استفاقت تل أبيب على دوي عشرات صافرات الإنذار، وإطلاقات متعددة للصواريخ الاعتراضية على اختلاف أنواعها، خلفت في أجوائها وأجواء القدس عشرات الانفجارات التي تبعها الانفجار الكبير الذي هزَّ تل أبيب، بفعل نجاح الصاروخ في الوصول إلى هدفه.
خلق الحدث إرباكًا كبيرًا لدى الاحتلال، وهو ما انعكس بوضوح في تضارب الأخبار أولًا حول مصدر الصاروخ والنجاح والفشل في اعتراضه، وماهية الهدف الذي أصابه، وهل رُصد قبل أن يصل أم لا؟ ولماذا لم يسقط خارج حدود الأراضي المحتلة؟ هذا على الصعيد الأولي للحدث.
أما الأسئلة الكبرى فهي مرتبطة بالكيفية التي سيعكسها نجاح هذه الضربة على مجرى الأحداث في الشرق الأوسط، وفي الأراضي الفلسطينية على نحو التحديد، التي لا يبدو أن أفقًا حقيقيًا لقرب انتهاء حربها يلوح في الأفق في ظل التعنُّت الإسرائيلي والتواطؤ الأمريكي، خصوصًا بعد التلاشي التدريجي لخطر اندلاع حرب إقليمية قبيل الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة.
القصف اليمني لتل أبيب: فشل ذريع في الإنذار والتصدي
سُجّل دوي صفارات الإنذار في الساعة السادسة والنصف من صباح يوم 15 سبتمبر/ أيلول، ودوت الصفارات في غالبية منطقة تل أبيب الكبرى، والقدس وبعض المناطق المحاذية للضفة الغربية.
أُطلقت أكثر من 20 صاروخًا من شبكة الدفاع الجوي الإسرائيلية، خصوصًا من منظومتي “حيتس” و”مقلاع داود”، في محاولة التصدي للصاروخ اليمني، دون أن تنجو هذه المحاولات في إسقاط الصاروخ الذي أكمل مهمته وانفجر داخل أراضي تل أبيب.
لم يعلن الاحتلال بوضوح عن الهدف الذي أصابه الصاروخ، ما بين الادّعاء الأولي بالنجاح في التصدي إلى العديد من المقاطع المصورة الصادرة من تل أبيب تظهر بوضوح إصابة الصاروخ لهدف محدد، فيما أعلنت قناة “كان” العبرية أن الصاروخ سقط على بُعد 6 كيلومترات عن مطار بن غوريون في تل أبيب.
وفقًا لمراسل إذاعة جيش الاحتلال، حلّق الصاروخ اليمني في الأجواء مسافة 2000 كيلومتر، واستغرق أكثر من 15 دقيقة للوصول، وهي فترة كافية لرصده والتصدي له، ناهيك عن كون الصاروخ قد تجاوز منظومات الرادار وشبكة الدفاعات الجوية لعدد من الدول العربية ومنظومات الإنذار الأمريكية في المنطقة.
يعيد هذا الفشل النقاش باستفاضة حول مدى فاعلية وقدرة منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية والحليفة في المنطقة، على التعامل مع التهديدات الجدّية للصواريخ والمسيّرات المتوفرة لدى العديد من أعداء “إسرائيل” في المنطقة، في الوقت الذي يندفع فيه رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، نحو المزيد من التصعيد في المنطقة، والمزيد من التعنُّت في ملف إيقاف الحرب في قطاع غزة.
خصوصًا أنه ارتكز بدرجة رئيسية على تراجع مؤشرات الخطر الإقليمي ووجود حالة من الردع لدى خصوم “إسرائيل”، بعد سلسلة الضربات التي طالت الحديدة في اليمن، والضاحية الجنوبية في العاصمة اللبنانية بيروت، والعاصمة الإيرانية طهران.
الردّ اليمني على قصف الحديدة
مرَّ نحو شهرين على الاستهداف الإسرائيلي الكبير الذي طال منشآت في ميناء مدينة الحديدة غربي اليمن، وأدّى إلى اشتعال النيران في مخازن للوقود والنفط، وتفاخر به قادة الاحتلال كثيرًا وبقدرة “إسرائيل” على ضرب كل أعدائها في كل مكان وزمان دون أدنى تردد.
وفقًا لوزير الحرب الإسرائيلي يؤاف غالانت، كان القصف الإسرائيلي قد نُفّذ بعد أكثر من 200 استهداف من قبل الحوثيين لحركة الملاحة المتجهة إلى موانئ الأرض المحتلة، واستهدافات متعددة لأهداف في الأراضي المحتلة، كان أبرزها وأكبرها نجاح طائرة مسيّرة يمنية في الوصول إلى تل أبيب في 19 يوليو/ تموز المنصرم، والتي دفعت “إسرائيل” إلى تنفيذ ردّها.
في الوقت الذي وسّع فيه غالانت من هدف الضربة على الحديدة بوصفه رادعًا لكل الشرق الأوسط، بتصريحه بأنه “يمكن رؤية النيران التي التهمت مصافي البترول في الحديدة باليمن من كل مكان في الشرق الأوسط”، كان الرد اليمني بوضوح أن مدينة يافا المحتلة وضواحيها (تل أبيب) ستكون عرضة لنيران القوات المسلحة اليمنية.
على مدار الأسابيع السابقة، لم يتوانَ قادة حركة الحوثي عن إطلاق التهديدات باستمرار، وتأكيد أن الرد حتمي، إلا أن هذا لم يكن متسقًا مع السلوك الميداني للحركة، إذ سُجّل انخفاض واضح في عدد العمليات الإسنادية للشعب الفلسطيني الصادرة من اليمن.
فُسّر السلوك اليمني وكأنه مردوع أو متردد، نتيجة لآثار الاستهداف الإسرائيلي لميناء الحديدة، وتطور الأحداث في الشرق الأوسط، وانعدام الانخراط الجدّي حتى الآن من إيران في عملية ردّ فعلية على اغتيال الشهيد إسماعيل هنية على أراضيها، وأن ردّ “حزب الله” على قصف الضاحية الجنوبية واغتيال الشهيد فؤاد شكر لم ينجح بالدرجة المتوقعة.
ذهبت العديد من التقديرات إلى أن حركة “أنصار الله” قد تعرضت لضغوط إيرانية، هدفت إلى إقناعها بالامتناع عن التصعيد مع “إسرائيل” ورفع وتيرة المواجهة، ارتباطًا بالتطورات المستمرة في المنطقة، والحسابات المتداخلة لإيران أمام الحشود الأمريكية وخطر المواجهة الواسعة.
في الواقع، كانت حسابات اليمنيين مختلفة تمامًا، وما كان ظاهرًا وكأنه تردُّد أو إماتة للردّ المستحق كان تجهيزًا لضربة نوعية مضمونة النجاح والوصول، وانسجام الأمر تمامًا مع التصريحات اليمنية التي حددت تل أبيب مسرحًا للعمليات، وأكدت عزمها على تنفيذ ضربة واضحة ومؤثرة.
لم يملّ الحوثي من الانتظار في إطار تحيُّن الفرصة المناسبة، فالردّ في ذروة الاستنفار تجاهه سيشكل مقامرة بأن تفشل الضربة، وهو ما ستكون آثاره السلبية أعلى بكثير من الامتناع عن تنفيذ الرد أصلًا، وبالتالي إن التأخير والتجهيز جيدًا، مع إشارات ميدانية خداعية حول تخفيض الضربات نتيجة للردع، مثّلا جوهر الاستراتيجية الحوثية لضمان نجاح الضربة.
نجح اليمنيون، في الواقع، في توجيه ضربة مباشرة للعمق الإسرائيلي، وبدرجة أعطت نموذجًا جديدًا حول القدرات اليمنية التي استهان بها الاحتلال كثيرًا، وهي قدرات شكّلت -بالمناسبة- صدمة للعديد من المتابعين، سواء من حيث القدرة الكبيرة على إصابة أهداف بحرية لمدة طويلة، أو من قدرة المسيّرات اليمنية على الوصول إلى أهداف بعيدة دون أن تكشفها الردارات، مثل المسيّرة اليمنية التي ضربت تل أبيب، وصولًا إلى القدرات الصاروخية بعيدة المدى الذي كان هذا الصاروخ نموذجًا يتمتع بسرعة كبيرة في الوصول إلى الهدف، وقد يكون نموذجًا يمنيًا من الصواريخ فرط الصوتية.
دلالات نجاح الضربة اليمنية لتل أبيب
حمل حدث نجاح الصاروخ اليمني في الوصول إلى هدفه في تل أبيب، متجاوزًا العديد من طبقات الدفاع الجوي في المنطقة، ودون أي سابق إنذار لا استخباراتي ولا تقني، العديد من الدلالات التي ستلقي بظلالها على العديد من الحسابات الأمنية والعسكرية والسياسية في المنطقة، والتي يمكن تلخيص أبرزها بالتالي:
ضعف فعالية منظومات الدفاع الجوي: رغم أن منظومات الدفاع الجوي والإنذار الإسرائيلية في ذروة الاستنفار منذ السابع من أكتوبر 2023، وأن وتيرتها تضاعفت بدرجة أكبر مع التصعيد الإسرائيلي في الإقليم، فإن نجاح الصاروخ في الوصول إلى هدفه، وفشل كل منظومات الدفاع الجوي وطبقاته في “إسرائيل” في التصدي له وإسقاطه، يعيد الجدل حول حجم الفعالية الحقيقية لهذه المنظومة في مواجهة القدرات الصاروخية المتوفرة لدى محور المقاومة، والتي لم تدخل الطرازات الأكثر نوعية في معادلة المواجهة حتى الآن.
قصور الإنذار المبكر: مع تأكيد أن “إسرائيل” لن تتجاوز في التعامل مع أية إشارة تهديد، وهو ما عبّر عنه مسؤول إسرائيلي بوضوح بأن “إسرائيل” تفاجأت في السابع من أكتوب ولن تفاجأ مرة أخرى، فإن الواقع أن منظومات الإنذار المبكر في دولة الكيان لا تزال قاصرة عن التشخيص المسبق للمخاطر والجهوزية لها.
فشل استخباراتي: يشير نجاح اليمن في إطلاق صاروخها إلى تل أبيب مباشرة، دون وجود إنذار ساخن لدى أجهزة أمن الاحتلال واستخباراته، إلى فشل ذريع يعكس قصورًا نوعيًا في مقدرة المنظومة الأمنية في “إسرائيل” على تتبُّع المخاطر ورصدها، رغم أن التصريحات اليمنية حول الرد ونوعيته والهدف الرئيسي له لم تتوقف، وقد كان آخرها التصريح المشترك لوزير الدفاع اليمني في حكومة صنعاء محمد العاطفي، ورئيس هيئة الأركان العامة اليمني محمد الغماري، حول حمل الأيام المقبلة مفاجآت لن تتخيلها “إسرائيل” أبدًا، وأنهما سيجعلان من الرد اليمني “كابوسًا على الأعداء” يهدد أمنهم، وهو التصريح الذي سبق الرد اليمني بساعات معدودة.
حيوية الحشودات الأمريكية في الشرق الأوسط بالنسبة إلى أمن “إسرائيل”: جاءت الضربة اليمنية بعد أيام فقط من إعلان وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” إنهاء مهمة حاملة الطائرات “يو إس إس تيودور روزفلت” والمدمرة “يو إس إس دانيال إينوي” في الشرق الأوسط، وأنها قررت إعادتهما إلى قاعدتهما، وهو ما يعطي دلالة واضحة حول حجم التأثير الذي يحمل شقَّين، ردعي ودفاعي، على أمن “إسرائيل” والخطط الهجومية تجاهها، ويعكس أيضًا مدى القصور الدفاعي لـ”إسرائيل” منفردة في مواجهة التحديات الكبيرة في المنطقة.
قصور منظومة الدفاع الجوي المشترك بالشرق الأوسط: شهدت شهور الحرب على قطاع غزة تناميًا واسعًا في التعاون الدفاعي بين “إسرائيل” ودول الشرق الأوسط المنضوية ضمن مسؤولية القيادة المركزية للجيش الأمريكي، ما عزز من فعالية تكامل الدفاعات الجوية بين الدول العربية و”إسرائيل” في مواجهة تحدي الصواريخ والمسيّرات، إلا أن نجاح الصاروخ اليمني في عبور مسافة 2000 كيلومتر، ومروره من أجواء السعودية والأردن ووصوله إلى هدفه، يعيد النقاش بشأن الجدوى والفعالية الحقيقية لهذه المنظومة المشتركة في مواجهة هجوم/هجمات كبرى مباغت/ة.
تلاشي الردع: يعيد الهجوم اليمني تأكيد أن “إسرائيل” فقدت الكمّ الأكبر من ردعها في المنطقة، وأن الهجمات الأخيرة التي نُفّذت في الإقليم والدمار الكبير في قطاع غزة، لم ينجحا في ترميم الردع الإسرائيلي وخلق حاجز أمام خطط خصوم “إسرائيل” في المنطقة بمهاجمتها، وهو ما يعني أن أحد أهم أهداف الحرب لم ينجح في تحقيق الأثر المطلوب منه حتى الآن، بل إن نجاح المزيد من الهجمات من الجبهات المختلفة يعني أن هذا الردع بدأ يتلاشى إلى غير عودة.
زيادة المخاطر الجدية لاحتمالية المزيد من الهجمات: لم تتوقف مفاعيل الهجمات الإسرائيلية الأخيرة في الإقليم، وفي الوقت الذي أنهى فيه “حزب الله” اللبناني ردّه على اغتيال شكر، لم تتراجع إيران رسميًا عن قرارها بالردّ على اغتيال هنية، ولم يعلن الحوثيون انتهاء ردّهم على استهداف الحديدة، وهو ما يترك الباب مفتوحًا أمام احتمالات تعرض “إسرائيل” للمزيد من الهجمات النوعية التي تستهدف العمق الإسرائيلي.
كيف تؤثر ضربة تل أبيب على معادلات المنطقة والحرب على قطاع غزة؟
من حيث المبدأ، من غير المنطقي الدفع بأن حسابات بنيامين نتنياهو ستتغير جوهريًا ارتباطًا بنجاح ضربة واحدة، أو حتى عدة منها، في ضرب العمق الإسرائيلي، إلا أن العديد من المعادلات ستتأثر بعد هذا النجاح الذي تزامن مع تهديدات إسرائيلية بتوسيع العدوان على لبنان من جانب، ودنو الانتخابات الأمريكية من جانب آخر، ما يجعل معادلات التأثير إقليمية ودولية، وتأثير كليهما على حرب الإبادة المستمرة بحقّ الشعب الفلسطيني.
تعيد الضربة اليمنية بدرجة رئيسية شبح الحرب الإقليمية إلى الواجهة، إذ إن محاولة “إسرائيل” توجيه ضربات ردعية كبيرة تهدف إلى إيقاع ضرر بخصومها وإبعاد شبح الحرب الإقليمية عنها لم يؤتِ ثماره بالشكل المطلوب، ونجاح الرد اليمني يفتح باب التساؤلات حول ما تحمله الأيام القادمة من تصعيد من جبهات أخرى قد تضع “إسرائيل” أمام ممرات إجبارية للتعامل معها، وهو ما قد ينتج جولات من تبادل الضربات من الممكن أن يشكّل أي حدث دراماتيكي فيها تدحرجًا جديًا تجاه الحرب الإقليمية.
يعود شبح الحرب الإقليمية، التي عملت الولايات المتحدة جاهدةً على تجنُّب الوصول إليها، وذلك في التوقيت الأكثر حساسية على بُعد أسابيع من توجُّه الناخبين في الولايات المتحدة إلى صندوق الاقتراع، وسط سباق انتخابي يشكّل كل حدث في العالم مؤثرًا هامًّا على توجهات الناخبين في سياقه، وهو ما سيجعل من التصعيد الإقليمي الحالي عامل ضغط كبير جدًّا على الإدارة الأمريكية التي ستكثّف من جهدها لمحاصرة أية تطورات ممكنة، وهو ما يعني في جانب هامّ زيادة الضغط على نتنياهو لتخفيض وتيرة اندفاعته.
يعزز نجاح الضربة والفشل الإسرائيلي في التصدي لها من موقف الأطراف الإسرائيلية الضاغطة في اتجاه عقد صفقة للأسرى في قطاع غزة، إذ يدفع العديد منهم بطرح أن الذهاب إلى صفقة تبادُل سيضمن إعادة الأسرى أحياء، ومحاصرة الارتدادات الأمنية المتصاعدة لاستمرار الحرب في قطاع غزة، وإمكانية اشتعال العديد من الجبهات، أو حتى التدحرج نحو حرب واسعة في الإقليم.
قصور الخيارات الإسرائيلية في الردّ على اليمن سيضيّق الأفق المتاح أمام رئيس وزراء الاحتلال، وسيعيد العديد من طبقات الضغط الذي ظنَّ أنه قد نجح في تجاوزها، سواء في عنوان التصعيد في الإقليم، أو عنوان استعادة الأسرى، مع عودة زخم الجدل حول جدوى الضغط العسكري في إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، بعد أن أعدمت المقاومة ستة من الأسرى الإسرائيليين في رفح جرّاء اقتراب جيش الاحتلال من النفق الذي تحصنوا فيه.
كما قد يدفع نجاح الضربة اليمنية إلى تحفيز المزيد من الضربات المشابهة، سواء عبر اليمن أو عبر ما يُعرف بالجبهات الإسنادية الأخرى، خصوصًا أنه سيسهم في تجاوز الإحباط التي سببها ردّ “حزب الله” المحدود على مقتل قائده العسكري.
وبالمحصلة، سيدفع التطور الحالي، والرد الإسرائيلي المرتقب على الضربة اليمنية، الوسطاء إلى جولة تحرُّك جديدة بضغط من الولايات المتحدة، التي ستعمل جاهدةً على تجنُّب تدحرج الأمور في الشرق الأوسط نحو أطوار جديدة من الاشتباك والمواجهة، وستسعى إلى تجميد التصعيد الحالي على أقل تقدير حتى تتجاوز موسمها الانتخابي، وتكون جاهزة للتعامل مع أية تطورات متوقعة.