كَثُرَ مؤخراً استخدام مصطلح الحرب الاقتصادية في خطابات السياسيين على أعلى المستويات، لوصف ما يعتبره البعض أسوأ حالات العلاقات التركية الأمريكية منذ قيام الجمهورية التركية ، الأمر الذي انعكس على تدهور سعر صرف العملة في تركيا التي و بالرغم من نهضتها الاقتصادية الملفتة في السنوات الأخيرة بقي اقتصادها يعاني من مشاكل بنوية عديدة.
و في حين تعمد الإدارة الأمريكية لأن تصور أن سبب الأزمة هو قضية القس روبنسون الموضوع تحت الإقامة الجبرية بموجب حكم القضاء التركي في قضايا تجسس و دعم الإرهاب، يذهب الكثير من المحللين إلى ما وراء هذا السبب معتبرينه الفتيل الذي فجر الأزمة الموجودة أصلاً بين البلدين.
بدايةً، يمكن أن نعزو خيار الحرب الاقتصادية لسببين رئيسيين: أولهما هو أن الاقتصاد و ضعف الليرة هي الخاصرة الرخوة التي يمكن ضرب الإدارة التركية من خلالها، فبعد أن تمكنت الإدارة التركية من سد العديد من الثغرات التي شكّلت نقاط ضعف بالنسبة لها في الماضي كالتخلص من خطر تدخل القوات المسلحة في السياسة، و تطهير مفاصل الدولة من تنظيم غولن الإرهابي جزئياً و تحييد خطر حزب العمال الكردستاني (PKK) من خلال عدة ضربات استباقية، بقي الاقتصاد هو نقطة الضعف الوحيدة التي يمكن توجيه ضربة موجعة لتركيا من خلالها، خاصةً و أن النهضة الاقتصادية التي شهدتها تركيا في عهد حزب العدالة و التنمية هي من أهم العوامل التي مكنته من المحافظة على قاعدته الشعبية في السنوات الماضية.
على الرغم من التقدم الذي أحرزته إدارة ترامب في العديد من الملفات، إلّا أن العديد من المحللين، يرون أن الإدارة الأمريكية تبالغ في أستخدامها لأسلوب العقوبات و أن هذا الأسلوب غير مجدي في العديد من الحالات
السبب الثاني وراء تفضيل الحرب الاقتصادية: هو أن الإدارة الأمريكية الحالية تلجأ عموماً إلى العقوبات الاقتصادية و حرب التعرفة الجمركية لتنفيذ أجنداتها، أكثر من لجوئها لأي من أدوات السياسة الخارجية الأخرى و يعزو المحللين الأمر إلى السيرة الذاتية للرئيس الأمريكي التي جعلته مُلماً بالاقتصاد أكثر من وسائل القوة المادية الأخرى (العسكرية)، فضلاً عن القوة الناعمة.
و هذا ما يفسر استخدام الإدارة الأمريكية لأسلوب العقوبات ضد كوريا الشمالية، روسيا ، إيران و تركيا أخيراً، كما يفسر اعلانها لحرب تعرفة جمركية ضد منافستها التقليدية الصين.
و على الرغم من التقدم الذي أحرزته إدارة ترامب في العديد من الملفات، إلّا أن العديد من المحللين و منهم آدم تايلور المحلل و كاتب الرأي في الواشنطن بوست يرون أن الإدارة الأمريكية تبالغ في أستخدامها لأسلوب العقوبات و أن هذا الأسلوب غير مجدي في العديد من الحالات و يخص تايلور الحالة الإيرانية بالذكر في مقاله حيث يرى أن العقوبات الاقتصادية و إن كانت تضر بإيران داخلياً، إلا أنها تعرقل المفاوضات و بالتالي تقف حاجزاً دون الوصول إلى تسوية سياسية.
يضعنا هذا أمام مجموعة من التساؤلات حول فاعلية ديبلوماسية الدولار في تحقيق الأهداف الأمريكية بما يخص تركيا، و عن مستقبل و مآلات الأزمة الحالية و تأثيرها في العلاقات الدولية عموماً.
فاعلية ديبلوماسية الدولار في أزمة أمريكية – تركية عميقة أصلاً:
كثيراً ما تحدثت وسائل الإعلام عن الانزعاج و الضيق الذي تسببه السياسات الأمريكية في أنقرة منذ آواخر فترات أوباما و صولاً للفترة الحالية، ابتداءً من ترك العراق لتنهشه الميلشيات الطائفية و من ثم دعم الأكراد في شمال العراق و نهج الولايات المتحدة في شمالي سوريا، فضلاً عن الشكوك التركية حول الدور الأمريكي في محاولة الانقلاب في الخامس عشر من تموز، و رفض الطلبات المتكررة لتسليم غولن للأتراك، كل هذه الأمور تبرر انزعاج الأتراك من الولايات المتحدة، لكن ما هو سبب انزعاج الولايات المتحدة من الأتراك؟
الإدارة التركية لم تنفك تهدد الولايات المتحدة بالتوجه شطر موسكو و بكين إذا لم تحصل على الشراكة المبنية على التكافؤ و هو ما تُرجم بالعديد من ملفات التعاون كان أهمها شراء أنقرة لصفقة صواريخ (S400) من روسيا
إذا أردنا أن نفهم ما الذي تريده الولايات المتحدة من تركيا يمكننا أن نجد العديد من الأمثلة التاريخية المشابهة حيث مرت العلاقات بين البلدين تاريخياً بأزمات متعددة جاء أعمقها عقب قيام القوات المسلحة التركية بعملية في جزيرة قبرص مما ازعج الولايات المتحدة التي ترجمت انزعاجها بالتخلي عن دعم حليفها الاستراتيجي في ما سمي آنذاك برسالة جونسون و بعدها بالقيام بحظر بيع الأسلحة لتركيا في عام (1975) ، والذي دفع بالساسة الأتراك للتقارب مع القوة العظمى الثانية و هي الاتحاد السوفيتي، و نبههم إلى ضرورة إنتاج أسلحتهم بمعزل عن التحالفات.
وما اشبه اليوم بأمس حيث أن الإدارة التركية لم تنفك تهدد الولايات المتحدة بالتوجه شطر موسكو و بكين إذا لم تحصل على الشراكة المبنية على التكافؤ و هو ما تُرجم بالعديد من ملفات التعاون كان أهمها شراء أنقرة لصفقة صواريخ (S400) من روسيا و هو أحد أهم أسباب انزعاج الولايات المتحدة من تركيا.
وجاءت الإنتكاسة الأخرى عندما رفض البرلمان التركي السماح للولايات المتحدة باستخدام القواعد الجوية التركية لضرب العراق في (2003) لتعقبها فترة ركود في العلاقات لم تنته إلا بمجيء إدارة أوباما.
إذاً فإن تفرد أنقرة بالقرار السيادي هو أمر غير مرحب به من قبل واشنطن التي تريد حليفاً أكثر انضباطاً، و يمكننا أن نلخص السياسات التركية التي تعتبرها واشنطن تغريداً خارج السرب و هي تجاهل الأتراك للعقوبات المفروضة على طهران (بسبب حجم التبادل التجاري الهائل بين البلدين)، و تدخل الأتراك لصالح قطر في الأزمة الخليجية الأخيرة على حساب المملكة العربية السعودية و الإمارات العربية المتحدة اللتان تبدوان أكثر تأثيراً في الإدارة الأمريكية، كما و التقارب التركي مع كل من روسيا و إيران في ملف الأزمة السورية و صفقة صواريخ ال (S400) مع روسيا، و أخيراً الإجراءات التركية التي تبعت قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس و منها حشد الرفض للقرار من خلال منظمة التعاون الإسلامي و طرد السفير الإسرائيلي بشكل مُذلّ من أنقرة.
ترامب يكترث لخلق وظائف جديدة في بلده، رفع عائداتها من الرسوم الجمركية، أو إعادة ”رجل مسيحي محترم“ محتجز في بلد أجنبي، أكثر من اكتراثه للناتو أو لتوازن القوى في الشرق الأوسط
كل هذا يمكن أن يُفهَم في واشنطن على أن تركيا الحليف الاستراتيجي القديم قد اقتربت كثيراً من معسكر الأشرار، لذا كان لا بد من تأديبها من خلال العبث بأمنها و استقرارها السياسي تارةً و أمنها الاقتصادي تارةً أخرى و لأن الخيار الأول لم يعد متاحاً بعد أن عزّز الرئيس التركي من صلاحياته ديمقراطياً، من خلال الاستفتاء لتغيير نظام الحكم و انتخابات رئاسية و برلمانية مبكرة و من ثم أرسى استقراراً سياسياً مؤقتا من خلال إعلان العمل بقانون مكافحة الإرهاب لمدة ثلاث سنوات (بديل لقانون الطوارئ)، فكان خيار واشنطن المتاح هو العبث بأمن تركيا الاقتصادي.
و يبقى السؤال الأهم هل ستنجح الولايات المتحدة في تأديب تركيا من خلال انتهاج ديبلوماسية الدولار؟
في الحقيقة إن فرضية تايلور حول عدم جدوى العقوبات في تحقيق الأهداف السياسية فيما يخص إيران يمكن أن تنطبق على تركيا، التي تحرص بشكل كبير على الظهور ضمن ملعب الكبار من خلال إصراراها على النديّة في العلاقات الخارجية. مما يجلعني أكاد أجزم أن الأتراك لن يفرجوا عن القس المحتجز نهائياً، لأن الإفراج عنه سوف يضر بسمعة القضاء التركي و يظهر الرئيس إردوغان بمظهر الديكتاتور الذي يتدخل لتسييس القضاء، و هو الأمر الذي سيضر بسمعته داخلياً و خارجياً.
أما عن خيار الأخير بالرد من خلال نشره لمقال في النيويورك تايمز، فلقد رآه الكثيرين خياراً غير موفقاً، و هنا لا بد من أن أعود لما نشره إيشان ثارور المحلل المتخصص في الشؤون الخارجية في الواشنطن بوست، و الذي اعتبر أن الرئيس إردوغان يعول بشكل مبالغ فيه على تاريخ العلاقة بين البلدين و على أهمية بلده الجيواسترتيجية بالنسبة للناتو، في الوقت الذي يظهر ترامب غير مهتماً بحلف الناتو و لا في الجيوبولتيك. و أعتقد أن فهمي الشخصي لإدارة ترامب لا يختلف كثيراً عن وجهة نظر إيشان، لأن الرئيس الأمريكي غالباً ما يعتمد في علاقاته الخارجية على استثنائية الولايات المتحدة أو ما يطلق المختصين عليه (The American Exceptionalism)، و هو ما ظهر جليّاً في الشعار الذي اعتمد عليه ترامب في حملته الانتخابية ”لنعيد بلدنا عظيماً مرة أخرى“.
بالنسبة لتركيا التي كان تأثير الحرب الاقتصادية عليها أكثر إيلاماً من إيران، نظراً لكونها تنتهج اقتصادية السوق المفتوح، و لأن المواطن التركي يعيش حياةً أكثر رفاهية و أكثر اعتماداً على التكنولوجيا من نظيره الإيراني. فإنها سوف تعاني أكثر على المدى القريب
إذاً فإن ترامب يكترث لخلق وظائف جديدة في بلده، رفع عائداتها من الرسوم الجمركية، أو إعادة ”رجل مسيحي محترم“ محتجز في بلد أجنبي، أكثر من اكتراثه للناتو أو لتوازن القوى في الشرق الأوسط، و هذا ما يدفعني لإفتراض أن الأزمة ستطول و تتشعب أكثر.
أما بالنسبة لتركيا التي كان تأثير الحرب الاقتصادية عليها أكثر إيلاماً من إيران، نظراً لكونها تنتهج اقتصادية السوق المفتوح، و لأن المواطن التركي يعيش حياةً أكثر رفاهية و أكثر اعتماداً على التكنولوجيا من نظيره الإيراني. فإنها سوف تعاني أكثر على المدى القريب و لكن هذه المعاناة قد تكون بدايةً لحزمة من الإصلاحات الاقتصادية و تغيير السياسات التجارية بغرض الموائمة و التأقلم، الأمر الذي قد ينعكس بشكل أكثر إيجابية على المدى البعيد.
لقد أغفلت إدارة ترامب تأثيرين بالغين في الأهمية نتجا عن قرارها، أولهما هو تأثير القرار على السيكولوجية الجمعية في تركيا، فلقد زاد القرار من حدة النفَس القومي في تركيا و بالتالي زاد من عناد الشعب و التفافه حول إردوغان، و هو الأمر الذي يضع الإدارة التركية في معضلة الناخبين مقابل حل الأزمة، و التي و بكل تأكيد سيرجح إردوغان فيها ناخبيه.
أما العامل الثاني فهو حجم الاستثمارات الأوروبية في تركيا و الذي يعني أن إفلاس أول مصرف تركي سيكون أول حجر دومينو في أزمة اقتصادية قد تكون أسوأ من أزمة (2008) و ستطال أوروبا فضلاً عن الولايات المتحدة ذاتها، (ظهر هذا جلياً في انخفاض مؤشر داو جونز بشكل مرافق لإنخفاض الليرة التركية)، و هنا سيتم لوم العنجهية الأمريكية، كما تلام اليوم على وضعها قيوداً أمام تحرير التجارة الدولية و الذي ترجم على شكل انزعاج أوروبي-كندي من ترامب شخصياً في قمة العشرين الأخيرة.
في النهاية، إن الدعم السياسي الذي تتلاقاه أنقرة، من روسيا و الصين و قطر و إيران و أكبر الدول الأوروبية ألمانيا (نظراً لحجم استثماراتها الضخم في تركيا)، سوف يحدُّ بلا شك من آثار تلك الحرب الاقتصادية، خاصّةً و أن تركيا تريد أن تدخل إلى ملعب الدول المنتجة للتكنولوجيا و أن الصين ظهرت مستعدة للتعاون في مشاريع تعتمد على الشراكة المتكافئة.
لكن يبقى أن أشير إلى أن تغيير التحالفات و التوجه نحو شراكات بديلة سوف يتطلب من الإدارة التركية المزيد من البراجماتية، لذا لا بد من تجاوز بعض الملفات الشائكة قبل تحقيق تلك الشراكات مثل ملف الأزمة السورية مع روسيا، و ملف الانضمام للاتحاد الأوروبي مع أوروبا، و ملف الأقليات المسلمة (الأويغور) مع الصين، و هنا يعوّل على تمكن صناع القرار الأتراك من احتواء الأزمة داخلياً من خلال إصلاح الاقتصاد و انتهاج سياسة أكثر براجماتية وأقل مثاليّة خارجياً بهدف إيجاد شركاء جدد.