بدأت الحركات الصوفية، بشكل شبه سري في عقد جلسات متتالية، لوضع تصور منهجي لمجموعة من الكورسات التعليمية الشاملة، لإعادة غرس مبادئ وأحكام وشروح الصوفية بعيدًا عن الخزعبلات التي ارتبطت بها في أذهان المصريين، ومهدت لها طريقًا إلى الفناء، خصوصا أن الغالبية العظمى من أتباعها حاليًا من الأميين وكبار السن.
كان اعتراف المجلس الأعلى للطرق الصوفية، بالخلل في البنية الهكيلية للطرق، وانتقاده عدم الوعي المستشري والسائد بين العديد من مشايخ الصوفية أنفسهم، الطريق الآمن لفتح ثغرات للتحديث، ورفض الأخطاء العتيقة، التي تعلقت بالصورة الذهنية للصوفية عند المصريين، وجعلت الاقتراب منها بالنسبة لهم، بمثابة قرار شبه حصري فقط للدروايش والمشعوذين والدجالين.
ما وراء ثورة التجديد في الصوفية؟
منذ سنوات مابعد ثورة 25 يناير، والبيت الصوفي يحاول تجديد نفسه؛ كان احتلال تيارات الإسلام السياسي المشهد كاملا، بمعزل عن الطرق الصوفية، خلف هزة نفسية عميقة، فالحركة الصوفية ترى نفسها أكثر تجذرا في المجتمع من الإخوان والسلفيين، وأقرب منهم لنفوس شرائح الفقراء والريف، وهي نفس المربعات التي يقف عليها السلف والإخوان، ورغم مشاركة بعض شباب الطرق في فعاليات الثورة المصرية، إلا أن الخبرة السياسية للمنظومة كلها كانت في أدنى مستوى يمكن لأحد توقعه.
راهنت الصوفية على قدرتها على الذوبان داخل المجتمع، والتأثير الناعم الذي قد لا يشعر به المصريون به من الأساس، بعكس الإسلاميين بمختلف توجهاتهم
هذه المعطيات استند عليها بعض الناشطين الصوفيين في ضرورة الانتباه وعدم قصر الصوفية على الدروشة، واقتحام السياسة للحفاظ على الفكرة من الفناء، في ظل صراع وجودي، افتعله السلفيون ضدهم منذ صعودهم إلى واجهة الحياة السياسية إبان ثورة يناير، والتحرش بهم بين الحين والآخر، في الوقت الذي اكتفى فيه الإخوان بإشعال جذوة الصراع مع الصوفية فقط في الفترات التي لايكونوا على وفاق معهم، وبنسبة كبيرة تحكم المصلحة والقرب أو الابتعاد من السلطة علاقة الإخوان بالصوفية.
راهنت الصوفية على قدرتها على الذوبان داخل المجتمع، والتأثير الناعم الذي قد لا يشعر به المصريون به من الأساس، بعكس الإسلاميين بمختلف توجهاتهم، الذي يتهمون دوما من التيارات المدنية والسلطة والكثير من القوى المجتمعية، بسعيهم للتمايز عن غيرهم، بداية من المزايدة على التدين، مرورًا بشعاراتهم وطريقتهم قي الاحتجاج، التي يرونها مجرد حيلة لاستعراض القوة، ودلل قادة الصوفية على اختلافهم عن غيرهم، بالعروض العسكرية التي كان شباب الإخوان ينظمونها من بداية تأسيس الجماعة، نهاية بآخر عرض نظموه قبل سنوات قليلة من رحيل مبارك، والذي دفع ثمة قيادات الإخوان سنوات من عمرهم بالسجون.
فيديو عرض عسكرى للاخوان امام اللواء محمد نجيب ويلقى لهم التحية
انطلقت الصوفية من هذه المخاوف تجاه تدشين حزب سياسي، وأسفرت التحركات المتسارعة إلى الاتفاق على تأسيس حزب تحت اسم حزب التحرير المصري، واحتلت الطريقة العزمية القوام الرئيسي للحزب، قبل أن تنضم إليه قوى صوفية أخرى، شعرت بالخوف الشديد من تنامي نفوذ الإخوان والسلفيين، الأمر الذي استوجب أن يكون هناك حزبا للصوفيين يعبر عنهم ويدافع عن مصالحهم.
المثير أن الصوفية ــ سواء على سبيل الفهم أو المكايدة ــ لا يهم، ورغم حداثتهم بالحياة السياسية آنذاك، إلا أنهم اتخذوا مسارات إصلاحية بامتياز خلال الفترات التي نشطوا فيها بالحالة السياسية لمصر إبان 25 يناير، وأعلنوا انحيازهم لتوجهات التيارات المدنية في حرب الجبهات التي اندلعت بين المدنين الذين طالبوا بالدستور أولا، في وجه مسار الانتخابات أولا، الذي أسسه وتزعمه الإخوان والسلفيين إلى جانب المجلس الأعلى للقوات المسلحة الأسبق بقيادة طنطاوي وعنان.
منذ سنوات اتجه العديد من قادة الأزهر وعلمائه من أصحاب النزعة الصوفية، إلى عمل تأسيس جديد لما يسمى بالصوفية العلمية، بدعم كبير من الدولة المصرية
وتبنت الطريقة العزمية منهج حزب العدالة والتنمية التركي، وسافر شيح الطريقة علاء أبو العزايم إلى اسطنبول، لمشاهدة التجربة عن قرب، لتسليح حزب التحرير بها، وهي التجربة التي تخلت الصوفية عنها بعد احداث 30 يونيو 2013، وعادت إلى مساراتها القديمة.
الصوفية العلمية .. هل تستطيع تصحيح المسار؟
منذ سنوات اتجه العديد من قادة الأزهر وعلمائه من أصحاب النزعة الصوفية، إلى عمل تأسيس جديد لما يسمى بالصوفية العلمية، بدعم كبير من الدولة المصرية، في محاولة مختلفة لمواجهة التشدد والتطرف، وتفاؤلا منهم في قدرة الأزهريين على استقطاب أبناء الحركة الإسلامية إلى صفوف الصوفية في ثوبها الجديد، القائم على الدراسة والفكر والانغماس في متاهة الروح والنفس لإلهائهم عن مشروع الإسلام السياسي في المنطقة .
أكثر ما كشف عن دعم الدولة للتيار الصوفي الجديد في مصر، مقال رأي نشره الدكتور مصطفى الفقي، مدير مكتبة الإسكندرية، وأحد أهم المفكرين المقربين للنظام السياسي الحالي، قبل عامين في صحيفة الأهرام الحكومية، بعنوان «الصوفية ودورها في مواجهة التطرف»، واعتبر فيه إن أبرز ما يميز الصوفية، عن غيرها من الجماعات الإسلامية، أنها لا تسعى نحو ركوب موجة الإسلام السياسي.
ويبدو ان التيار الصوفى العلمى، سيدخل مصر مرحلة تحول في الوعي والانتماء الديني خلال الفترات القادمة؛ فاقتحام مشايخ الأزهر أصحاب التوجه الأشعري للساحة العامة، واللعب في الميدان دون منافسة من الإسلام السياسي
نزعة الزهد والانصراف عن الحياة، يراها الفقي أهم مقومات الصوفية التي جعلت لها شأنًا خاصًا فى التاريخ الإسلامى كله، فهي في النهاية علاقة بين العبد وربه وقوة وجدان روحى وليست موجهة سياسيا للحصول على مكاسب أبعد من حماية وجودها من عبث الإسلام السياسي، والسلفيين تحديدًا الذين يشتبكون مع المجتمع دائما، ويحاولون فرض معطياتهم الفكرية عليه، بحسب رأي الفقي.
في المقال الذي بدا وكأنه يرسم ملامح التدين الذي تريده الدولة، بعدما نزعت أظافر الإخوان والسلفيين، اعتبر الفقي أن الصوفية العلمية ستكون السلاح الجديد فى وجه الإسلام السياسي، وهي التي ستتولى مواجهته نيابة عن الدولة، ليس بالجهل والخرافة، ولكن بإدراك قيمة صحيح الدين، والفلسفة الحقيقية للحركة الصوفية، وهي المقومات التي تمتلكها مؤسسة الأزهر التي احتضنت مدارس التصوف، وتفاعلت معها وسعت إلى نقائها والدفاع عنها منذ القدم.
ما هي الصوفية؟ – الشيخ الشعراوي
ويبدو ان التيار الصوفى العلمى، سيدخل مصر مرحلة تحول في الوعي والانتماء الديني خلال الفترات القادمة؛ فاقتحام مشايخ الأزهر أصحاب التوجه الأشعري للساحة العامة، واللعب في الميدان دون منافسة من الإسلام السياسي، قد يؤدي إلى استقطاب الآلاف من طلاب الأزهر، الذي سيتبعون أساتذتهم في الخروج للحياة العامة بدلا من الانغلاق على الذات، او الاتجاه إلى السلفية والإخوان مثلما كانوا في الماضي.
وتعيد السلفية العلمية في مصر بالوقت الحالي، تسويق علماءها الكبار الذين كانوا رموزا لها على مر التاريخ الحديث، واغلبهم من شيوخ الأزهر، وعلى رأسهم الدكتور عبد الحليم محمود، الذي تولى مشيخة الأزهر في الفترة مابين أعوام 1973، و1979، ويعتبر مؤسس التصوف العلمى فى مصر، وله مؤلفات في الصوفية على رأسها المنقذ من الضلال، وقضية التصوف، ولم يكن عبد الحليم وحده، بل هناك أيضا الشيخ محمد متولى الشعراوى، والشيخ محمد ذكى الدين إبراهيم، شيخ العشيرة المحمدية، الذى يعتبر من القامات الصوفية العلمية فى مصر.
7 طرق تتبع المنهج العلمي والبقية تأتي
أكثر ما يعبر عن دعم الدولة لتيار الصوفية العلمية، حالة الاحتفاء التي تتبعها المشيخة العامة للطرق الصوفية، والترويج المستمر لهذا التيار خلال الثلاثات سنوات الماضية، لدرجة أنها وافقت على الطريقة الجديدة التي يرأسها على جمعة، مفتي مصر الأسبق، وأسماها «الشاذلية العلية» في وقت قياسي، لدرجة أن البعض أكد أن المفتي أعلن الطريقة وبدأ حلقات التجمع والحشد لها، قبل أن يحصل على موافقة المشيخة، وهي الشائعات التي لم يُرد عليها سواء بالسلب أو بالإيجاب .
ترى الصوفية العلمية أن شيخ الطريقة، لا يمكن أن يكون إلا منصبا روحيًا، وبالتالي فالتوريث مرفوض على المنطق القديم
استطاع التيار العلمي الجديد ان يضم إلى مساره 7 طرق صوفية كانت تعلن تزعم انتهاج التصوف العلمي، دون أن يكون لها أي تفاعل معه، بداية من العشيرة المحمدية، مرورا بالعزمية، والصديقية الشاذلية، والحامدية الشاذلية، والقادرية، والهاشمية، ووانتهاء بالقصبية، وذلك بمعزل عن باقي الطرق الصوفية التي تجرى معها محاولات لدمجها في المسار الجديد، لذا ينخرط الآن في لقاءات مكثفة، بعض قادة الطرق التقليدية، لبحث الانضمام للدورات العلمية سالفة الذكر، في محاولة منهم لإيجاد حلول تبعدها عن طريق الهشاشة والضعف والتخبط .
وترى الصوفية العلمية أن شيخ الطريقة، لا يمكن أن يكون إلا منصبا روحيًا، وبالتالي فالتوريث مرفوض على المنطق القديم، ولايفصل في تولي الطريقة بعد وفاة شيخها إلا عالم صوفي قادر على التجديد والبحث، لدفع التصوف للأمام لا الخلف، وربما يفسر ذلك، ما تردد عن المفاوضات التي يجريها بعض علماء الأزهر، لأقصاء نور الدين محمد عصام زكي، عن منصب مشيحة العشيرة المحمدية، والتي تولاها منذ رحيل والده القطب الصوفي محمد عصام زكي، في فبراير الماضي، بسبب صغره في السن، وضعف خبرته الصوفية ومقوماته الروحية، بما يؤكد أن التيار الجديد قادم بقوة ليس فقط لمواجهة الإخوان والسلفيين والشوشرة عليهم، ولكن لتجديد الفكرة من منابعها، والحشد لها فكريا وثقافيا ودينيا وشعبيا.
تجديد وتلقي العهد والبيعة على يد سماحة السيد الرائد الشيخ محمد عصام الدين محمد زكي إبراهيم