاج هي الأخرى إلى ميزانية خاصة بها”.
يُعرف عيد الأضحى عند المصريين بأنه “عيد اللحمة” نظرًا لكثرة اللحوم به سواء كانت أضاحي أم غيرها من عند منافذ الجزارة، وتعد “الفتة” (خبز ممزوج باللحم) واحدة من أبرز سمات موائد المصريين صبيحة يوم العيد، إلا أن ارتفاع أسعار اللحوم التي تجاوز سعر الكيلو فيها 140 جنيهًا أدت وبشكل ملحوظ إلى غياب هذه الوجبة الدائمة من على موائد نسبة كبيرة من المصريين.
أم محمد ربة منزل، تقول إنها لأول مرة هذا العام لا تشتري لحومًا، وتضيف: كيلو اللحم وصل 140 جنيهًا وزيادة ولو حبيت أشتري 2 كيلو على الأقل محتاجة 280 جنيهًا، وطبعا المبلغ ده مش موجود، لأنه لسه قدامنا حاجات تانية كتيرة، لكن الحمد لله اشتريت 3 كيلو فراخ بيضاء بنحو 115 جنيهًا يقضوا الطارئة”.
وهكذا ألقى الوضع الاقتصادي المتردي بظلاله القاتمة على المشهد العام، وهو ما يمكن الوقوف عليه عبر التأمل في وجوه الكثير من المصريين حين تسألهم عن استقبالهم للعيد، فالعجز عن الوفاء بالالتزامات الأسرية في هذا الظرف كفيل أن يجهض الفرحة في عيونهم فضلاً عما يسببه من إرهاق نفسي يباعد بينهم وبين البهجة مسافات ومسافات.
ومع كل هذا فهناك قطاع كبير من المصريين يتمسك بطقوس الاحتفال بالعيد والعادات الموروثة أيًا كانت الظروف التي يعيشونها، فالعيد بالنسبة لهم ظرف استثنائي يجب أن يتم التعامل معه بمعزل عن المناخ العام، فربما يكون الفرصة السنوية الوحيدة التي يتسول فيها المصريون الفرحة في ظل تلك الأجواء الملبدة بالإحباط واليأس.