قبل بضعة قرون من الآن، كان للصحافة مهمة واحدة ليس إلا، وهي الخروج للبحث عن الحقيقة، حتى لو كلفهم الأمر أن يخرجوا بحثًا على الأقدام أو سفرًا بالطائرات أو دقًا على أبواب البيوت للحصول على إجابة ما، أو حتى لو كلفهم الأمر الوقوف وجهًا لوجه مع النظام الحاكم في المحاكم القضائية مدركين أن تبعات بحثهم عن الحقيقة ذلك قد يزج بهم في السجن ويطوي صفحات جريدتهم الصحافية إلى الأبد، إلا أن ذلك كله لم يهم ما دام الأمر كله من أجل إظهار الحقيقة ولعب دور مهم جعل من الصحافة سلطة رابعة في حد ذاتها.
بعد فوز دونالد ترامب في عام 2016 و إعلانه رئيسًا للولايات المتحدة، بدأ معه عصر وصفه الجميع بعصر الأخبار الكاذبة أو المزيفة، وهي الأخبار التي أوصلت بنفسها مرشحًا مثل دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية بعد اتهام حملته الانتخابية باستغلال منصات التواصل الاجتماعي وعلى رأس القائمة منصة فيسبوك للترويج للأخبار الكاذبة والمزيفة من خلال استهداف شريحة ضخمة من مستخدمي فيسبوك (حوالي 50 مليون مستخدم أمريكي) للتأثير على قراراتهم في التصويت الانتخابي.
خرج حينها فيلم “ذا بوست” الأمريكي بعد عام من رئاسة ترامب للولايات المتحدة، يروي الفيلم رواية الجريدة الأمريكية (واشنطن بوست) وصراعها الحماسي أمام الرئاسة الأمريكية دفاعًا عن حرية الصحافة واستقلالها، في السبعينات من القرن الماضي، بعدما أطاحت الجريدة التي نشرت وثائق مسربة من وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون عن تضليل السياسة الأمريكية طوال ثلاثين عامًا بخصوص حرب فيتنام، جاء الفيلم في سياق حرج جدًا بالنسبة للسياسة الأمريكية الحالية التي لاحقتها انتقادات واتهامات مُثبتة بدعم البيت الأبيض سياسة الأخبار الكاذبة والتضليل الإعلامي وتقييد الصحف وسلبها حريتها أمام الأنظمة والحكومات.
دافع فيلم “ذا بوست” عن حرية للصحافة دعت إليها الجريدة الأمريكية واشنطن بوست في سبعينات القرن الماضي في مفارقة في محلها لحالة الصحافة الحالية، حيث دافع الفيلم عن استقلالية الصحافة أمام الأنظمة التي هي نفسها تسلب من الصحافة الآن حريتها واستقلاليتها بعدما وضعت الأنظمة والحكومات قيودًا على حرية التعبير و قوانين “حماية الإنترنت” لتقييد الصحافة الرقمية أيضًا وتبرير حجبها عن الجماهير في تسييس واضح لرأي الصحافة.
أوراق بنما: صحوات الصحافة القليلة
سربت أوراق بنما أكثر من 11 مليون تسجيل وإثبات إدانة بجرائم مالية لشخصيات عامة وأنظمة حكومية
لا يكون الحديث عن الصحافة وحريتها الآن خارجًا عن السياق أبدًا، بعد التحديات التي تتعرض لها كل من الصحافة التقليدية والرقمية على حد سواء، كان آخرها اغتيال الصحفية المالطية “دافني كارونا غاليزا” التي قادت التحقيق الخاص بـ “أوراق بنما” الذي يفضح فساد العديد من الرؤساء والشركات والمشاهير والأثرياء من خلال تعاملاتهم التجارية الخارجية في أكثر من مئتي دولة و منطقة حول العالم، كانت أوراق بنما بمثابة عودة حية للصحافة بعدما جالت فترات طويلة من أزمات احترافية ومهنية وأخلاقية، وربما كانت صحوة الصحافة متمثلة في أوراق بنما تذكيرًا واضحًا بغياب دور الصحافة الاستقصائية في الصحافة العربية على وجه التحديد، وهذا ليس لإلقاء اللوم على الصحفيين بقدر ما هو إلقاء اللوم على إدارة الصحافة العربية وقوانين الرقابة.
أعادت أوراق بنما للصحافة الاستقصائية بريقها من جديد مركزة على أن الصحافة الرقمية لم تفقد الصحافة التقليدية بريقها بل على العكس ساعدت من عمل على مشروع أوراق بنما كسر الحدود والفروقات الزمنية للعمل معًا ضمن مشروع صحفي استقصائي واحد تسبب في إحياء دور الصحافة من جديد كونها سلطة رابعة لا تقل أهمية عن السلطات التنفيذية والتشريعية بل أحيانًا تكون محركة لتلك السلطات بشكل أو بآخر.
كما أعادت أوراق بنما للأذهان بأن ممولي محتوى الصحافة غير مهتمين بتمويل محتويات كمحتوى أوراق بنما المسرب عن شخصيات عامة في أكثر من 200 دولة حول العالم، وهو ما جعل الفرق الصحفية الصغيرة أن تعمل بجد أكثر من ذي قبل، لكي تستطيع أن تجعل أصواتها مسموعة وتستطيع بشكل أو بآخر أن تتحدى النظام الحاكم دون الوقوع في معضلة الصحف الضخمة التي تستعين بالحاكم لتسديد ديونها كونها تحولت تدريجيًا إلى نماذج ربحية وشركات يستثمر فيها الأغنياء للسيطرة على رأي الصحافة في صالحهم.
الركض لتوصل الخبر أولًا
Yes, it is me, the journalist in the blue dress, running after the #ManafortTrial verdict. Thank you @Jacquelyn_M for the photo! #GoBlueDressGo pic.twitter.com/IkOM7VbWC5
— Cassie Semyon (@casssemyon) August 21, 2018
“نعم هذه أنا، الصحفية في الفستان الأزرق التي تركض عقب محاكمة “مانفورت”
إن كنت شاهدت فيلم الدراما الصحفية “ذا بوست” ستتذكر أن في السبعينات من القرن الماضي كان مشهد ركض الصحفيين لإيصال الخبر أولًا شائعًا للغاية، أو ركضهم من أجل الوصول إلى مصدر ما ومحاولتهم البحث عن الحقيقة لنشرها في صورتها المجردة من التسييس والحزبية، إلا أننا الآن في عام 2018 لا يعتبر مشهد ركض الصحفي وراء الخبر أمرًا اعتياديًا، بل يقع في معضلة الصحافة التقليدية أمام الصحافة الرقمية، وعلى كل حال لماذا قد يضطر صحافي للركض في زمن الهواتف الذكية والاتصالات بالفيديو والتغريدات اللحظية والتصوير المباشر وإرسال الرسائل النصية الفورية؟
عاد مشهد الصحفي الذي يركض لإيصال الخبر من جديد بعد محاكمة رئيس الحملة الانتخابية السابق لدونالد ترامب “باول مانفورت” ومعه محامي الأخير أيضًا “مايكل كوهين” بعد إثبات التهم عليهم وإدانتهم بانتهاكات مالية لحملة ترامب الانتخابية، حينما مُنع كل الصحفيين والإعلاميين من دخول أجهزتهم الإلكترونية معهم إلى قاعة المحكمة، ليكون الحل الوحيد لنقل الأخبار هو استخدام الوسائل التقليدية في التدوين ومن ثم الركض لتبليغها للمؤسسات الصحافية خارج قاعة المحكمة في واحدة من أهم الأيام في تاريخ رئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة.
مشهد لأحدي الصحفيين راكضًا لتوصيل أخبار محاكمة رئيس حملة ترامب الانتخابية السابق خارج قاعة المحكمة
انتشر مشهد ركض الصحفيين بعد اعتراف رئيس حملته الانتخابية السابق بالتزوير المالي والاحتيالات التي تسببت في انتهاك القوانين الانتخابية وساعدت ترامب على الفوز بالرئاسة، وإدانة محامي ترامب بجرائم مالية بأوامر من ترامب، وهو الأمر الذي يثير الجدل حول احتمالية أن يتسبب رجال إدارة ترامب بالإيقاع به وخروجه من البيت الأبيض بعد اعتراف رجال الإدارة من البيت الأبيض بتورطه في أغلب تلك الانتهاكات.
أعادت محاكمة رجال ترامب للصحافة واحد من المشاهد التي لم تحدث في تاريخها حديثًا سوى في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، بعدما خرج المراسلين والصحفيين من قاعة المحكمة ركضًا إلى مؤسساتهم لإيصال الخبر أولًا بإدانة رئيس حملة ترامب الانتخابية ومحاميه بانتهاكات مالية وجرائم تزوير، حتى انتشرت صورهم بشكل فيروسي على المواقع المختلفة ومنصات التواصل الاجتماعي بعدما وجد البعض الأمر مضحكًا ووجده الآخرون مدعاة للفخر بهؤلاء الصحفيين الذين حملوا على عاتقهم تدوين كل ما حدث داخل قاعة المحكمة بالضبط على ورق وأسرعوا بالركض به إلى الخارج لإيصاله إلى العالم.
على الرغم من طرافة المشهد، إلا أنه يعتبر صحوة من صحوات الصحافة القليلة مقارنة بالتحول الجذري المتواجد في شكل الصحافة الحالي، حيث نشر الكثير من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي تعليقات طريفة على المشهد منها الآتي؛
I feel like the smartest news outlets assigned their most athletic reporters to the #ManafortVerdict today. 😂😂😂 pic.twitter.com/CQ3j49H7GG
— Meta AC – Ask Anything (@AC_NoChill) August 21, 2018
“أعتقد أن المؤسسة الصحفية الأذكى في ذلك اليوم هي من عيّنت أكثر الصحفيين لياقة بدنية”
Shoutout to the people literally running out of the courthouse I am seeing on TV right now, who I assume are reporters fleeing to their newsrooms to write.
— Jessica Huseman (@JessicaHuseman) August 21, 2018
” شكر لكل الصحفيين من ركضوا اليوم للوصول إلى غرفة الأخبار لنقل ما حدث داخل قاعة المحكمة اليوم”
The sprint from the Manafort courthouse after the verdict: guilty on 8 felony counts; hung jury on 10 counts. (No phones allowed in courthouse, so news comes via fleet feet.) pic.twitter.com/JDc8QyMBxs
— melissa block (@NPRmelissablock) August 21, 2018
“منع دخول الهواتف المحمولة أو الأجهزة الإلكترونية إلى قاعة المحكمة أجبر الصحافة على نقل الأخبار من خلال “الأقدام الطائرة”
كان على المراسلين والصحفيين الركض من وإلى المحكمة تباعًا لنقل خبر إدانة مدير حملة ترامب السابق بثماني تهم لها علاقة بانتهاك قوانين الحملات الانتخابية وتورطه في جرائم مالية هو ومحامي ترامب السابق، لقد كان المشهد مضحكًا للكثيرين، إلا أنه كان متحديًا بشكل كبير لكل الصحفيين الرقميين الذي يعتمد بحثهم عن الحقيقة والمعلومة على أجهزتهم الإلكترونية، حيث أن مشهد ركض الصحفيين الأخير كان بلا شك نبمثابة ظرة خاطفة سريعة على شكل الصحافة قبل بضعة قرون أُعيد إحياءه من جديد في عام 2018 وعصر الصحافة الرقمية.