أنهى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خدمة 11 مستشارًا عسكريًا وأمنيًا دفعة واحدة، من بينهم وزيرا داخلية سابقان، وقادة عسكريون، وبعض الشخصيات المقربة منه بشكل شخصي، دون إبداء أي أسباب، في خطوة هي الأولى من نوعها منذ توليه السلطة في 2014، حسبما نشر موقع “مدى مصر“.
واعتاد السيسي منذ اعتلائه سدة الحكم في مصر تعيين القيادات التي يقيلها من مناصبها الرسمية داخل المؤسسة العسكرية والأمنية (شركاؤه في الانقلاب العسكري 2013)، في مناصب استشارية تابعة له، كنوع من التكريم وحفظ ماء الوجه لتلك الأسماء، أو محاولة لامتصاص الغضب والاحتقان الناجم عن الإقالة التي في الغالب تكون غير مسببة.
بهذا القرار المفاجئ والفريد من نوعه من حيث العدد ونوعية الأسماء المطاح بها، الذي حمل رقم 292 لسنة 2024، وصدّق عليه الرئيس في 12 يوليو/تموز الماضي، ودخل حيز التنفيذ بداية من أول أغسطس/آب الماضي، يكون السيسي قد تخلص نهائيًا وبشكل كامل من كل شركائه في الانقلاب، سواء من كانوا في مناصب رسمية أم من عينوا كمستشارين له في مؤسسة الرئاسة بعد إقالتهم، ما عدا وزير الدفاع السابق، الفريق أول محمد زكي، المعين مساعد رئيس الجمهورية لشؤون الدفاع، ورئيس الأركان السابق، الفريق أسامة عسكر، المعين مستشار الشؤون العسكرية، الأمر الذي يطرح الكثير من التساؤلات بشأن هذا الإصرار السيساوي على الإطاحة ببقايا الحرس القديم وتنحيتهم جذريًا عن المشهد بأكمله.
انقلاب على الحرس القديم
تضمن قرار الإطاحة العديد من الأسماء المقربة بشكل شخصي من السيسي، التي كانت تتمتع بمكانة كبيرة لديه حتى قبل أن يصبح رئيسًا للجمهورية، على رأسها وزير الداخلية الأسبق، اللواء أحمد جمال الدين، الذي عُين وزير للداخلية في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، ولم يستمر في منصبه سوى 3 أشهر فقط قبل أن يقيله الرئيس في أعقاب أحداث الاتحادية، ليعينه الرئيس المؤقت عدلي منصور في يوليو/تموز 2013 مستشارًا للأمن الداخلي، ثم عينه السيسي فيما بعد مستشار الرئيس للشؤون الأمنية ومكافحة الإرهاب منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2014.
كذلك وزير الداخلية الأسبق، اللواء مجدي عبد الغفار، الذي عينه السيسي في هذا المنصب في مارس/أذار 2015، وكان أحد أهم الأذرع التي اعتمد عليها الرئيس المصري في القضاء على جماعة الإخوان المسلمين وضرب مرتكزاتهم، كونه كان مديرًا سابقًا لجهاز الأمن الوطني (أمن الدولة سابقًا)، وبعد إقالته من منصبه كوزير للداخلية في يونيو/حزيران 2018 عينه السيسي في وظيفة مستشار الرئيس لشؤون الأمن ومكافحة الإرهاب.
ومن الأسماء التي طالتها يد الإطاحة، رئيس هيئة قناة السويس السابق، الفريق مهاب مميش، الذي تولى رئاسة الهيئة في عهد مرسي 2012 واستمر بها حتى أصدر السيسي قرارًا في أغسطس/آب 2018 بتعيينه مستشارًا له لمشروعات محور قناة السويس والموانئ البحرية، والذي كان يعتبره البعض من أكثر المقربين من السيسي في ظل التناغم والتنسيق الواضح الذي كان بينهما.
وظل مميش مقربًا من السيسي حتى ديسمبر/كانون الأول 2022 حين أدلى بتصريحات صحفية انتقد خلالها مشروع قانون لإنشاء صندوق هيئة قناة السويس، الذي دعمه الرئيس نفسه، حيث اتهم هذا الصندوق بأنه سيفتح الباب لوجود الأجانب في إدارة القناة، وهو ما قلب الطاولة عليه فيما بعد، وجعله عرضة لغضب رئيسه المقرب.
هناك كذلك رئيس هيئة الرقابة الإدارية الأسبق، اللواء محمد عرفان، الذي أطاح به السيسي من منصبه كمستشار لرئيس الجمهورية للحوكمة والتحول الرقمي، الذي عُين فيه في أغسطس/آب 2018، وكان يعد من الأسماء ذات الثقة والمصداقية لدى السيسي ونظامه، حيث عينه رئيسًا لـ”الرقابة الإدارية” في مارس/أذار 2014 ولمدة 4 سنوات، لكنه فاجأ الجميع بإبعاده عن منصبه بعد عام واحد فقط بما يخالف الدستور والقانون، ويشير البعض إلى أنه كان شخصية حازمة، وهو ما يتعارض بطبيعة الحال مع طموح نجل السيسي (مصطفى) في أن يصبح الرجل الأول داخل الهيئة.
ومن أبرز الأسماء التي شملها قرار إنهاء الخدمة رئيس هيئة الرقابة الإدارية الأسبق، اللواء محمد عمر وهبي هيبة، الذي كان يشغل منصب مستشار رئيس الجمهورية لشؤون مكافحة الفساد، ومستشار الرئيس للمتابعة، اللواء محسن السلاوي، الذي كان يعمل مستشارًا لوزير الدفاع الأسبق محمد حسين طنطاوي، بجانب إنهاء خدمة قائد قوات الدفاع الجوي الأسبق، الفريق علي فهمي، من منصبه كمستشار عسكري برئاسة الجمهورية، والذي شغله منذ ديسمبر/كانون الأول 2020، وإنهاء خدمة القائم بأعمال رئيس هيئة الرقابة الإدارية السابق، اللواء حسن عبد الشافي، من عمله كمستشار برئاسة الجمهورية، الذي تقلده بداية من أغسطس/آب 2022، وقائد قوات الدفاع الجوي السابق، الفريق محمد حجازي عبد الموجود منازع، الذي عين مستشار برئاسة الجمهورية العام الماضي.
الإطاحة بشركاء الانقلاب
منذ أن فرض السيسي سيطرته الكاملة على السلطة عقب الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2013، بدأ في مرحلة التخلص رويدًا رويدًا من شركاء هذا الانقلاب، عبر سياسة التدوير والتغيير المستمرة في المناصب القيادية، خاصة أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أبرز داعميه في الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي.
وكانت الضربة الأبرز في هذا المسار الإطاحة بشريكه الأول في الانقلاب، الفريق صدقي صبحي وزير الدفاع الأسبق، في يونيو/حزيران 2018 وتعيين قائد الحرس الجمهوري إبان فترة مرسي، الفريق أول محمد زكي بدلًا منه.
ثم توالت سلسلة الإطاحات، وكان من أبرزها إقالة مدير المخابرات الحربية اللواء محمد فرج الشحات، ونقل قائد المنطقة الغربية العسكرية اللواء شريف فهمي بشارة إلى منصب مدير أكاديمية ناصر للعلوم العسكرية، كذلك تنحية كل من قائد القوات الجوية المصرية الفريق يونس المصري، ورئيس هيئة تسليح القوات المسلحة اللواء أركان حرب عبد المحسن موسي، بجانب الإطاحة باللواء أركان حرب محمد رأفت الدش من منصبه كقائد للجيش الثالث الميداني، واستبعاد رئيس هيئة العمليات اللواء أركان حرب وحيد عزت من منصبه، وتزامن مع إقالة قائد المنطقة المركزية العسكرية اللواء أركان حرب أيمن عبد الحميد عامر في أكتوبر/تشرين الأول 2018.
وأطاح السيسي على مدار الـ10 سنوات الأخيرة بأكثر من 12 من أعضاء المجلس العسكري الذين كانوا موجودين في أثناء الانقلاب العسكري وما قبله، في حملة تطهير ممنهجة، تخلص بها من كل شركائه في الانقلاب، فلماذا أقدم السيسي على هذه الخطوة رغم ما تحمله من مخاطر؟
ترسيخ حكم الفرد
يشير الخبراء العسكريون والسياسيون على حد سواء، إلى أن معظم قادة الانقلابات العسكرية على مر التاريخ وفي مختلف دول العالم، دومًا ما يسعون للإطاحة بالوجوه القديمة وشركاء العملية، بعد تثبت أركان الحكم والاطمئنان لاستتباب السلطة، في محاولة لترسيخ حكم الفرد وإنقاذ السلطة من براثن التشاركية وتعدد الأسماء والشركاء.
وفي الحالة المصرية كان الأمر بمثابة انقلاب على الانقلاب، بمعنى إطاحة السيسي ليس فقط بشركائه في تلك الجريمة، بل بالصفوف الثلاث الأولى من القيادات الموجودة في أثناء عمليته في 2013، في محاولة لتصفية الساحة عن بكرة أبيها وجز العشب من جذوره.
وعليه انقلب السيسي في المرحلة الأولى على قادة أجهزة الجيش، ثم قادة جهازي المخابرات العامة والحربية، وصولًا إلى المؤسسات الأمنية بشتى إداراتها، أما في المرحلة الثانية فانتقل لقادة أفرع المؤسسة العسكرية حيث أجرى تغييرات جذرية لم تُبقِ قائدًا في مكانه، وصولًا للمرحلة الثالثة والأخيرة والمتعلقة بالاستعانة برموز الصف الثالث وتصعيدهم لتولي المسؤولية وقيادة المؤسسة العسكرية لضمان الولاء التام.
الانقلاب ذاته قام به في الإدارات الحساسة كما هو الحال في جهاز المخابرات، حيث أطاح بمعظم رموزه وقادته وأنهى خدمة العشرات من وكلاء الجهاز، ووضع على رأسه صديقه ومدير مكتبه عباس كامل، مع التشديد على نظرية عدم استمرار أي قيادة في منصبها طويلًا، تجنبًا لتدشين ما يعرف بـ”مراكز القوى” داخل تلك المؤسسات.
قلق مستمر وثقة مفقودة
كل من أطاح بهم السيسي من قيادات الصف الأول من المؤسسة العسكرية والشرطية، كانوا على دراية كاملة بتفاصيل ما حدث منذ 30 يونيو/حزيران 2013 وما تلاها في 3 يوليو/تموز من نفس العام، وما بعدها من جرائم وانتهاكات ارتكبت بحق المعارضين والإسلاميين والدولة المدنية بصفة عامة، فهم لم يكونوا رفقاء له فيما تم فقط، بل لديهم الخطط الكاملة والتصور العام لما حدث، وشاركوه من قبل في الانقلاب على الرئيس المنتخب، ومن هنا كان القلق.
إذ إن بقاء الشركاء في مناصبهم مع تعددهم هكذا قد يمثل تهديدًا مباشرًا للسيسي نفسه، إذا ما تحولوا مع مرور الوقت إلى مراكز قوى حقيقية، بما لديهم من نفوذ بحكم مناصبهم القديمة واطلاع كامل على تفاصيل المشهد، ويتعزز هذا الخوف مع افتقاد السيسي للظهير السياسي والشعبي القادر على حمايته من أي انقلاب لهؤلاء الشركاء إذا تعارضت المصالح، فضلًا عن تجاهله لكل الأصوات من حوله، وتهميشهم جميعًا، والاستناد إلى صوته فقط دون غيره.
وفي تلك الأجواء الملبدة بغيوم القلق وعدم الاطمئنان، وتصاعد الاحتقان الشعبي، والجهر لأول مرة منذ سنوات تنديدًا بالسياسات ونظام الحكم الذي أغرق البلاد في مستنقع من الفقر والاستدانة، يبدو أن الرئيس فقد الثقة في كل من حوله، فبات يتحرك يمينًا ويسارًا يتخلص يومًا بعد يوم من الحرس القديم، ويحاول استقطاب قيادات صغيرة، أو ممن تركت الخدمة، تدين له بالولاء الكامل، مطيحًا باحتمالات تدشين مراكز قوى تصدر القلق له، حتى إن كان ذلك مستبعدًا في ظل القبضة الأمنية المشددة التي يهيمن بها على المشهد.
وهكذا يثبت السيسي عامًا بعد عام توجسه المستمر مما هو قادم، وفقدان حلقات الثقة فيمن حوله قوامها بشكل تدريجي، رغم ادعاءاته المغايرة لذلك ليلًا ونهارًا، محاولًا تدشين مرحلة جديدة من الحكم، لا يكون فيها شركاء له ولا شهود على جرائمه السابقة، ولا مصادر مطلعة على تفاصيل اللعبة تثير قلقه وتهدد مستقبله.