تُعتبر العلاقة الغريبة بين كل من عالم النفس الشهير سيغموند فرويد وكارل يونغ من أكثر العلاقات غرابةً في تاريخ علم النفس. تلك العلاقة التي بدأت بصداقةٍ شديدة، وتأثّر معرفيّ كبير، تحوّلت مع الأيام إلى صراغٍ علميّ طويل انتقل إلى الحياة الشخصية، لدرجة أن فرويد اتهم يونغ بتمنّي الموت له والإفصاح عن ذلك بطريقة غير مباشرة من خلال محادثة جرت بينهما على متن قطار تحدّث فيها يونغ عن الآثار والقبور وعظام القدماء وهذا ما أثار حفيظة فرويد.
ترجع بداية حكاية العالمين إلى عام 1907، حيث التقى كلٌ منهما للمرة الأولى بعد عام كامل من المراسلات الكتابية حيث كان نجم فرويد آخذٌ باللمعان مع الوقت في حين أنّ يونغ كان متأثرًا ومعجبًا بكتاباته. ويقال إن المحادثة الأولى بينهما استمرت لأكثر من 13 ساعة دون أي توقف يُذكر. فرويد الذي كان يعتبر نفسه “فاتحًا” في علم النفس، رأى في يونغ وليّ عهد له أو خليفةً. أمّا يونغ فقد بجّل فرويد تبجيلًا عظيمًا حتى رآه كأبٍ روحيّ وأستاذٍ لا يُكرّر.
فرويد ويونغ يحتفلان بعيد ميلاد يونغ في منزله في زيوريخ- 1907
في عام 1909، سافر الاثنان إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليعرّفا بمدرسة التحليل النفسيّ لجمهورها الجديد في جامعة فوردهام في نيويورك من خلال مجموعةٍ من المحاضرات. أمضى كلاهما 3 أشهر في تلك الجولة شكّلت أوج صداقتهما الحميمة التي انتهت بعد مدة وجيزة نتيجةً لبعض الاختلافات الإيديولوجية الناشئة بينهما.
فرويد ويونغ خلال رحلة سفاري كبيرة في الصحراء الافريقية- 1909
نشأ خلاف يونج الأساسي مع فرويد من نتيجةَ فهمهما المختلف عن اللاوعي. رأى يونغ نظرية فرويد عن اللاوعي على أنها غير كاملة. وفقًا له، فإنّ تصور فرويد عن اللاوعي فقط كمخزن للعواطف والرغبات المكبوتة هو تصوّر ناقص. ولنكونَ أكثر دقّة، وافق يونغ فرويد في تصوّره للاوعي الشخصيّ، لكنّه اقترح وجود شكلٍ ثانٍ للاوعيّ أعمق بكثير من ذلك الذي يرتكز على الذات والشخصية؛ أطلق عليه مصطلح “اللاوعي الجَمعي”.
اللاوعي عند يونغ ينقسم إلى فرديّ يشمل الذكريات المنسية والأفكار المقموعة وجَمعيّ يشمل التجارب الجمعية المشتركة مع النوع البشري ككل وحصلنا عليها نتيجة التطور
كيف قدّم يونغ اللاوعي؟
تمامًا مثل فرويد وإيريك إيريكسون، اعتبر يونغ أنّ النفس الإنسانية تتكون من عدد من المكوّنات المنفصلة ولكن المتفاعلة في ذات الآن، هي الأنا واللاوعي الشخصي واللاوعي الجَماعي. وفي حين أنّ “الأنا”، وفقًا ليونغ، تمثّل العقل الواعي الذي يشمل الأفكار والمشاعر والعواطف والذكريات التي يدركها الفرد، وهي المسؤولة إلى حدٍ كبير عن الشعور بالهوية والاستمرارية، إلّا أنّ اللاوعي أيضًا يمتلك تأثيرًا على الشخصية، ولكن ليس بالطريقة التي رآها فرويد على أنه مستودع الرغبات الجنسية الخفية والذكريات المنسية والأفكار المقموعة فقط.
اقترح يونغ أنّ اللاوعي يتكون من طبقتين. أولاهما اللاوعي الفرديّ الذي يشمل الذكريات المنسية والأفكار المقموعة، وهو نفس نسخة فرويد من اللاوعي. أمّا الطبقة الأخرى فهي “اللاوعي الجَمعي”، الذي يشمل التجارب الجمعية المشتركة مع النوع البشري ككل وحصلنا عليها نتيجة تاريخنا التطوّري.
وبالتالي، فإنّ العقل البشري لديه خصائص فطرية “مطبوعة” فيه نتيجة للتطور، مثل خوفنا من الظلام أو الثعابين والعناكب، وغيرها من الأمثلة. الفكرة التي أكّد عليها لاحقًا “علم النفس التطوريّ”، شكّلت مساهمة يونغ الأكثر أصالة وإثارةً للجَدل في ذلك الوقت، خاصة بعد إضافته لما أسماه “الأنماط الأولية“.
اعتبر يونغ أنّ ماضينا البدائي هو أساس النفس البشرية وهو ما يؤثّر على سلوكيّاتنا الحالية ويوجّهها.
والأنماط الأولية هي نوع من الاختصار الدراماتيكي للأنماط الموروثة في الجنس البشريّ منذ بدء الخليقة وحتى الآن. وقد بسّطها يونغ بكونها عدة خصائص يسهل التنبؤ بها والتعرف عليها يولد بها جميع البشر وتجعلهم يتخذون ردود الفعل ذاتها في مواقف معينة، وهي مكون أساسي في الإنسان مثلها مثل السمات العقلية التي تلهم الطيور لبناء أعشاشها على سبيل المثال.
وبما أنها موروثة في الجنس البشريّ، فقد رأى يونغ أنّ الأنماط الأولية هذه هي صور وأفكار لها معانٍ عالمية عابرة للثقافات قد تظهر في الأحلام أو الأساطير أو الخرافات أو الأديان أو الأدب أو الفن. ولهذا اعتبر أنّ ماضينا البدائي هو أساس النفس البشرية وهو ما يؤثّر على سلوكيّاتنا الحالية ويوجّهها.
وعلى إثر هذا التعريف، فقد استشهد يونغ بصورة الأم كمثالٍ أصيل. إذ أنّ للأم صورة أولية كانت في الماضي وما تزال حتى الآن، وهذه الصورة هي محصّلة خبرات اكتسبناها عبر الأجيال وتعاملنا معها بطريقةٍ متشابهة. وعلى ذلك كلما تطابقت الأم الفعلية مع الأم الصورة كان التوافق في حياة الطفل والبالغ من بعد، فإذا حدث أن كانت الأم مسيطرة أو نابذة اضطربت حياة الطفل والبالغ في المراحل اللاحقة، ما يؤدي بالشخص إلى البحث عن أمّ بديلة على شكل رمز في العالم من حوله.
ومن هذه النقطة، اختلف يونغ مع فرويد الذي اختزل كافة الدوافع الإنسانية في الدافع الجنسي، كما أنه أعزى تعلٌّق الطفل الشديد بأمه إلى حقيقة أن الأم هي المانح الأول والأساسي للحب والرعاية في حياة ابنها، وليس بسبب ما اعتقده فرويد من احتمالية وجود رغبة جنسية مكبوتة من جانب الطفل لأمه تبعًا لما تصفه عقدة أوديب.
عام 1912 أرسل يونغ خطابًا شديد اللهجة إلى فرويد يصفه فيه بالمتعالي الذي يظن نفسه معصومًا من الخطأ ويحتقر تلاميذه ليرد فرويد بعدها بخطاب يصف فيه يونج بالمريض النفسي ويخبره أن صداقتهما قد انتهت إلى الأبد بعد أنْ ورثّت غضبًا شديدًا واختلافاتٍ كبيرة استمرّت بعد موتهما بين مؤيّديهما وتلامذتهما.
فرويد ويونغ أثناء استراحة بيلياردو بعد محاضرةٍ لهما في الولايات المتحدة الأمريكية- 1908
وعلى الرغم من أنّ أفكار يونغ لم تكن شائعة كتلك التي أتى بها فرويد، إما لغموضها أو لاهتمامها بالدين والأساطير، إلا أنه قدّم لعلم النفس ما هو أكثر من نظرية اللاوعي، لا سيّما في تطوير سمات الشخصية الحديثة وتركيزه على الشخصية الانطوائية الانبساطية. وقد لعب أدوارًا مهمة في تشكيل علم النفس والعلاج النفسي والطب النفسي المعاصر، فكان أول من استخدم تقنية “الحلم المستثار” في جلسات العلاج، وابتكر فيما بعد طريقة “العلاج النفسي الرمزي” الذي يلعب فيه الخيال المحفّز دورًا كبيرًا في عملية شفاء الاضطرابات النفسية والعقلية.
ومن أهم أعمال كارل يونغ النماذج الأصيلة لللاوعي الجمعي، تطوُّر الشخصية، الروح في الإنسان والفن والأدب، مقدمة إلى علم النفس التحليلي، الأحلام، التنقيب في أغوار النفس، تحوُّلات الليبدو ورموزه، مشكلات الإنسان الحديث في البحث عن الروح، وآخرها “الكتاب الأحمر”، أكثر كتبه شهرةً والذي احتاج لإنجازه ما يقارب 16 عامًا.