العمارة هي التعبير الجسدي عن الإيديولوجية السائدة في زمانها. فأي مبنى يعكس قيم وأهداف الحكومة من خلال شكلها، واختيار قيمها المادية ورمزيتها. فبقدر ما يمكن للبناء الذي يعتبر عملاً معماريًا فنيًا أن يخدم وظيفة معينة، يمكن أيضًا كونه استعارة بصرية أن يعلن شيئًا بطريقته الخاصة عن القوة والوجود والقوة والحماية وهيكلية المؤسسة التي تمثلها. سنستعرض فى هذا المقال بعض الأمثلة الموضحة للفروقات المعمارية فى دول اليمين واليسار.
بينما تُعطي الحكومات اليسارية القيمة الأكبر معماريًا الى المساحات العامة مروجة لاستخدامها من قبل الجميع، ترى الحكومات اليمينية ترى الفضاء كسلعة يستخدمها من يشتريها، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
هناك اتجاه نحو خصخصة الفضاء العام في المدن في جميع أنحاء العالم، حيث يتم إنشاء المشاريع الجديدة بشكل خاص، أو يتم شراء الفضاء العام الحالي وجعله يبدو وكأنه مكان عام، ولكن من دون السماح بحرية التعبير التي من المفترض أن يتميز بها أي فضاء عام.
الحكومات تتدخل أو تُملي في بعض الأحيان توجهاتها على بناء المساكن الخاصة أو الاجتماعية
أما بالنسبة للحكومات الاشتراكية فإنها تستثمر بشكل كبير في البنية التحتية العامة والمباني العامة رفيعة المستوى، وذلك باستخدام الأموال المجموعة بواسطة الضرائب، فعلى سبيل المثال قام فرانسواه ميتراند بعدة مشاريع عملاقة بباريس في نهاية القرن العشرين كالمتاحف ودور الأوبرا والمكتبات والتي بُنيت لنشر الثقافة واستعراض التقدم الفرنسي. وعلى النقيض، تقوم الحكومات المحافظة بالسماح بالمشاريع الخاصة لتعيد تشكيل المدن عن طريق الرعاية والاستثمار تعزيزا للثقافة ولكن كناتج ثانوي للربح.
وعلى جانب آخر، فإن الحكومات تتدخل أو تُملي في بعض الأحيان توجهاتها على بناء المساكن الخاصة أو الاجتماعية، فنرى الحكومات اليسارية تضع أهمية لقطاع المساكن الاجتماعية في حين تترك الحكومات اليمينية زمام الأمور للسوق الخاصة وبالتالي فان توافر وتحديد نوع واحد من أهم الاحتياجات المعمارية وهو المنزل متروك في أيدي السياسيين.
رسم تخيلي لبرج تاتلين
مع اشتعال الثورة الاجتماعية في روسيا عام 1917 بقيادة فلاديمير لينين، ظهرت ثورة معمارية في الشكل والتقنية. كان رفض الماضي، والخطوط الديناميكية المائلة، واستخدام اللون الأحمر، والتقدم الهائل في الصناعة والتكنولوجيا ، كلها مظاهر مادية للحكم الثوري. فكان ظهور الحركة البنائية في روسيا والتي كان من أشهر أمثلتها برج تاتلين “الذي لم يُنفذ” والذي صممه المعماري فلاديمير تاتلين. ومع تعاقب الزعماء من ريكوف الى ستالين، بدأت الروح الثورية في التبدد، وأصبحت الهندسة المعمارية أكثر كلاسيكية وصلبة مظهرا، تم الرجوع إلى الماضي باستخدام كتل خرسانية متلاصقة مزينة بزخارف من العمارة الكلاسيكية والقوطية كمبنى جامعة موسكو الذي بني عام 1953 والذي يمثل نوعا من الكلاسيكية الاشتراكية!
وكما ذكر المعماري والمنظر الشهير ريم كولهاس أن العمارة ليس بإمكانها تغيير المجتمع فقط، وإنما تعكس السياسة الحاضنة لها
جامعة موسكو
على صعيد آخر، فلننظر إلى أمريكا في عهد الرئيس كينيدي، الذي كان مولعًا بسباق الفضاء ومولعًا أيضًا بالحداثة المسيطرة على العمارة. فبدأت العمارة المستقبلية في الظهور والتي تعتمد على أشكال بدت وكأنها من مواد الخيال العلمي. كمطار لوس أنجلوس الذي بني في عام 1961 على سبيل المثال. هذه العمارة على سبيل المثال كانت في تناقض صارخ مع عمارة عصر الرئيس ريجان التي شهدت صعود السكنات ذات البوابات المعزولة عن الخارج بشكل محافظ يعكس سياسة الحكومة التي تشجع الخصخصة والفردية.
أوضحت في الأمثلة السابقة كيف أثرت السياسة واتجاهاتها على كل جانب من جوانب العملية المعمارية. وهذا يوجب أن يشارك المعماريون سياسيًا في فهم العوامل التي تؤثر على عملهم والاستجابة لها بشكل كامل. العمارة مشروع حضري واسع الانتشار، والمعماريون ما هم إلا حاضنوا بوجه عام للثقافة الحاكمة، المعماريون بوجه عام لا علاقة لهم بوجه مباشر بالسياسة ولكن متصلين بها بشكل ما أو بآخر. وكما ذكر المعماري والمنظر الشهير ريم كولهاس أن العمارة ليس بامكانها تغيير المجتمع فقط، وإنما تعكس السياسة الحاضنة لها. ويظل السؤال هنا، هل من الممكن أن يثور المعماري على النظام المحيط به أو على الأقل يلتف نوعا ما عليه وعلى اشتراطاته؟ هذا ما سنعرفه في المقال القادم بإذن الله.