يسبق تكبيرة صباح العيد يومٌ طويل ممتع، يذهب الطنْجَاويون من الرجال مع أطفالهم إلى الأسواق لشراء “الحَوْلِي” أي خروف العيد، جميعهم يضحُّون، على عكس غزة التي سرقها الحزن والحصار، فلا تتجاوز من يضحي فيها 30%، أما النساء فيذهبن إلى الخيَّاطين لإحضار ثوب العيد “الجلَّابة” المطرزة بالحُلي، والمحفّفة يدوياً بالنقش والخيط الملون في طنجة.
بشكل مشابه تماماً لغزة تملأ رائحة الطعام أزقة الشوارع والمخيمات أول أيام العيد في مدينة طنجة شمال المغرب، أو ما يحلو تسميتها “طنجة العالية”، لعلها ميزة مشتركة بين غزة وطنجة، لكن المختلف أن المغاربة يفضلون الشواء مباشرة كإفطار أول أيام عيد الأضحى المبارك، يشوون الكبد والطحال دون اللحم، في حين يفضل أهل غزة المقلي بالزيت من الكبد والطحال وبعض الفيليه والفلفل شديد الحرارة.
في غزة تقطع الأضحية وتوزع غالبيتها على الناس لأن الحاجة كبيرة، والتيار الكهربائي المنقطع يمنع الناس من تخزين اللحوم، فيتسابقون بعدم إبقاء شيء من اللحم إلا القليل حتى لا يتلف
المشهور في غزة العجول وقليل من يستطيع أن يضحي بالخراف لأنها مرتفعة السعر، فقد يصل سعر الخروف الواحد 600 دولار، لكن هذا السعر من الممكن أن تشتري به خروفين من نوع “السُّردي” في طنجة المغربية، فهم لا يضحوون مشتركين بالعجل، كل واحد يشتري خروفه للبيت، طبعاً لحم الضأن أطيب لكن لكل مدينة ظروفها.
غذاء يوم العيد ماذا يكون؟
نعود لطنجة، أسطح المنازل متشابهة، تُعلَّق الأضاحي عليها في الهواء بعد ذبحها حتى تنشف من الماء ويتصفى دماؤها، قبل أن تصبح بعد يومين من تعليقها في الهواء جاهزة للأكل، يومان وليلة حتى تجف الأضحية، أما عن غذاء يوم العيد في طنجة ستتعجب أنه ليس من لحم الأضحية أيضاً بل من أمعاءها، حيث يطهون أمعاء الخروف ومعدته مع الطماطم والبصل.
في غزة تقطع الأضحية وتوزع غالبيتها على الناس لأن الحاجة كبيرة، والتيار الكهربائي المنقطع يمنع الناس من تخزين اللحوم، فيتسابقون بعدم إبقاء شيء من اللحم إلا القليل حتى لا يتلف، ولكن في اليوم الأول يكون الطعام دسماً جداً، كثير من اللحم المسلوق على خبز “الصاج” والأرز الأبيض يقدًّم، وتؤكل الفوارغ في الأيام اللاحقة لكن ليس لها موعدٌ محدد كما طنجة، ولا تعلق الأضحية حتى تجف.
الشحم والقدّيد غاب عن غزة وبقي في طنجة
من الضروري عند جمع الأضحية أن تبدع النساء كبار السن في طنجة بعمل القدِّيدْ، وهو اللحم الخفيف الذي يحمي القفص الصدري للخروف، يجفف بعد أن يضاف عليه الملح ويبقى معلقاً لأسبوعين، ويأكلونه طوال العام دون الحاجة لثلاجات، أما “الخَّليع” المغربي فهو نفس اللحم يطهى بالشحم والملح، ويحفظ في برطمانات طوال العام دون تلف، يطعِّمون به الطعام مستقبلاً، بإضافة ملعقة على الطّاجين.
حكاية الأطفال متشابهة في كلتا المدينتين، يقبل عليهم الطنجاويون بقليل من الأموال، بضع دراهم يفرحون بها، يشعرون بالعيد وحدهم، أما في غزة الأطفال وحدهم الذين لا يشعرون بمعاناة الكبار في ظل الحصار، يبحثون بين الجيوب عن بضع شواقل هدية أو ما نسميه “عيدية”
أما في الجنوب بعيداً عن طنجة التي تقع في الشمال، يصنعون من لحم الأضحية شيئاً عجيباً، ذو طعم غريب وطري، يسمونه “الكُرْدَاس” وهي قطع من معدة الأضحية توضع فيها الرئة مع بعض الغضاريف وتربط بالأمعاء الدقيقة، لكن السر في حفظها لفترات طويلة هو الأعشاب والتوابل المستخدمة فيها، وخصوصاً الحار والخل والملح والكمون وزيت الزيتون، ثم تعلق في الهواء الطلق، وتحفظ في الثلاجة أو خارجها.
حكاية الأطفال متشابهة في كلتا المدينتين، بتاريخهما العريق، ملاحم سطرت في طنجة منذ طارق بن زياد وأخرى في غزة منذ صلاح الدين الأيوبي، لكن الأطفال هم العيد، يقبل عليهم الطنجاويون بقليل من الأموال، بضع دراهم يفرحون بها، يشعرون بالعيد وحدهم، فالمدينة تفرغ إلا من سكانها الأصليين، كل من يعمل فيها يعود لمدينته الأصلية أو قريته وتبقى تحتضن أهلها في الأعياد، في المنتزهات وفي الساحات الخضراء يجتمع الأطفال مع عوائلهم في أيام العيد يرددون الموسيقى الأندلسية التي تعرف فيها مدن الشمال المغربي العريقة، من الضروري إذاً زيارة ساحة طنجة القديمة في اليوم الثاني والثالث للعيد، فيها تقام الموشحات الأندلسية وموسيقى “المالوف”.
أما في غزة الأطفال وحدهم الذين لا يشعرون بمعاناة الكبار في ظل الحصار، يبحثون بين الجيوب عن بضع شواقل هدية أو ما نسميه “عيدية”، يلعبون بها على مراجيح صغيرة نصبت في أزقة المخيمات أو على أبواب البيوت، ويحاول الكبار كل جهدهم لإسعاد الصغار، وإمتاعهم في العيد، وهم يهرولون وراء الشاحنات التي تحمل الأضاحي وتصطف بها على أبواب المنازل، أو آخر النهار على المراجيح… هكذا يمضي العيد في كلتا المدينتين.