أصدرت وزارة الشؤون الاجتماعية في تونس الجمعة الماضية بلاغا قالت فيه إنها صرفت القسط الأول من مخلفات المنحة الاستثنائية التي تم اقرارها لمتقاعدي الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية. أسبوع كامل مرّ ولم تصرف هذه المنح، فالآلاف من المتقاعدين لم يتمكّنوا حتى اللحظة من الحصول على مستحقاتهم المالية، ما نغّص عليهم فرحتهم بعيد الأضحى.
هذه الأزمة، يقول تونسيون، إنها امتداد للصراع على الحكم في البلاد بين قصري القصبة وقرطاج، فالمتقاعدين أضحوا بمثابة وقود المعركة وحطبها الحالي بين رئيس الحكومة يوسف الشاهد ورئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي.
استياء كبير
الساعة تشير إلى السابعة والنصف صباحًا، طوابير طويلة أمام البنوك في انتظار فتح أبوابها. ما إن تدّق الساعة الثامنة حتى يتدافع المتقاعدين إلى الداخل علّهم يظفرون بالمقاعد الأولى أمام شبابيك البنوك للحصول على مستحقاتهم المالية، لكن تمرّ ساعة وساعة أخرى إلى أن يبلغ الوقت الساعة الواحدة ظهرًا وتغلق البنوك، فيعود المتقاعدون أدراجهم بـ”خفي حُنين”.
نفس المشهد يتكرّر منذ يوم الجمعة الماضية إلى اليوم الجمعة ٢٤\ أغسطس، فالجزء الأكبر من متقاعدي القطاع الحكومي لم يحصلوا بعد على أي جزء من رواتبهم ومنحهم، فيما تحصّل البعض على جزء من المستحقات التي تم إيداعها في حسابات البريد فقط وسط حالة غضب عارمة من الجميع.
“نون بوست” التقت صالح بوراوي (67 سنة)، أمام أحد البنوك في الجنوب التونسي، بوراوي عبّر عن غضبه الشديد من تأخر صرف راتبه إلى الآن، مؤكّدا في حديثه تضرّره وغيره من التونسيين نتيجة هذا التأخير، فقد عجز عن شراء أضحية العيد بعد أن كان ينتظر أن يحصل على مستحقاته قبل العيد بأيام.
تعيش تونس على وقع أزمة حكم حادة، حيث اشتدّ الصراع مؤخرًا بخصوص مصير رئيس الحكومة يوسف الشاهد
قبل العيد كان المتقاعدون يمنّون النفس بالحصول على مرتباتهم والمنح المرصودة لهم وفق الاتفاق المبرم بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية)، والقاضي بزيادة 6% من الأجر الأدنى للمتقاعدين، وكذلك زيادة أجور متقاعدي الوظيفة العمومية، حتى يتمكّنوا من شراء أضحية العيد، لكن لم يحصل كلّ هذه، فالمعاناة متواصلة إلى الآن.
ففي الثامن من شهر آب/أغسطس الحالي، أعلن رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد أنه تقرر تمكين المتقاعدين من مستحقاتهم الكاملة القديمة والجديدة، وصرفها على 4 أقساط، على أن يتم صرف القسط الأول قبل عيد الأضحى، وصرف القسط الأخير قبل أبريل/نيسان 2019.
وهذه ليست المرّة الأولى التي يتأخر فيها صرف مرتبات المتقاعدين في تونس، حيث يشكو المتقاعدون هناك من عدم الانتظام في مواعيد صرف مرتباتهم من الصناديق الاجتماعية في وقت تواجه فيه الحكومة مصاعب اقتصادية، كما تخضع مستحقات هذه الفئة الاجتماعية منذ أشهر إلى خصم متواصل.
ويبلغ عدد متقاعدي القطاع الحكومي 305 آلاف من جملة 850 ألف متقاعد في تونس، وفق آخر مسح سكاني لمعهد الإحصاء. وسط توقعات بزيادة نحو 50 ألف متقاعد هذا العام بفعل خطة تقليص الموظفين في القطاع الحكومي التي انطلقت في الدولة منذ شهر مارس/آذار الماضي.
فتح تحقيق
لئن كانت أزمة المتقاعدين قديمة في تونس، فإن الأزمة الحالية أثارت جدلاً أكبر، ذلك أن كثير من التونسيين أكّدوا أن الأزمة مسألة دبّرت في ليل، وأنه توجد أطراف تسعى إلى تأزيم الوضع الاجتماعي في البلاد بالتزامن مع الاحتفال بعديد الأضحى.
ما أكّد هذه التخوفات، إعلان الحكومة التونسية اعتزامها فتح تحقيق ضد مصارف تجارية لم تقم بوضع رواتب المحالين على المعاش في حساباتهم قبل عيد الأضحى رغم صرف صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية لمستحقات المتقاعدين وقسط من الزيادة التي تخلفت الحكومة عن صرفها منذ سنة 2017.
وحمّل وزير الشؤون الاجتماعية، محمد الطرابلسي، المصارف مسؤولية مراوغة المتقاعدين وتركهم دون أموال أيام العيد رغم حاجة الأسر الملحة لهذه المستحقات. معلناً فتح تحقيق في الموضوع لتحديد المسؤوليات مع البنوك المعنية.
يعتبر رضت شلغوم أحد رجال السبسي في حكومة الشاهد
تعقيبا على كلام الوزير، أوضحت الجمعية المهنية للبنوك التونسية والمؤسسات المالية، أمس الخميس، أن خللًا فنيًا كان وراء عدم حصول 200 ألف متقاعد من الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية على القسط الأول من الزيادات في الجرايات قبل عيد الأضحى كما وعد بها رئيس الحكومة.
واعترفت الجمعية في بلاغ لها اصدرته في اليوم الثالث من عيد الأضحى، أن الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية كلف الاتحاد البنكي للتجارة والصناعة بالقيام بتحويل القسط الاول من الزيادات لفائدة 200 ألف متقاعد “لكن هذا العدد الكبير حال دون تنفيذ هذه العمليات في تاريخ 20 أغسطس 2018”.
أي دور للسبسي في هذه الأزمة؟
اعتراف الجمعية المهنية للبنوك التونسية والمؤسسات المالية بتحمّلها مسؤولية هذا التأخير لم ينهي الجدل، حيث أكّد عديد التونسيين أن ما يحصل للمتقاعدين يتنزّل في إطار صراع الحكم بين قصري قرطاج والقصبة، وأن المتقاعدون أصبحوا بمثابة وقود حرب بين الطرفين.
ويتهم تونسيون وزير المالية رضا شلغوم، باستغلال المتقاعدين لضرب يوسف الشاهد والانتصار للسبسي، ويعتبر شلغوم أحد رجال السبسي في حكومة الشاهد حيث كان مستشارا اقتصاديا له في قصر قرطاج قبل أن ينتقل في سبتمبر الماضي إلى وزارة المالية. وتعرف العلاقة بين الطرفين فتورا كبيرا ما أثّر على عمل الحكومة في عديد المجالات.
وتعيش تونس على وقع أزمة حكم حادة، حيث اشتدّ الصراع مؤخرا بخصوص مصير يوسف الشاهد، ويسعى السبسي الأب والابن بمعاضدة الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) وبعض الأحزاب المنشقة عن نداء تونس إلى وضع حد لمسيرة الشاهد، وقد يقود الرئيس في الفترة الأخيرة مشاورات تهدف لإقالة الشاهد غير أنه اصطدم بـ”فيتو” من حركة النهضة الإسلامية التي شددت على ضرورة المحافظة على استقرار البلاد.
تحتاج تونس إلى استقرار سياسي تام حتى تتمكّن من الخروج من أزمتها الاقتصادية
هذه الأزمة السياسية بين القصبة وقرطاج بدأت في الظهور للعلن، وفق عديد المتابعين للشأن السياسي في تونس، بعد أشهر قليلة من صعود يوسف الشاهد إلى منصب رئيس الحكومة، وذلك بعد أن بدأ اسم الشاهد في الصعود محققًا نسبة ثقة كبيرة لدى العديد من التونسيين بعد إعلانه الحرب على الفساد، وفقًا لما تؤكده نتائج سبر الآراء.
ويرى محللون أن الهدف من تأخير صرف مستحقات المتقاعدين في تونس، ضرب مصداقية رئيس الحكومة أمام الراي العام الوطني خاصة وأنه وعد قبل ذلك بصرف هذه المستحقات قبل موعد عيد الأضحى، ومن شأن هذا الأمر أن يؤدّي إلى تراجع ثقة التونسيين وخاصة المتقاعدين وكبار السن في الشاهد.
الاقتصاد يدفع ضريبة عدم الاستقرار السياسي
هذه الأزمة الحادة بين رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية من شأنها في حال تواصلها أن تؤثر سلبًا على الوضع العام للبلاد وتزيد من حدّة الاحتقان الاجتماعي في تونس، ذلك أن كلا الطرفين يخصصان كل الوقت والجهد لضرب الطرف الآخر دون إيلاء التونسيين أي اهتمام.
ويحتاج 41% من المتقاعدين التونسيين إلى المساعدات العائلية لتأمين نفقاتهم المعيشية، وفق بيانات رسمية كشف عنها مركز الإحصائيات الديمغرافية بمعهد الإحصاء الحكومي. ويدفع ضعف رواتب المتقاعدين إلى طلب مساعدات عائلية من أبنائهم أو ذويهم، حسب المعهد.
يتهم المتقاعدون في تونس السياسيين باستعمالهم وقودًا في الحرب بينهم
تعرف وتيرة العمل في مؤسسات الدولة، منذ بداية الحديث عن إمكان الإطاحة بحكومة يوسف الشاهد، فتورا كبيرا في انتظار الحسم النهائي في مصير الشاهد وحكومته. ويخشى الجميع تواصل هذه الحال لما لها من تأثير كبير على البلاد.
وترزح تونس تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة أدت إلى ارتفاع أسعار السلع وتراجع قيمة العملة المحلية، ما فاقم الأزمات المعيشية للمواطنين. ويدفع اقتصاد البلاد ثمن تواتر الحكومات وعدم الاستقرار السياسي الذي لم يتسنّ لأي منها ضبط وإتمام برنامج اقتصادي يحقق الحد الأدنى من المطالب الشعبية للتونسيين.
وتحتاج تونس إلى استقرار سياسي تام وإنهاء حالة التشنج السياسي والتجاذبات الحزبية التي تتسبب في تعطيل دواليب الدولة، حتى تتمكّن من الخروج من أزمتها الاقتصادية الراهنة، ذلك أن الأوساط الاقتصادية المؤسسات المالية الدولية والجهات المانحة، تبحث عن الحد الأدنى من الضمانات لبذل الجهد من أجل ضخ استثمارات جديدة في البلاد.