تعيش رواندا هذا الأسبوع، ومنذ السابع من أبريل الجاري، الذكرى العشرين للإبادة الجماعية التي راح ضحيتها أكثر من 800 ألف شخص من قبائل التوتسي.
وكانت مليشيات قبائل الهوتو قد بدأت في السابع من أبريل/ نيسان 1994 ملاحقتها لقبائل التوتسي والهوتو المعتدلين، وخلال مائة يوم قُتل أكثر من ثمانمائة ألف شخص بأشد الطرق وحشية.
وكان سبب وقوع الإبادة الجماعية قصف الطائرة التي تقل الرئيس الرواندي السابق المنتمي إلى الهوتو “جوفينال هابياريمانا” في السادس من أبريل/ نيسان 1994 ولم يعرف حتى اليوم المسؤول عن هذا الحادث.
وفي منتصف يوليو/ تموز من نفس العام استطاعت قوات الجبهة الوطنية الرواندية التي يتزعمها الرئيس الرواندي الحالي “بول كاغامي” بسط سيطرتها على البلاد، والجبهة الوطنية الرواندية هي حركة تمرد يقودها التوتسي، وقد دخلت البلاد من أوغندا.
ولفهم عمق الأزمة فإن علينا أن نعود قليلا للوراء
ينتمي نحو 85 في المئة من الروانديين إلى إثنية الهوتو، غير أن أقلية التوتسي هيمنت على البلاد لفترة طويلة، وفي عام 1959 أطاح الهوتو بالحكم الملكي للتوتسي وفر عشرات الآلاف منهم إلى دول مجاورة من بينها أوغندا.
وشكلت مجموعة من التوتسي في المنفى جماعة متمردة أطلق عليها (الجبهة الوطنية الرواندية) التي غزت رواندا عام 1990 واستمر القتال إلى أن أبرم اتفاق سلام عام 1993.
وفي ليلة السادس من أبريل/ نيسان عام 1994 أُسقطت طائرة كانت تقل الرئيس الرواندي آنذاك “جوفينال هابياريمانا” ونظيره البوروندي “سيبريان نتارياميرا” وقُتل جميع من كانوا على متنها، وألقى متشددو الهوتو باللائمة على جماعة الجبهة الوطنية المتمردة وبدأوا على الفور حملة منظمة للقتل، وقالت الجبهة الوطنية الرواندية “إن الهوتو هم من أسقطوا الطائرة كذريعة لتنفيذ إبادة جماعية”.
ونفذت المذبحة على مدار مائة يوم حيث سُلمت قوائم شديدة الوضوح بأسماء خصوم الحكومة إلى الميليشيات الذين ذهبوا وقتلوهم وجميع أفراد أسرهم.
قتل الجيران جيرانهم كما قتل بعض الأزواج زوجاتهم المنتميات للتوتسي وقيل لهم إن رفضوا فسوف يُقتلون، وكانت بطاقات الهوية الشخصية في ذلك الوقت تتضمن تحديد الانتماء العرقي، ومن ثم أنشئت الميليشيات نقاط تفتيش في الطرق حيث كان يجري قتل التوتسي، كما احتجزت الآلاف من نساء التوتسي ثم تم اغتصابهن لاحقًا.
وأنشأ متطرفو الهوتو محطات إذاعية وصحفًا تنشر الكراهية وتحث الناس على “التخلص من الصراصير”، أي قتل التوتسي.
وكانت الإذاعة تبث أسماء الأشخاص الموجودين على قوائم القتل، حتى القساوسة والراهبات، شاركوا في قتل بعض ممن لجأ إلى الاختباء في الكنائس.
وفضلاً عن ذلك، يقول الجنرال “روميو دالاير” قائد قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في رواندا حينها، إنه “كان بإمكان مجرد قوة مؤلفة من 4000 جندي مدرب فقط، مزودة بتفويض يسمح باستخدام القوة لحماية المدنيين، أن توقف عملية الإبادة الجماعية في مهدها، وبسبب العوز إلى حفنة من الجنود، قضى 800.000 شخص نحبهم”.
عندما بدأت المجازر، كان لدى الجنرال “دالاير” 2500 جندي فقط وتم إبلاغه بأنهم يستطيعون إطلاق النار “في حال أُطلقت النار عليهم فقط”، ومثل العديد من قادة الأمم المتحدة، وجد أن معظم جنوده كانوا عديمي الفائدة؛ فقد ضموا 1100 بنغلاديشيًا اتسموا بالجبن وبتدني المعنويات إلى درجة أنهم درجوا على تخريب عرباتهم خشية تكليفهم القيام بأعمال الدورية، وعندما قتل 10 جنود بلجيكيين في اليوم الأول من الإبادة الجماعية، ردت بروكسل بالضبط بالطريقة التي أرادها القتلة، بسحب كامل كتيبتها المكونة من 450 جنديًا.
ومن جهته، اختار مجلس الأمن المزيد من خفض عدد القوات التي يقودها دالاير، تاركًا له 450 جنديًا وحسب في أوج ارتكاب الإبادة الجماعية، وقد تُرك مهجورًا ومن دون حول ولا قوة، ليتعذب بالعيون “المحمرة المرتعبة، والمحتارة” للناس الذين كانوا يُذبحون من حوله يومًا بعد يوم.
وقد قال الأمين العام للأمم المتحدة خلال مراسم إحياء ذكرى الإبادة قبل أسبوع “إن المنظمة الدولية ما زالت تشعر بالعار لأنها لم تنجح في منع وقوع هذه المجازر”.
وبعدما أشاد “بالشجاعة المميزة” لجنود الأمم المتحدة، قال في بداية المراسم: “كان يمكننا أن نفعل أكثر من ذلك بكثير، كان علينا أن نفعل أكثر من ذلك بكثير، لقد سُحب جنود حفظ السلام من رواندا عندما كانت في أمس الحاجة إليهم”، وتابع: “حتى بعد جيل، فإن العار لم يمح بعد”، مذكرا بأنه بعد عام واحد من تلك المذبحة، تُرك المسلمون يواجهون مصيرهم في سريبرينيتسا. مذكرًا بالمذبحة الشهيرة أثناء حرب البوسنة والتي يُحمل البوسنيون مسؤوليتها للقوات الهولندية التابعة للأمم المتحدة المتواجدة في هذه المنطقة حينها.
لكن في الذكرى العشرين للإبادة الجماعية، ينبغي التركيز على تجربة سير الدولة الإفريقية نحو المصالحة، بقدر ما يجب التركيز على المذابح الجماعية ذاتها.
الدرس المفيد الذي يستحق أن يُذكر من تجربة رواندا، يتمثل في المصالحة المذهلة التي جرت بين القتلة والناجين من خلال الاعترافات الفردية والمغفرة والصفح في إطار محاكم خارج القضاء في القرى.
تقول صحيفة البيان الإماراتية أن هذا النوع من العدالة التعويضية، خلاف القضاء التقليدي الرسمي، “يمكن أن يبرهن عن فائدته في البلدان التي ستحتاج إلى تضميد جراحها في مرحلة ما بعد النزاع”، مثل سوريا ومصر وميانمار (بورما). ويمكن أن يساعد أيضا في منع حلقة من الانتقام والثأر في تلك البلدان، كما حصل في رواندا.
ورغم محاكمة معظم الجناة الرئيسيين للإبادة الجماعية في محاكم عادية، سواء في رواندا نفسها أو أوروبا أو المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا التي شكلتها الأمم المتحدة، إلا أنه بالنسبة إلى مئات الألوف الآخرين المتهمين بالقتل، حيث إن نظام العدالة الجنائية في رواندا ضعيف جدًا، وبالتالي كان على البلاد أن تستند إلى شكل من أشكال نظام العدالة التقليدي المجتمعي المعروف باسم “غاكاكا”.
جنوب أفريقيا كذلك مرت بتجربة شبيهة عبر لجان المصارحة والمصالحة، إلا أنه على العكس من رواندا، كانت الهيئات في جنوب أفريقيا تتميز بكثير من الرسمية والطابع الوطني العام في نطاقها.
فالنظام القضائي التقليدي “غاكاكا” في رواندا هو أقرب للصعيد الشخصي ومصمم لتحقيق النتيجة النهائية المتمثلة في السماح للناس الذين يعرفون بعضهم بعضًا إمكانية استئناف العيش في المجتمع نفسه، كما أنه يجمع قرية بأكملها ليشهد سكانها على عمليات الاعتراف وعلى صدقيتها ولتشجيع الضحية على الصفح والاتفاق على بعض التعويضات مثل المساعدة في حراثة حقل الضحية لفترة من الوقت.
صحيفة نيويورك تايمز صممت صفحة خصيصًا في ذكرى المذبحة للحديث عن المصالحة، مصورة عددًا من الضحايا (التوتسي) الذين فقدوا أهلهم، آباءهم، إخوانهم أو أمهاتهم بجانب جلاديهم والمجرمين الذين قتلوهم.
القاتل (يسار) قتل والدها وأخواتها الثلاثة
المجرم (يسار) هاجمها وأحرق منزلها وحاول قتل أولادها
المجرم (يمين) هاجم منزلها، قضى مثل العديد غيره سنوات طويلة في السجن، وعندما خرج، كانوا مستعدين للمصالحة!
القاتل (يمين) قتل أولادها، يسميها الآن “الأم سيزاري” وبعد أن خرج من سجنه طلب منها الصفح
قتل ابنها، يقول أننا الآن نتشارك كل شيء، لو احتاجت مياه لتشرب، سأحضرها لها، نحن مثل أخ وأخته