واشنطن حينما تساعد أنقرة على إحياء علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي

ترجمة وتحرير: نون بوست
يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى إيجاد حلفاء جدد في ظل تدهور علاقة أنقرة بواشنطن، التي وصلت إلى مرحلة الانهيار بسبب استمرار احتجاز القس الأمريكي أندرو برونسون. وقد كشفت تصريحات أردوغان عن رغبته في تعزيز علاقاته مع روسيا والصين. ومن المفارقات أن أزمة تركيا مع الولايات المتحدة كانت السبب في إحياء علاقات أنقرة مع أوروبا بعد أن شهدت العلاقات بين الطرفين نوعا من الركود خلال الفترة السابقة.
في الحقيقة، مثلت التصريحات الأخيرة من الجانب الأوروبي الداعمة لتركيا، بالإضافة للمحادثات الهاتفية التي جمعت أردوغان بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال الأسبوع الماضي، بوادر أمل بإحياء العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي. ولكن هذا الوضع المثير للسخرية ليس جديداً، فقد تميزت علاقات تركيا مع أوروبا والولايات المتحدة بما يعرف بمفهوم “التأثير المتأرجح” ما يعني أنه عندما تشهد العلاقات التركية توترا مع أحد الطرفين، فإن علاقاتها مع الجانب الآخر تتحسّن بغض النظر عن الاختلافات التي قد تكون موجودة بينهما من قبل.
خلال السنة الماضية، تصاعد التوتر بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي. وقد بلغت التوترات ذروتها بعد أن قام أردوغان بمقارنة القادة في كل من ألمانيا وهولندا بالنازيين. لقد ورد هذا التصريح في إطار التعبير عن غضبه من منع حزب العدالة والتنمية من فرز أصوات الأتراك المغتربين في ألمانيا وهولندا من أجل الاستفتاء الذي يهدف إلى جعله أول رئيس تنفيذي لتركيا. في المقابل، عمد أردوغان إلى إنشاء علاقة وثيقة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لموازنة علاقاته المتدهورة مع الجانب الأوروبي.
كشفت الوعود اللفظية التي قطعتها موسكو وبكين بمساعدة أنقرة على التغلب على الصعوبات الاقتصادية الحالية، أن تركيا تملك بدائل أخرى من الحلفاء في العالم
في هذا السياق، أدى الرئيس التركي أول زيارة رسمية له إلى واشنطن خلال شهر أيلول/ سبتمبر الماضي. وقد صرّح الرئيس الأمريكي خلال هذا اللقاء “لقد أصبح أردوغان صديقاً لي”، وأضاف قائلا “أعتقد أن علاقاتنا الآن قد توطدت أكثر من أي وقت مضى”، إلا أن تطور الأحداث مع مرور الوقت أثبت أن الاعتماد على دونالد ترامب لم يكن في محله.
في المقابل، كشفت الوعود اللفظية التي قطعتها موسكو وبكين بمساعدة أنقرة على التغلب على الصعوبات الاقتصادية الحالية، أن تركيا تملك بدائل أخرى من الحلفاء في العالم. ولكن لم يتم بعد إثبات وجاهة منطق استبدال تركيا “للشراكة الاستراتيجية” التي تجمعها مع الولايات المتحدة بشراكات مماثلة مع الجانبين الروسي والصيني، خاصة أن هذا من شأنه أن يقوض علاقات أنقرة السياسية والعسكرية مع أوروبا.
بناء على ذلك، يعتقد العديد من المحللين أن هذا التحول الاستراتيجي الكبير من قبل أنقرة نحو روسيا غير بديهي. كما يتفق المحللون على أن العلاقة التي تجمع بين تركيا وروسيا حاليا تخلو من أي محتوى استراتيجي ذلك أنها مدفوعة أساسًا بالمشاكل التي تواجهها الدولتان مع أوروبا والولايات المتحدة. خلافا لما قد تبدو عليه الأمور في الظاهر، فإن علاقة أنقرة بموسكو ليست بتلك السهولة نظراً لتضارب مصالح البلدين في منطقة الشرق الأوسط والبحر الأسود، التي يتم غالبا التغاضي النظر عنها.
إن الاختلافات الجوهرية بين البلدين حول العديد من القضايا التي تشمل سوريا وشبه جزيرة القرم وأوكرانيا، والقوقاز، لا تزال قائمة. ولكيلا تثير غضب موسكو في الوقت الذي تحتاج فيه إلى دعمها السياسي، آثرت أنقرة التزام الصمت حيال هذه القضايا الحساسة. كما يساهم وجود مشاريع طاقة كبرى تجمع بين البلدين على احتواء الخلافات. ومع ذلك، إن احتمال حدوث خلافات بينهما ليس مستبعدا. وخير دليل على ذلك إسقاط تركيا طائرة مقاتلة روسية في سوريا سنة 2015، مما تسبب في زعزعة العلاقات بينهما بين عشية وضحاها.
كان رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، صاحب أول مبادرة لإحياء العلاقات مع أنقرة في الآونة الأخيرة، حيث نشر تغريدة على تويتر عبّر فيها عن مدى سعادته بإفراج محكمة تركية عن جنديين يونانيين كانا محتجزين لدى السلطات التركية لمدة أشهر
لم تتسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضتها موسكو على أنقرة على إثر هذه الحادثة في إلحاق الضرر باقتصاد تركيا فحسب، بل أثبتت أيضاً أن قدرة تركيا على إحراز أي تقدم فيما يتعلق بسياستها في سوريا يعتمد بالأساس على الحفاظ على علاقات جيدة مع الجانب الروسي. وإذا كان هناك تواجد عسكري لتركيا في سوريا اليوم، فإن ذلك لأن موسكو سمحت بذلك. من جهته، كان أردوغان مجبرا على التنازل وتقديم اعتذار للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إثر حادث الطائرة، لكن خطط روسيا حول سوريا تظل مصدرا يبعث على القلق بالنسبة لأنقرة.
كان رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، صاحب أول مبادرة لإحياء العلاقات مع أنقرة في الآونة الأخيرة، حيث نشر تغريدة على تويتر عبّر فيها عن مدى سعادته بإفراج محكمة تركية عن جنديين يونانيين كانا محتجزين لدى السلطات التركية لمدة أشهر. وقد تم اعتقال الجنديين بعد أن ضلا طريقهما وقاما باجتياز الحدود التركية. وقد مثل إطلاق سراحهما مؤشرا على أن تركيا تسعى إلى تحسين علاقاتها مع أوروبا.
لقد ورد في رسالة يونكر على حسابه على تويتر: “سعدت بخبر إطلاق سراح الجنديين اليونانيين المحتجزين في تركيا قريبا. وفي الحقيقة، ليس لتركيا ما تخشاه من طرف جيرانها الأوروبيين. وسيظل الاتحاد الأوروبي جزءا من هذه الشراكة الاستراتيجية، فنحن ندعم المسار الديمقراطي في تركيا ونود أن نراها مستقرة ومزدهرة”. وبعد يوم من إطلاق سراح الجنديين اليونانيين، أفرجت إحدى المحاكم التركية الأخرى عن مدير فرع منظمة العفو الدولية في تركيا، تانر كيليتش، الذي اعتقل السنة الماضي بتهمة التورط في محاولة الانقلاب الفاشلة ضد أردوغان سنة 2016.
لأوروبا أسبابها الخاصة التي تفسر دعمها لتركيا، على غرار الدين الهائل الذي منحته البنوك الأوروبية لتركيا، بالإضافة إلى الاستثمارات الضخمة التي قامت البلدان الأوروبية بضخها إلى البلاد، والتجارة الضخمة القائمة مع تركيا
في الواقع، تعد المحادثات الهاتفية التي أجراها أردوغان مع كل من ميركل وماكرون الأسبوع الماضي دليلا واضحا على تحسن العلاقات التركية الأوروبية. ومن المقرر أن يزور الرئيس التركي ألمانيا في أواخر شهر أيلول/ سبتمبر، وتعتبر هذه الزيارة ذات أهمية خاصة بالنسبة لأنقرة، نظراً لتوتر العلاقات حاليا بين أوروبا والولايات المتحدة.
في الوقت نفسه، كان بيرات البيرق، صهر أردوغان، الذي تم تعيينه وزيرا جديدا للخزانة والمالية في تركيا، على اتصال أيضا بنظرائه الألمان والفرنسيين من أجل وضع حجر الأساس لمحادثات اقتصادية رفيعة المستوى خلال الأسابيع المقبلة. كما كانت تصريحات العديد من السياسيين الأوروبيين، على غرار أندريا ناليس، الرئيسة السابقة للحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني التي تشغل حاليا منصب وزيرة في حكومة ميركل، التي تؤكد على أهمية تركيا من الناحية الاستراتيجية لأوروبا، بمثابة مصدر تشجيع بالنسبة لأنقرة.
بطبيعة الحال، لأوروبا أسبابها الخاصة التي تفسر دعمها لتركيا، على غرار الدين الهائل الذي منحته البنوك الأوروبية لتركيا، بالإضافة إلى الاستثمارات الضخمة التي قامت البلدان الأوروبية بضخها إلى البلاد، والتجارة الضخمة القائمة مع تركيا، إلى جانب الحاجة الملحة للتعاون مع أنقرة من أجل مجابهة الهجرة غير الشرعية والإرهاب المصاحب للتطورات الجارية في منطقة الشرق الأوسط. وقد ساهمت الأزمة الراهنة مع الولايات المتحدة في تركيز انتباه مؤيدي أردوغان على أهمية إعادة إحياء العلاقات مع أوروبا.
من جهته، أكد برهان الدين دوران، مدير مركز “سيتا” المدعوم من قبل الحكومة، أن الصعوبات التي تواجهها أوروبا بدورها مع حكومة ترامب تدفعها إلى التقرب من تركيا. وحيال هذا الشأن، كتب دوران مقالا نشرته صحيفة “صباح” الموالية للحكومة، ذكر فيه أنه “بعد أن بلغت حدة التوترات أوجها، قد تكون العلاقات التركية الأوروبية على أعتاب مرحلة جديدة”.
أفادت أصلي أيدنتنباس، الخبيرة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، بأنه لا يمكن التغافل عن الدور المهم الذي يلعبه الرأي العام في أوروبا.
لقد حمّل دوران كلا من ميركل وماكرون مسؤولية إفتتاح هذه المرحلة الجديدة، ودعاهما إلى دعم تحرير التأشيرات للأتراك وتعزيز الإصلاحات ضمن الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي. كما أقر الصحفي لدى صحيفة “حريت”، عبد القادر سيلفي، وهو مؤيد آخر لأردوغان، بأنها فرصة لا تعوض لإعادة إحياء العلاقات مع أوروبا، لكن على خلاف دوران، أشار سيلفي إلى أن مسؤولية استغلال هذه الفرصة تقع على عاتق تركيا بالأساس.
في مقاله، وصف سيلفي عملية الإفراج عن كل من الجنديين اليونانيين وكيليتش بأنها “الخطوات الأولى في تطبيع العلاقات التركية الأوروبية”، في حين أشار إلى أن إطلاق سراح رجل الأعمال التركي البارز عثمان كافالا، ونائب زعيم حزب المعارضة أنيس بربر أوغلو، اللذان احتُجزا بتهم تتعلق بالإرهاب التي يعتقد العديد بأنه لا أساس لها من الصحة، من شأنه أن يعجل بفتح “فصل جديد” مع أوروبا.
حيال هذا الشأن، قال سيلفي إنه “لا يمكننا تحسين علاقاتنا مع الاتحاد الأوروبي، دون إجراء تحسينات على بطاقات تقرير حقوق الإنسان لدينا”. كما حذر آخرون من محدودية العلاقات مع أوروبا نظرا للحالة الراهنة التي تتسم بها الديمقراطية وحقوق الإنسان في تركيا، التي لا تزال تحت رقابة أوروبية مشددة.
في مقال لها نشر على صحيفة “جمهوريت” المعارضة، أفادت أصلي أيدنتنباس، الخبيرة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، بأنه لا يمكن التغافل عن الدور المهم الذي يلعبه الرأي العام في أوروبا. وقد ذكرت أيدنتنباس أن الدول الأوروبية الكبرى طلبت المساعدة من أنقرة من خلال اتخاذ خطوات من شأنها أن تخلق أجواء إيجابية في الأوساط الأوروبية، حتى تتمكن بدورها من مساعدة تركيا.
حسب أصلي أيدنتنباس، من شأن إطلاق سراح الفئة المثقفة أن يترك أثرا إيجابيا، إلا أنها أعربت عن شكوكها قائلة “يبدو من الصعب على نظام [أردوغان] أن يتبع مسار الديمقراطية والإصلاح مجددا”. ولا شك في أن أردوغان يدرك أن إرساء علاقات جيدة مع أوروبا يستدعي اتخاذ هذه الخطوة في نهاية المطاف، وهو ما يفسر مواصلة بحثه عن حلفاء جدد خارج الإطار الغربي الذي لطالما حصرت تركيا نفسها داخله. وفي النهاية، يبقى الحفاظ على الروابط الاستراتيجية مع الغرب رهان تركيا الأفضل.
المصدر: المونيتور