تمثل ليبيا أرضا خصبة، مليئة بالثروات الباطنية التي لم تستغلّ بعد، الأمر الذي جعلها مطمع كبرى الدول الاقليمية والعالمية للاستفادة من هذه الثروات الهائلة، فالكل يتسابق للظفر بنصيبه. من هذه الدول الصين الشعبية التي تسابق الوقت وتعد العدة للعودة إلى ليبيا قريبا بعد غياب طال سنوات لأسباب عدّة.
عودة سياسية
تستعدّ الصين لإعادة فتح سفارتها المغلقة في ليبيا، في الأيام القليلة القادمة وفق ما أعلن عنه مسؤولين في البلدين. وقبل يومين أكد القائم بأعمال سفارة الصين بليبيا السفير “وانغ تشيمين” أن سفارة بكين تجرى استعداداتها والترتيبات اللازمة بالخصوص، من أجل العودة إلى طرابلس خلال الفترة المقبلة.
يذكر أن الصين كانت قد أغلقت سفارتها في طرابلس بصورة مؤقتة، في مايو 2016، مرجعة الأمر إلى “تفاقم الصراعات والمخاوف من تردى الأوضاع هناك بشكل أكبر”، فيما استمرّ عدد من المسؤولين الصينيين في أداء مهامهم في ليبيا للتعامل مع الحالات الطارئة، كما حذّرت السفارة حينها المواطنين الصينيين من السفر إلى ليبيا.
تستهدف مبادرة “الحزام والطريق” التعاون والتشارك بين الصين والدول الواقعة في نطاق المبادرة وفقا لمبدأ الجميع يكسب
الدبلوماسي الصيني بيّن أيضا، في تصريح لوكالة الأنباء الليبية “وال” أن بلاده تولى اهتماما كبيرا بالوضع في ليبيا وتدعم وحدة وسلامة الأراضي الليبية وسيادتها، مؤكدا وقوف الصين إلى جانب ليبيا في مواجهة كافة التحديات ودعم جهودها في مكافحة الإرهاب وتحقيق المصالحة الوطنية.
وأوضح “وانغ تشيمين” أن بلاده تتابع تطورات الأوضاع السياسية وتدعم جهود المجتمع الدولي وخطة عمل الأمم المتحدة الخاصة بليبيا لإنهاء الأزمة السياسية وجهود حكومة الوفاق لحل المختنقات السياسية عن طريق الحوار وإيجاد تسوية سياسية وصولا إلى إنهاء المرحلة الانتقالية بإقامة انتخابات رئاسية وتشريعية وبما يسهم في رفع المعاناة عن الشعب الليبي وتحقيق الاستقرار الأمني والاقتصادي.
وكثّف البلدين في الفترة الأخيرة من الزيارات المتبادلة، في دليل واضح للاستعداد الصيني لإعادة فتح السفارة في طرابلس، ودعم آفاق التعاون المستقبلي بين البلدين. وكان الطرفين قد أكّد في وقت سابق قرب التوصل لاتفاق يقضي بتفعيل عمل اللجان الوزارية والفنية المشتركة في المجال الاقتصادي والتجاري بينهما
وعودة اقتصادية أيضاً
هذه العودة السياسية، من المنتظر أن يتزامن معه عودة اقتصادية، حيث أكّد المسؤول الصيني أنه عقد عددا من الاجتماعات مع وزير التخطيط بحكومة الوفاق “الطاهر الجهيمي” باعتباره رئيس لجنة مراجعة المشاريع الصينية المتوقفة بليبيا لبحث هذه المسألة. وسبق أن شكّلت السلطات الليبية لجنة لمواصلة المشروعات الصينية المعلقة.
ومن المرتقب أن يشارك رئيس المجلس الرئاسي الليبي فائز السراج ووزير الخارجية في حكومة الوفاق الوطني محمد سيالة فعاليات المنتدى الصيني الإفريقي، الذي ستحتضنه العاصمة الصينية بكين يومي الثالث والرابع من شهر سبتمبر المقبل.
ويعتبر المنتدى الصيني الإفريقي “فوكاك” الذي بدأ في عام 2000، كتجمع للقادة الصينيين والأفارقة، ويلتئم كل ثلاث سنين، وتشارك فيه مؤسسات متعددة وقادة اقتصاديون، أحد أبرز الوسائل والآليات التي تعتمدها الصين من أجل تنسيق وتنفيذ الأهداف التي تم وضعها لدول قارة إفريقيا.
امضاء عديد الاتفاقيات الثنائية لتعزيز التعاون بين الطرفين
في يوليو/تمّوز، وقع وزير خارجية المجلس الرئاسى “محمد سيالة” وقّع مع نظيره الصينى “وانغ يى” مذكرة تفاهم تشارك ليبيا من خلالها في المبادرة الصينية “الحزام والطريق”، أو مشروع طريق الحرير الجديد الذي أعلن عنه شى جين بينج عام 2013، وتنفق الصين حاليا حوالي 150 مليار دولار سنويا في الدول الـ 68 التي وافقت على المشاركة في المبادرة.
وتستهدف مبادرة “الحزام والطريق” التعاون والتشارك بين الصين والدول الواقعة في نطاق المبادرة وفقا لمبدأ الجميع يكسب. وتتضمن إنفاق الصين مليارات الدولارات عن طريق استثمارات في البنى التحتية على طول طريق الحرير الذي يربطها بالقارة الأوروبية، تتضمن فرعين رئيسيين، وهما “حزام طريق الحرير الاقتصادي” البري و”طريق الحرير البحري.”
للمساعدات نصيب أيضاً
العودة الصينية إلى ليبيا تمرّ أيضا عن طريق المساعدات، حيث سلمت الصين اليوم بداية شهر يونيو/حزيران وزارة الصحة الليبية مساعدات طبية بقيمة ستة ملايين دولار. ومن المنتظر أن تشرف بكين على تدريب كوادر فنية ليبية في مجالات طبية متخصصة في الصين.
وتغطي المساعدات الصينية أكثر من مائة وعشرين دولة ومنظمة إقليمية في العالم، حيث تشكلت لديها سلسلة من المبادئ والتجارب ذات الخصائص الصينية للمساعدات الخارجية، بعد أن كانت تقدّم المساعدات الإنسانية والاقتصادية للدول الصديقة المجاورة لها.
مكانتها في خطر
عودة الصين المتأخرة لليبيا، جاءت نتيجة يقينها بتعرّض مكانتها ومصالحها الاقتصادية والتجارية واستثماراتها (متوقفة) للخطر في هذا البلد العربي الذي يشهد تغلغلا كبيرا لمخابرات الدولة الأجنبية في مؤسساته السيادية.
وتركز استثمارات الصين في ليبيا على قطاع الخدمات النفطية، ولدى الشركات الصينية أيضا عقود إنشائية كبيرة في البلاد، واستثمارات في قطاع التنقيب عن النفط وإنتاجه في ليبيا. ومن أكبر الشركات الصينية في ليبيا شركة البترول الوطنية الصينية (سي.ان.بي.سي) ومجموعة سينوبك والشركة الوطنية الصينية للنفط البحري (كنوك).
وتخشى الصين فقدان مكانتها إلى الأبد في هذا البلد الغني بالنفط، نتيجة اشتداد المنافسة هناك، فإيطاليا تقول إن ليبيا لها وحدها بحكم مضيها الاستعماري هناك، وفرنسا تسعى للاستحواذ على كامل “الكعكة” دون أن تولي اهتما لأحد، والولايات المتحدة الأمريكية تضع ثروات ليبيا نصب أعينها، وروسيا عادت بقوة إلى هناك، دون أن ننسى مساع بعض القوى الإقليمية على غرار الإمارات ومصر وتركيا للظفر بنصيبهم.
وتنتج ليبيا حاليًّا أكثر من 1.05 مليون برميل يوميًا من النفط، وتأمل في زيادة ذلك والعودة إلى مستويات ما قبل ثورة 2011، حيث كانت ليبيا تنتج نحو 1.6 مليون برميل يوميًا، ويشكل النفط نحو 94% من موارد البلاد، وأهم ما يميزه غزارة الآبار المستخرج منها وقربه من موانئ التصدير، وتفيد تقديرات نشرت عام 2010 أن الاحتياطات المؤكدة من النفط الخام في ليبيا تقدر بنحو 46.42 مليار برميل، أي نحو 3.94% من احتياطي العالم، و6.36% مما تنتجه المنظمة العربية المصدرة للبترول (أوبك)، و4.87% مما تنتجه أوبك (الدول المصدرة للنفط).
وفي عهد معمر القذافي وقعت ليبيا عقودا بمليارات الدولارات مع شركات أجنبية، بما في ذلك الصينية، لبناء البنية التحتية والمباني والسكك الحديدية. وقد تم تجميد هذه المشاريع، وغادرت معظم الشركات الأجنبية البلاد في عام 2011 لأسباب أمنية.
محللون: هذا التوجّه تخفي وراءه الصين نزعة استعمارية
تقدر طاقات مصافي التكرير القائمة في ليبيا بنحو 378 ألف برميل يوميًا، في حين يقدر إجمالي إنتاج المشتقات النفطية في ليبيا بنحو 325.7 ألف برميل يوميًا، وتنتج ليبيا 14.2 ألف برميل يوميًا من الغازولين و39.7 ألف برميل من الكيروسين ووقود الطائرات و80.7 ألف برميل من زيت الغاز والديزل و124.9 ألف من زيت الوقود، و59.8 ألف من المشتقات النفطية الأخرى.
على عكس الولايات المتحدة وأوروبا، تستخدم الصين المساعدات والتجارة والاستثمار الأجنبي المباشر بشكل استراتيجي لبناء نوع من الود، بالإضافة إلى توسيع نفوذها السياسي، وتأمين الموارد الطبيعية التي تحتاجها للنمو.
وتعد ليبيا ضرورية للمصالح الصينية التي تسعى إلى كسر القطبية الثنائية، وتعديل التوازن لصالحها في مقابل الهيمنة الغربية التي تقودها الولايات المتحدة في مجال العلاقات الدولية، وتطمح الصين أن يكون لها نفوذ قوية ومكانة كبيرة في ليبيا لإنجاح خطتها في إفريقيا.
إلى جانب ذلك، تنظر الصين إلى ليبيا على أنها عنصر مركزي في مشروع استدامة نمو اقتصاد الصين وتطويره على المدى البعيد، فليبيا مصدر مهم لتزويد الصين بحاجتها المتزايدة للمادة الخام، إذ إن ليبيا لديها واحد من أضخم احتياطيات المواد الخام. أضف إلى ذلك، الفرص المعتبرة للتجارة والاستثمارات الصينية، وذلك لقوتها الشرائية، والحاجة الماسة لوجود بنية تحتية اجتماعية واقتصادية.
وتعاني ليبيا من عجز كبير في البنية التحتية، وخاصة في الشوارع، والجسور، والموانئ، والمستشفيات، والمدارس، التي تضرّرت كثيرا نتيجة الحرب التي تشهدها البلاد منذ سقوط نظام معمر القذافي في فبراير سنة 2011.
شريك ليست له طموحات استعمارية؟
تسعى الصين إلى تقديم نفسها كونها المنقذُ والشريكُ الحقيقيُّ لليبيا، فهي شريك ليست له طموحات استعمارية، بل ويتقاسم مع ليبيا نفس الخلفية التاريخية، فالجمهورية الصينية الشعبية شريك يقدم دعما مهما دون أية شروط مسبقة، وتتفهم أكثر الأولويات الليبية، وفقا لمسؤوليها.
ويضيف المسؤولون الصينيون أن بلادهم لا تدعم التدخل في ليبيا بل تقوم بالوساطة المحايدة في الأزمة، كما فعلت في دارفور بالسودان سنة 2007، وتوسطت من أجل صفقة سلام بين شمال السودان وجنوبه في موضوع التنازع على مناطق حدودية غنية بالبترول في أغسطس/آب 2012، وتوسطت لحل الصراع بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا بشأن دعم الأخيرة للمؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب.
تعمتد الصين على شركاتها واستثماراتها لغزو الدول النامية
غير أن هذا التوجّه تخفي وراءه الصين نزعة استعمارية. ويشكل وجود الصين في ليبيا مصدرَ قلق للعديد من الأطراف التي ترى في الصين العائق الأكبر لعملية السلام والأمن في المناطق الغنية بالنفط، كما أنها تدعم أنظمة الاستبداد في زمبابوي والغابون المعروفتين بسجلهما السيئ في مجال حقوق الإنسان.
فضلا على ذلك تعتبر الصين، وفقا لعديد الليبيين، بلدا عملاقا يريد الاستحواذ على الموارد وعلى الطاقة، يستغل عدم كفاءة وفساد الحكومات في توجه انتهازي من الناحية التجارية، وملوث حقيقي للبيئة، فالصينيون يقدمون خدمات ومنتوجات ضعيفة الجودة، ولا تحترمون أدني معايير الحفاظ على البيئة.
ويشكل تورط المؤسسات الصينية في الفساد ودعم الحكومات والمؤسسات الفاسدة، والسعي للحصول على العمالة الرخيصة فضلا على تدني معايير السلامة مصدر قلق كبير لليبيين، إسوة بباقي الدول الإفريقية.