ترجمة وتحرير: نون بوست
يستنكر مقال “هابيكراسي” أو “صناعة السعادة” التقنيات المستوحاة من علم النفس الإيجابي ونظرية التطور الذاتي، التي تنقل وجهة نظر عالمية مشكوك في صحتها من الناحية الأخلاقية.
خلال كتابتي لهذا المقال، راجعت قائمة مبيعات الكتب على موقع “أمازون”، حيث تُعدّل الخوارزمية عليه ترتيب المبيعات بشكل دائم بغية إثارة الفضول وشدّ انتباه رواد الإنترنت الذين يتصفحون الموقع. ومع ذلك، فإن مبيعات الكتب التي احتلت المراتب الأولى على قائمة العشرة الأوائل يوم 21 آب/أغسطس سنة 2018 تشبه تلك الخاصة بالشهر الماضي، كما تشبه إلى حد ما قائمة السنة الماضية. فقد حل في المركز الثاني كتاب المؤلفة الفرنسية رافاييل جيوردانو بعنوان “نصائح لنمو الشخصية الرومانسية”، فيما جاء ثالثا كتاب “أربع اتفاقيات من ثقافة التولتيك” للكاتب ميغال رويس، وهو كتاب كلاسيكي من أدبيات المساعدة الذاتية ومستوحى من أساطير شعب التولتيك في أمريكا الوسطى.
أما كتب الخبير في تطوير الذات، إيكهارت تول، فتعد الأكثر مبيعًا في جميع أنحاء العالم، وعلى رأسهم كتابه الأكثر رواجا بعنوان “قوة الآن”، الذي يحتل بشكل دائم إحدى المراكز العشرة الأولى ولا ينزل إلى أقل من ذلك في أفضل 100 كتاب رواجا. ونتحدث هنا عن الترتيب العام الذي تعده شركة أمازون عن الكتب الأكثر انتشارا في فرنسا من جميع الفئات، بما في ذلك الروايات التي تتحدث عن الحب والعشق، والروايات المثيرة، وروايات هاري بوتر، ووصفات الطبخ وأجندات تنظيم الأسرة.
ترتبط هذه الكتب الأكثر مبيعًا وغيرها بالعائلة الموسعة من كتب التطوير الذاتي والتفكير الإيجابي، وكلاهما تحدث عنه كل من إيفا إلوز وإدغار كاباناس في مقال تحت عنوان “هابيكراسي” أي “صناعة السعادة
كما يأتي في المراكز الأولى كتاب “الإصابات الخمس التي تمنعك من أن تكون نفسك” لليز بوربو، الذي تمت مشاركة 600 تعليق حوله من قبل القراء والقارئات الذين عبروا عن إعجابهم بهذا الكتاب. وقد جاء في إحدى التعليقات: “إنه كتاب مثالي يدفعنا إلى التعرف على الجروح التي تجعلنا نتألم، وسعره مناسب. كما أنه كتاب واضح وصريح يشجعنا على قراءته مرارا وتكرارا. ولكن الجانب السلبي الوحيد في هذا الكتاب يتلخص في أنه لم يخض كثيرا في عرض العلاج من هذه الإصابات، حيث أن الكاتبة قامت بتأليف كتاب آخر يتعلق بهذا الموضوع مما يؤكد أنها لا تريد بصفة استراتيجية الكشف عن كل شيء في كتاب واحد”.
“إذا كنت لا تعرف أين تذهب، التفت خلفك وأنظر من أين أتيت ثم واصل طريقك”
“السلع العاطفية”
ترتبط هذه الكتب الأكثر مبيعًا وغيرها بالعائلة الموسعة من كتب التطوير الذاتي والتفكير الإيجابي، وكلاهما تحدث عنه كل من إيفا إلوز وإدغار كاباناس في مقال تحت عنوان “هابيكراسي” أي “صناعة السعادة”. وبالنسبة للخبراء في علم الاجتماع، يحمل علم النفس الإيجابي الذي تم تطويره في الولايات المتحدة خلال التسعينيات، بالإضافة إلى أشكال التعبير عنه المتعددة على غرار العلاجات، والكتب الأدبية في “المساعدة الذاتية”، والتدريب وتطبيقات التحسين الذاتي وتقنيات الاسترخاء، شعارا واحدا، ألا وهو: “يمكن لأي شخص إعادة اكتشاف حياته وتحقيق أفضل ما لديه ببساطة عن طريق إلقاء نظرة أكثر إيجابية على نفسه وعلى العالم من حوله”.
تعود هذه النظرية إلى علماء النفس الأمريكيين الذين لاحظوا أن الأشخاص الإيجابيين كانوا أكثر نجاحًا في الحياة، كما اعترفوا بأنهم أكثر سعادة. في هذا الإطار، يعد الإحساس بالسببية أمرا في بالغ الأهمية، حيث أنه قبل تداول “علم السعادة” هذا، كان يُنظر إليه على أنه نتيجة لحظات سعيدة وأوضاع تعكس الحياة الممتعة. ولكن، انعكس المنطق مع نظرية علماء النفس الأمريكيين، حيث أنه إذا كنت إيجابياً وكنت تؤمن بنفسك ولديك الثقة في إمكانياتك، فستكافئك الحياة. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإن نوعًا ما من التنبؤات التي تحققها بنفسك سيجعلك تفشل.
لكن، إذا كانت الرغبة في الحصول على السعادة تضمن بلوغها، فلماذا لا يساعدنا أخصائيو السعادة لتكن كل الفرص إلى جانبنا؟ في هذا الصدد، ينكبّ كل من إيفا إلوز وإدغار كاباناس على هذا التحقيق الفكري في ظهور سوق “السلع العاطفية”، وهي عبارة عن “الخدمات والعلاجات والمنتجات التي تعد بالتحول العاطفي وتساعد في تنفيذه”.
تعتبر نقطة التحول العاطفية هذه أكثر من مجرد إعادة التركيز على الحياة الداخلية على حساب المنافسة الاجتماعية
عبر تأثيرها العام، فإن هذه الخدمات “تساهم في جعل السعي وراء السعادة أشبه بنمط حياة، ووسيلة للوجود والقيام بالأمور، بل وجعلها عقلية في حد ذاتها” وفقا لما جاء في مقال “هابيكراسي”. كما أنهم يجددون أنماط الاستهلاك ويعيدون توجيه توقعات المستهلكين نحو الفوائد النفسية والعاطفية بدلاً من المنافع المادية والاستثنائية. وقد أضاف كاتبا المقال أن “ما يحرك المستهلك اليوم، كما يكتب علماء الاجتماع، الذي يدفعه إلى الاستهلاك أكثر فأكثر، هو رغبته الضعيفة في الارتقاء اجتماعيا عوضا عن أن يحكم نفسه بنفسه بصفة فعالة، أي أن ينظم حياته العاطفية”.
تقبّل غير المقبول بابتسامة
تعتبر نقطة التحول العاطفية هذه أكثر من مجرد إعادة التركيز على الحياة الداخلية على حساب المنافسة الاجتماعية. وفي أفواه أولئك الذين يقومون بتطويرها وتسويقها، أضحت السلع العاطفية أكثر الأدوات فاعلية للنجاح، أو وسائل الدعم التي لا غنى عنها للبقاء على قيد الحياة ضمن سياق اجتماعي اقتصادي متدهور لا يمكن التنبؤ به ومثير للتوتر.
من جانبها، تحيل أطروحة “هابيكراسي” أو “صناعة السعادة” إلى أن السلع العاطفية هي التي تشكل بالفعل تلك الفلسفة الأساسية التي لديها أكبر صلة بالمتطلبات الجديدة للمرونة التي تميز عالم الأعمال والحياة في المجتمع. تجدر الإشارة إلى أنه في فترة ما بعد أزمة سنة 2008، التي تعمق فيها انعدام المساواة، تتقلص فرص الحراك الاجتماعي، وتصبح آلية سوق العمل أكثر صلابة. كما أن الدعوات المنادية بإثبات الحماسة والإيجابية والاعتماد على النفس تساهم في تحميل الأفراد مسؤولية كل ما يسير على نحو خاطئ.
في الواقع، يمكن التغاضي عن الظواهر الهيكلية المهمة مثل التغيرات في معدل البطالة أو ديون الدول أو حتى حجبها، مقابل التشجيع على تأسيس المشروع الذاتي وتحويل الفشل إلى فرصة. وكل ذلك يساهم في تشكيل بوذية جديدة لا معنى لها، و”مواد إباحية عاطفية” لا تغيب، لسوء الحظ، عن رواد موقع “لينكد إن”.
“اجعل من الحلم يفترس حياتك كي لا تقوم الحياة بالتهام حلمك”
من الممكن أن تتحول الطريقة الإيجابية التي نفكر بها في حياتنا إلى طريقة نُكيف بها واقعنا مع المعطى الاقتصادي الجديد. ولكن، يُمكنها أن تُصبح أيضا وجها من أوجه الطاعة والامتثال، وفقا لما كتبه إلوز وكاباناس، ذلك أنه من شأنها أن تأخذ شكل “العمل على الذات” و”إجهادها”. ويلاحظ كل من إدغار كاباناس وإيفا إلوز أنه “على الرغم من أن الشعوب تُدرك الاضطراب والهشاشة العامين، إلا أنها تعتبر القوى الهيكلية التي تُشكل حياة الأفراد معقدة وغير مفهومة في مجملها”.
في هذا السياق، تزود صناعة السعادة هذه الشعوب بأدوات يُروج لها على أنها نافعة، والأهم من ذلك، أنها ستسمح “للبعض، في أوقات حيرتهم وعجزهم، بحسن التصرف في حياتهم، في حين تُمكن البعض الآخر من التخلص من القلق الذي يسيطر عليهم ولو بصفة مؤقتة”.
من جهتها، تتحدث سونيا ليوبوميرسكي، وهي أخصائية في علم النفس ومتأثرة بهذا التوجه الفكري، عن “حل نسبة 40 بالمائة”. وبناء على هذا الحل، يعتمد نصف مستوى سعادتنا (50 بالمائة) على إرثنا الجيني، بينما يتأتى 10 بالمائة منها من الظروف الخارجية، التي لا نحيط بتفاصيلها، تماما مثل تركيبتنا البيولوجية الداخلية. وهكذا، سيظل هناك هامش شاسع، تصل نسبته إلى 40 بالمائة، ويرتبط قصرا بالحالة الذهنية للفرد. “وفقا لهذه المختصة، يتمثل السبيل الأكثر نجاعة للوصول إلى السعادة في السعي إلى تغيير الطريقة التي نفكر ونشعر بها، ونتعامل بها مع الآخر يوميا”، حسب ما جاء في مقال “هابيكراسي”.
انتصار ساحق للرؤية الإيجابية
دعمت الآلاف من الدراسات نظريات علم النفس الإيجابي. وبطبيعة الحال، هناك دراسات أخرى، تم ذكرها في “هابيكراسي”، تسير في الاتجاه المعاكس وتُلغي تماما فكرة أن ترسيخ التفكير الإيجابي سيُحسن من نفسية المرء، ما سيجعله ينجح في تحقيق ما تعهد بالقيام به.
على المستوى الفردي، يعتبر العديدون أن كل من لم ينجح في أن يكون غنياً أو سعيداً أو بصحة جيدة أو مرتاح البال أو مفعما بالحيوية، فهو لم يبذل الجهد الكافي لبلوغ ذلك. وبالتالي، فهو قد يستحق بشكل أو بآخر مصيره
في الحقيقة، لا يهم ذلك، نظرا لأنه وفقا لما يُقر به علماء الاجتماع، “تتمثل الأحاسيس التي يتلهف أشخاص كثيرون إلى الشعور بها، خاصة حين يمرون بأوقات عصيبة، في ثلاثية الأمل والقوة والعزاء”. وتُنتج صناعة السعادة العديد من السلع المندرجة ضمن سلسلات كبرى ومتجددة، تخضع لمتطلبات الموضة. ويُفيد المختصان، إلوز وكاباناس أنه “هناك دائما نظام جديد يجب اتباعه، وطريقة لتقييم الذات يجب تجربتها، وسوء تصرف من المستحسن الابتعاد عنه، وعادة صحية جديدة لممارستها، وهدف لتحقيقه، وتجربة يُنصح بعيشها، وحاجة يُرجى سدها ووقت يتعين على المرء حسن استغلاله”.
قد يتعلق النقاش الحقيقي برؤية الأشخاص للحياة أكثر من ارتباطه بمدى نجاعة تقنيات السعادة. فعلى المستوى الفردي، يعتبر العديدون أن كل من لم ينجح في أن يكون غنياً أو سعيداً أو بصحة جيدة أو مرتاح البال أو مفعما بالحيوية، فهو لم يبذل الجهد الكافي لبلوغ ذلك. وبالتالي، فهو قد يستحق بشكل أو بآخر مصيره. ويُضاعف الشعور بالذنب معاناة هؤلاء الأشخاص. ويتساءل كل من إدغار كاباناس وإيفا إلوز، اللذان يشخصان “الانهيار العام للبعد الاجتماعي لصالح البعد النفسي”، أنه على المستوى الجماعي، “ألا تُعزز هذه المرونةُ الامتثالَ حقا؟ ثم، ألا تُبرر ضمنيا التسلسل الهرمي والأيديولوجيات السائدة في المجتمع؟”
في الواقع، تُذكرنا الحجج التي قدمها عالما الاجتماع بشكل مقنع ومدعوم، بأطروحات ثنائي آخر من الباحثين المهمين، وهما كارل سيديرستروم وأندريه سبيسر، في مقال بعنوان “أعراض الرفاه”. وكان نجاح هذا المقال بمثابة المفاجئة والدليل على بداية الضجر من أيديولوجية السعادة هذه ومن آثارها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية.
أننا نعيش في عالم تُنظمه صناعة السعادة، مثلما أثبتته أطروحات علماء النفس والمختصون الاقتصاديون والاستشاريون في السعادة سواء في مجال التعليم أو الأعمال أو الإدارة، وحتى في مجال مؤشرات التنمية الاقتصادية والبشرية للدول.
وفي “هابيكراتي”، تم الاستناد إلى مؤلفين على غرار فوكو وانتقاداته للنيوليبرالية، وريتشارد سينيه وتحليله لثقافة الرأسمالية، فضلا عن كريستوفر لاش وانتقاده للشخصية النرجسية في ثمانينيات القرن العشرين. وفي الحقيقة، شهد هؤلاء على بداية بروز نوع جديد من الأفراد أطلق عليه اسم “هابيكوندرياك”، المهوسين بشكل محير بذواتهم والحريصين باستمرار على تصحيح فشلهم النفسي، وتغيير وتحسين أنفسهم”.
لكن، تغير الزمن الآن، إذ أننا نعيش في عالم تُنظمه صناعة السعادة، مثلما أثبتته أطروحات علماء النفس والمختصون الاقتصاديون والاستشاريون في السعادة سواء في مجال التعليم أو الأعمال أو الإدارة، وحتى في مجال مؤشرات التنمية الاقتصادية والبشرية للدول. وتخص الأمثلة المذكورة في هذا المقال العالم الأنغلوسكسوني، بما في ذلك ثورته النيوليبرالية المتطورة والمحافظة على ثقافته الذاتية في شتى الظروف.
أما في المجتمع الفرنسي، وعلى الرغم من أن تجليات تبنيه للموقف الإيجابي لا زالت محتشمة، إلا أن هذه الأيديولوجية تشق طريقها في العقول والمؤسسات. وينعكس ذلك من خلال انخراط الأجيال الشابة في استعمال المفردات والأساليب والمبادئ البراغماتية للمساعدة الذاتية وتراجع نماذج العلوم الاجتماعية الهامة التي دافع عنها إيفا إلوز وإدغار كاباناس بشكل مستمر.
يُعد مقال “هابيكراسي” أو “صناعة السعادة” نتاجا لهذه المواجهة بين التياريْن الفكرييْن المتعارضيْن سياسيا. ويكتب عالما الاجتماع، إلوز وكاباناس أنه “بقدر ما يقنع الناس أنفسهم بأن مصيرهم ليس سوى مجرد مسألة جهد شخصي ومرونة نفسية، فإن إمكانية تخيل حدوث تغيير اجتماعي وسياسي غير مضمونة أو على الأقل محدودة”. ويريد هذان العالمان التصديق بإمكانية وجود عالم يتساوى فيه كل من فرويد أو ماركس أو بوردو مع إيكهارت تول، أو مدوني “السعادة” على يوتيوب وأصحاب الشركات الناشئة الذين ينشرون وصفات للقراء. كما كتب إلوز وكاباناس أن “المتعة والسعي وراء السعادة لا يمكن أن تنتصر على الواقع والبحث عن المعرفة والتفكير النقدي وتفكيرنا في أنفسنا وفي العالم من حولنا”.
من جهتي، أشعر أننا نشهد على نصر ساحق ونهائي للرؤية “الإيجابية”. فبين خياريْ مصداقية العلوم، التي تكشف لنا عن آليات اللامساواة والظلم، وسماحنا لأنفسنا بأن نكون مخدوعين من قبل سلع السعادة، التي تُريد إقناعنا بأن نجاحنا وتطور ذواتنا يعتمد علينا فقط، يبدو القرار معروفا مسبقا. وتبدو المنافسة بين هاتين الرؤيتين للعالم غير متوازنة منذ الوهلة الأولى، لأن القليل من السعادة، حتى وإن كانت هشة ومشكوك في مصادرها، سيكون أفضل من انعدام هذا الشعور كليا بطبيعة الحال.
المصدر: سلايت