اجتمع في العاصمة الصينية بكين مؤخرًا زعماء أكثر من 50 دولة إفريقية للمشاركة في قمة منتدى التعاون الصيني-الإفريقي (فوكاك)، حيث ناقشوا على مدى 3 أيام قضايا الديون والبنية الأساسية والأمن والمناخ.
جاء شعار الدورة التاسعة من المنتدى “التكاتف من أجل دفع التحديث وبناء مجتمع صيني إفريقي رفيع المستوى ذي مستقبل مشترك”.
المنتدى الذي تأسس قبل 24 عامًا يمثل إحدى أهم الفعاليات الاقتصادية والسياسية لبكين، فهو بالنسبة لها منصة أساسية نحو القارة الإفريقية عبر القوة الناعمة؛ التجارة والاستثمار والبنية التحتية والقروض المالية، فالصين هي الشريك التجاري الأول للقارة الإفريقية وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين 167.8 مليار دولار في النصف الأول من العام الحالي.
ويعد منتدى التعاون الصيني الإفريقي إحدى أدوات مبادرة “الحزام والطريق” الصينية التي أُعلن عنها عام 2013، لتعزيز ربط بكين بالعالم، وقد بلغ عدد الدول التي أبدت رغبتها في أن تكون جزءًا منها أكثر من 150 دولة من مختلف قارات العالم، تُمثل ثلثي سكان العالم، و40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
كما يمثل منتدى (فوكاك) آلية التنسيق الرئيسية متعددة الأطراف بين الدول الإفريقية والصين، بالإضافة إلى أنه منصة تعاون ضمن مبادرة الحزام والطريق، حيث عُقدت القمة الأولى ببكين في أكتوبر/تشرين الأول 2000، بينما عُقدت القمة اللاحقة في ديسمبر/كانون الأول 2003 بأديس أبابا، ونوفمبر/تشرين الثاني 2006 في بكين، ونوفمبر/تشرين الثاني 2009 بشرم الشيخ في مصر، ويوليو/تموز 2012 في بكين، وديسمبر/كانون الأول 2015 في جوهانسبرج، وسبتمبر/أيلول 2018 في بكين، ونوفمبر/تشرين الثاني 2021 في داكار.
نمو حجم التجارة
يمكن القول إن الصين أحكمت سيطرتها الاقتصادية على القارة الإفريقية إلى حد كبير بفعل استثماراتها، حيث أسهمت الشركات الصينية بفعالية في تحسين البنية التحتية وسبل كسب العيش من خلال استثماراتها في إفريقيا، ما جعلها إحدى القوى الدافعة للنمو الاقتصادي الشامل للقارة.
كما تظهر التقارير السنوية للعلاقات الاقتصادية بين الصين وإفريقيا النمو المضطرد لحجم التجارة بين الجانبين، ففي عام 2020 كانت قيمة التجارة الثنائية 187 مليار دولار، بينما قفزت خلال النصف الأول من 2024 إلى 167.8 مليار دولار، فإذا استمر نمو التجارة بنفس الوتيرة يتوقع أن يصل حجم التبادل إلى أكثر من 335 مليار دولار بنهاية العام 2024.
وإذا عدنا إلى منتدى (FOCAC)، قال الرئيس الصيني في خطابٍ ألقاه بقاعة الشعب الكبرى في العاصمة بكين أمام القادة الأفارقة، إن العلاقات الصينية الإفريقية تمر الآن بأفضل فترة في تاريخها، مؤكدًا أن بلاده مستعدة لتعميق التعاون مع القارة في مجالات شتى مثل البنى التحتية والتجارة، وأوضح: “على مدى السنوات الثلاثة المقبلة، الحكومة الصينية مستعدة لتقديم دعم مالي يصل إلى 360 مليار يوان (50.7 مليار دولار)”، وأشار إلى أن أكثر من نصف هذا المبلغ سيكون قروضًا، مع 11 مليار دولار على شكل مساعدات، بالإضافة إلى 10 مليارات دولار من خلال تشجيع الشركات الصينية على الاستثمار، ووعد أيضًا بالمساعدة في “توفير مليون فرصة عمل على الأقل لإفريقيا”.
وأضاف الرئيس شي، في كلمته خلال المنتدى الذي يعقد كل 3 سنوات، أن الصين تقف إلى جانب الدول النامية في الدفاع عن حقوقها ومصالحها المشروعة، مؤكدًا على دور بلاده كداعم رئيسي لتحديث وتعزيز العلاقات الدولية، بالإضافة إلى السعي للحصول على تأييد الدول الإفريقية في القضايا الدولية المثيرة للجدل مثل وضع تايوان.
الصين تتخلى عن الدبلوماسية
كان الزعماء والدبلوماسيون الصينيون يحرصون خلال خطاباتهم على تكرار مقولة مفادها أن علاقات الصين وشراكاتها مع الدول لا تستهدف طرفًا ثالثًا – في إشارة إلى الولايات المتحدة وحلفائها – غير أن الرئيس شي تخلى عن تلك اللغة الدبلوماسية خلال حديثه إلى الزعماء الأفارقة في قمة فوكاك، حين قال “بدءًا من منتصف القرن العشرين، حاربت الصين والدول الإفريقية معًا ضد الإمبريالية والاستعمار ويجب علينا أن نواصل طريق التحديث والنمو معًا”، مردفًا: “عملية التحديث التي يقودها الغرب في إفريقيا تسببت في معاناة كبيرة لشعوب المنطقة”.
ويعكس تخلي الرئيس الصيني عن الحذر واللغة الدبلوماسية، اطمئنانه إلى تنامي النفوذ الصيني في القارة السمراء وعمق علاقات الصين مع إفريقيا، خصوصًا بعد تغير نظرة إفريقيا للغرب والدعم الشعبي الذي وجدته موجة الانقلابات الأخيرة في منطقة الساحل ضد حكام موالين لفرنسا. يأتي ذلك في وقت تزداد فيه المخاوف الأمريكية والغربية من التمدد الصيني في القارة الإفريقية التي كانت منطقة نفوذ تقليدي للغرب.
فحتى العام 2008 كانت الولايات المتحدة الشريك التجاري الأول لإفريقيا، لكن الصين صعدت بسرعة الصاروخ إلى مركز الريادة العالمية اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا وتكنولوجيًا، لتطرح نفسها بديلًا وشريكًا موثوقًا للقارة الإفريقية، فأصبح بإمكان الصين أن تقدم كل شيء لإفريقيا، من الصناعات الصغيرة إلى مشروعات البنية التحتية الضخمة والقروض والتكنولوجيا بأنواعها المختلفة.
بدا أن تحويل الكثير من الدول الإفريقية البوصلة نحو الصين – وبدرجة أقل روسيا وتركيا – يمثل نتيجة حتمية لعقود من “الإهمال الغربي لإفريقيا” وفق دراسة لـ”مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد“.
وأشار المركز إلى أن الصين ساعدت في بناء البنية التحتية التي تشتد الحاجة إليها في إفريقيا، ما أثر بشكل إيجابي على إنتاج السلع والخدمات، على الرغم من أن بعض البلدان لا تزال تواجه تحديات في الحوكمة المحلية والفساد.
ولكن مع ذلك يشير محللون إلى أن الغرب لا يتحمل وزر كل أزمات القارة الإفريقية المعقدة، لكنه بالمحصلة جزء مهم منها، ويعكس ذلك التحول الفارق في مقاربة معظم الدول الإفريقية لعلاقاتها السياسية والاقتصادية، تبعات إرث استعماري وعقودًا من الفشل الاقتصادي والتنموي وفق المقاربات الغربية، وانتشار الفقر والفساد رغم الثروات الضخمة التي تمتلكها في ظل أحادية العلاقة مع الدول الغربية، وفقًا للمصدر السابق.
دعم إفريقي لبكين
إذا ألقينا نظرة على شعار قمة منتدى التعاون الصيني الإفريقي لهذا العام “التكاتف من أجل دفع التحديث وبناء مجتمع صيني إفريقي رفيع المستوى ذي مستقبل مشترك”، يتضح لنا حجم الإصرار الصيني على كسب المعركة الجيوسياسية المحتدمة مع الولايات المتحدة والغرب.
وتجد الصين الكثير من الدعم من القادة الأفارقة، ففي كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2023، انتقد الرئيس الغاني نانا أكوفو آدو بشكل حاد – وهو مقرب من الغرب – تلك العلاقة غير المتوازنة وغير المثمرة، حين قال: “الكثير من ثروات الغرب تم بناؤها من دماء ودموع ورعب تجارة العبيد وقرون من الاستعمار والاستغلال”.
من جهته، قال القائد العسكري لغينيا، المستعمرة الفرنسية السابقة، مامادو دومبويا أمام الجمعية العامة: “لقد حان الوقت للكف عن إلقاء المحاضرات علينا ومعاملتنا مثل الأطفال”، وفي كل ذلك إشارة إلى نهاية حقبة من “الوصاية”.
وفي سياق تلك التحولات، يقول إريك أولاندر، رئيس تحرير موقع “مشروع الجنوب العالمي للصين China Global South Project”: “الصين تحاول الاستفادة من الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة وأوروبا، اللتان تنفصلان بشكل متزايد عن إفريقيا”، ويبدو أن هذا الانفصال يتم بزخم سريع مقابل تمدد الأواصر الإفريقية مع الصين.
مشروعات صناعية كبرى
تعد إفريقيا منطقة رئيسة في مبادرة الحزام والطريق، حيث وقعت الشركات الصينية عقودًا هناك بقيمة تزيد على 700 مليار دولار بين عامي 2013 و2023، وفقًا لوزارة التجارة في بكين. ومع ذلك، تعرضت استثمارات الصين في القارة لانتقادات شديدة من جانب خبراء يتهمون مبادرة الحزام والطريق بإثقال كاهل الدول بديون باهظة أو تمويل مشروعات تضر بالبيئة.
نظرة على 3 مشروعات رئيسة لمبادرة الحزام والطريق في إفريقيا:
السكك الحديدية غير المكتملة في كينيا: يربط خط السكك الحديدية القياسي الكيني – الذي تم بناؤه بتمويل من بنك إكسيم الصيني – العاصمة نيروبي بمدينة مومباسا الساحلية، وقد قلص أوقات الرحلة من 10 ساعات إلى 4 ساعات منذ افتتاحه في 2017 بتكلفة 5 مليارات دولار، وهو مشروع البنية التحتية الأكثر تكلفة في البلاد منذ حصولها على الاستقلال قبل أكثر من 60 عامًا.
لكن المرحلة الثانية التي كان من المفترض أن تصل بالخط إلى أوغندا لم تتحقق بعد، حيث يكافح كلا البلدين لسداد ديون مبادرة الحزام والطريق، وفي العام الماضي، طلب الرئيس الكيني ويليام روتو من الصين قرضًا بقيمة مليار دولار وإعادة هيكلة الديون القائمة لإكمال مشروعات بناء أخرى متوقفة في إطار مبادرة الحزام والطريق، وتدين البلاد الآن للصين بأكثر من 8 مليارات دولار.
المعادن في بوتسوانا (دولة في إفريقيا الجنوبية): في السنوات الأخيرة، تحول استثمار مبادرة الحزام والطريق في إفريقيا إلى استخراج المعادن اللازمة لتغذية الصناعات عالية التقنية والخضراء في الصين مثل المركبات الكهربائية، وفي 2023 استثمرت الصين 7.8 مليار دولار في التعدين بإفريقيا، وفقًا لمؤسسة الأبحاث الأمريكية “American Enterprise Institute”.
ويشمل ذلك صفقة بقيمة 1.9 مليار دولار، تم التوصل إليها العام الماضي، من شركة “MMG” المملوكة لحكومة الصين لشراء منجم في بوتسوانا، أحد أكبر مناجم النحاس في العالم.
أطول جسر معلق في إفريقيا: وفقًا لقناة “CCTV” الحكومية، بنت شركة الطرق والجسور الصينية أطول جسر معلق في إفريقيا، يربط العاصمة مابوتو بضاحيتها كاتيمبي.
وفي السابق، كانت أسرع طريقة لعبور خليج مابوتو هي العبارة، وكان السفر على الطرق يتطلب القيادة لمسافة 160 كيلومترًا على طرق غير ممهدة معرضة للفيضانات، وتكلف الجسر، الذي افتتح في 2018، ما يقدر بنحو 786 مليون دولار، تم تمويل 95% منها بقروض صينية.
مخاوف من مأزق الديون الصينية
تسعى الصين للاستفادة من كنوز القارة الهائلة من الموارد الطبيعية، بما فيها النحاس والذهب والليثيوم والمعادن الأرضية النادرة، كما زودت الدول الإفريقية بمليارات الدولارات على شكل قروض ساعدت في بناء البنية التحتية، لكنها أثارت جدلًا في كثير من الأحيان بسبب تحميل الدول لديون ضخمة.
ويقول محللون إن سخاء بكين تجاه القارة الإفريقية يمثّل مواجهة للمشكلات الاقتصادية في الداخل، وإن المخاوف الجيوسياسية بشأن صراع متنام مع الولايات المتحدة قد تكون هي التي تدفع بهذه السياسة، فالقمة الأخيرة الصينية- الإفريقية تجسد التنافس على إفريقيا، مع تعميق الصين لنفوذها في مختلف أنحاء القارة.
ورغم المزايا التنافسية للنموذج الصيني في الانفتاح على كل الدول الإفريقية، وما حققه هذا الدور من تداعيات إيجابية، في مقدمتها دعم مشروعات البنية التحتية، وتعزيز معدلات التبادل التجاري، وتطوير قطاع الاتصالات، فضلًا عن تعزيز التنمية الزراعية، فإن هناك تبعات سلبية لهذا الدور، حتى إن العديد من المراقبين الغربيين يرون أن بكين تنتهج ما يُسمى بـ”دبلوماسية فخ الديون” (Debt-Trap Diplomacy) الصينية.
ويمكن تلخيص أبرز سلبيات التمويل الصيني بالآتي:
تفاقُم أزمة الدين: فاقمت الاستثمارات الصينية في مجال البنية التحتية الدين العام للدول الإفريقية. وقد تطرقنا بالأعلى إلى فشل كل من كينيا وأوغندا في سداد ديون مبادرة الحزام والطريق، ما أوقف المرحلة الثانية من مشروع خط السكك الحديدية التي كان من المفترض أن تربط البلدين، حيث يكافح كلاهما لسداد الديون.
تهميش أدوار المؤسسات المالية الإفريقية: اعتبر بنك التنمية الإفريقي في أحد تقاريره أن الانخراط الصيني المتزايد في إفريقيا، لا سيما في قطاع البنية التحتية، يفرض تحديات مُتزايدة على مؤسسات التمويل الإفريقية مثل بنك التنمية الإفريقي وغيره، فالصين تُقدم أسعارًا تنافسية – أجور العمالة وفوائد القروض – منخفضة للغاية، وتبتلع كل المشروعات التي تحتاج تمويلًا.
انخفاض جودة مشروعات البنية التحتية الصينية: بعض المراقبين والمهتمين بالإنشاءات يقولون إن الطرق والجسور ومشروعات البناء الأخرى التي شيدتها ومولتها الصين رديئة الجودة، مقارنة بالمشروعات التي ينفذها مانحون آخرون.
وقفة مع الأرقام
التي وردت في هذا التقرير:
- 700 مليار دولار: قيمة العقود التي وقعتها الشركات الصينية في إفريقيا بين عامي 2013 و2023 ضمن مبادرة “الحزام والطريق”.
- 187 مليار دولار: حجم التجارة الثنائية بين الصين وإفريقيا في عام 2020.
- 167.8 مليار دولار: حجم التبادل التجاري بين الصين وإفريقيا خلال النصف الأول من عام 2024.
- 335 مليار دولار: حجم التجارة المتوقع بين الصين وإفريقيا بحلول نهاية عام 2024، إذا استمر النمو التجاري بنفس الوتيرة.
- 50.7 مليار دولار: قيمة الدعم المالي الذي وعدت الصين بتقديمه لإفريقيا على مدى السنوات الثلاث القادمة.
- 8 مليارات دولار: إجمالي ديون كينيا للصين حتى الآن.
- 5 مليارات دولار: تكلفة مشروع السكك الحديدية الكيني الذي تم بناؤه بتمويل صيني.
- 1.9 مليار دولار: قيمة صفقة لشراء منجم في جمهورية بوتسوانا من قبل شركة صينية.
- 786 مليون دولار: تكلفة بناء أطول جسر معلق في إفريقيا، بتمويل صيني بنسبة 95%.
- 1 مليون: عدد فرص العمل التي تعهدت الصين بتوفيرها في إفريقيا.
أخيرًا، ينبغي على القادة الأفارقة عند التعامل مع الصين أو غيرها الاستفادة من التنافس الحالي على القارة لمصلحة بلدانهم وشعوبها والعمل على تحقيق مقاربة الربح للجميع (Win- Win Situation) التي تقوم على تبادل المنافع مع الكل، الصين والولايات المتحدة وروسيا، وغيرهم.
فالصين تعد الرابح الأكبر من علاقاتها مع إفريقيا، إذ حققت حتى الآن مكاسب ضخمة من تعزيز نفوذها في إفريقيا – باستخدام أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية والثقافية – تفوق بكثير مكاسب الدول الإفريقية، رغم أن كثيرين يفضلون الصين باعتبار أنها ليست قوة استعمارية سابقة مثل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وليس لديها طموحات عسكرية مثل روسيا التي تركز على ترسيخ نفوذها ووجودها العسكري على حساب دورها التنموي.
الدول الإفريقية لا تزال زاخرة بالإمكانات والموارد الطبيعية، ويمكن لقادة القارة مراجعة الشراكات والعلاقات مع القوى العالمية الكبرى لمعالجة الأخطاء السابقة، ووضع خطط للتنمية المستدامة بالشراكة مع كل من يمكنه تحقيق مصالح القارة دون تبعية لمحور أو دولة محددة.