“هذا الكاش (النقد) الذي يأتي من أرامكو يساعدنا في اقتناص فرص كثيرة، فلو لم تُطرح أرامكو فإننا سوف نستغرق 40 أو 50 سنة لتنمية قطاع التعدين، ونستغرق 40 سنة لتنمية المحتوى المحلي، ونستغرق سنوات أخرى كثيرة حتى ننمي الخدمات اللوجستية مثلما أضعنا 40 سنة في السابق في محاولة لتنمية هذه القطاعات”.
بهذا الطرح المغري في التفاؤل شرح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عام 2017 دور فكرة بيع حصة عملاق النفط “أرامكو”، في إطار رؤية فكرته للتنمية “2030” التي كان قد طرحها قبل عام، لكن بعدما أثير بشأن تجميد خطط الطرح العام الأولي لأرامكو، بدأ الصندوق السيادي السعودي يطرق أبواب البنوك العالمية لطلب قرض تجاري هو الأضخم في تاريخه بقيمة 11 مليار دولار.
الصندوق السيادي السعودي على أبواب الاقتراض
إعلان القرض أو الاستدانة بلغة السوق كما تحدثت عنه صحيفة “فاينينشال تايمز” في تقرير سابق لها أعقب حديثًا عن تجميد خطط كانت قد أعلنتها المملكة سابقًا لطرح شركة أرامكو للاكتتاب، وهي الخطوة التي كانت تعوّل عليها المملكة في جمع 100 مليار دولار، لكن محللين ذهبوا – بحسب ما أوردته بلومبيرغ – إلى أن قيمة أرامكو أقل من ذلك بكثير.
عدلت السعودية عن خطتها بشأن أرامكو أو ألغتها نهائيًا
هذا التطور ترافق مع تكهنات خبراء اقتصاد بأن السعودية عدلت عن خطتها بشأن أرامكو أو ألغتها نهائيًا لأسباب لم تُعلن رسميًا، لكن صحيفة فاينينشال تايمز قالت إن ذلك يعود لعدم قدرة السعودية أو عدم رغبتها في طرح أسهم أرامكو رغم إصرار مسؤوليها على أنها لم تلغ الاكتتاب العام.
فوزير الطاقة السعودي خالد الفالح نفى إلغاء الاكتتاب، وقال في بيان: “الحكومة لا تزال ملتزمة بالطرح الأولي للاكتتاب، لكنه ربط ذلك بـ”الظروف الملائمة والوقت المناسب”، وذلك يناقض ما قاله مصدر مطلع لوكالة رويترز عن اتخاذ “قرار إلغاء الطرح منذ فترة، لكن لا أحد يستطيع كشف ذلك، لذا تمضي التصريحات تدريجيًا في ذلك الاتجاه”.
وبعيدًا عن تناقض التصريحات والأقاويل، فالمؤكد أن هذا القرض التجاري الأول الذي يحصل عليه صندوق الاستثمارات العامة المخول بالمساعدة في تنفيذ رؤية 2030 التي تهدف إلى تخليص المملكة من الاعتماد على صادرات النفط، الأمر الذي يطرح تساؤلاً عن ثغرات في الاقتصاد السعودي الذي يعاني من أزمات منذ 4 سنوات، وجعلته يتجه للاقتراض والديون.
التناقض بين تصريحات المسؤولين السعوديين وما يجري ضمن الخطط الاقتصاية للحكومة سيخلف انعكاسات سلبية ينتهي بها المطاف لما هو معروف بين المستثمرين بـ”عدم الثقة”
هذا التساؤل أجاب عنه تقرير “فاينينشال تايمز” متحدثًا عن مخاوف بشأن التعرض القانوني للشركة الذي قد يستدعي الشفافية في سجلات الشركة ودفاتر حساباتها، فضلاً عن عدم القدرة على جمع القيمة الفعلية التي قدرها ولى العهد السعودي بتريليوني دولار.
وتحدث التقرير عن أسباب أخرى منها إتاحة الفرصة لكبار المصرفيين الدوليين للحصول على الصندوق السيادي السعودي من خلال شراء حصته في شركة “سابك”، وهي رابع أكبر شركة للبتروكيماويات في العالم، التي ينوي بيع حصص فيها أو بيع كامل حصته، ويمتلك الصندوق 70% من سابك المدرجة في الرياض، ويبلغ رأسمالها السوقي 98 مليار دولار.
ومن المتوقع أن يتلقى الصندوق عشرات المليارات من الدولارات من بيع جزء من حصته في شركة الصناعات الأساسية “سابك” لأرامكو السعودية، أو بيع الحصة بالكامل، لكن مراقبين اعتبروا أن استحواذ صندوق الاستثمارات على هذه الحصة بمثابة بديل معقّد لجمع الأموال النقدية التي يحتاجها أكبر صندوق ثروة سيادي في البلاد.
وفي ظل هذا الواقع برَّر مصدر بصندوق الثروة السيادي لوكالة رويترز جمع القرض من بنوك عالمية بأنه يأتي لتعزيز موقف الصندوق المالي من أجل تمويل خطط التحول الاقتصادي في المملكة، لكن التناقض بين تصريحات المسؤولين السعوديين وما يجري ضمن الخطط الاقتصادية للحكومة لا شك أن قراءته من الاقتصاديين الدوليين والبنوك سُتؤخذ في الحسبان وتخلِّف انعكاسات سلبية ينتهي بها المطاف لما هو معروف بين المستثمرين بـ”عدم الثقة”.
أثقلت مشروعات ابن سلمان كاهل الاقتصاد السعودي بالديون الخارجية
متلازمة الديون والإنفاق
ليس هذا القرض الأول في تاريخ المملكة بشكل عام وقد لا يكون الأخير، فخلال السنوات الأربعة الماضية، وضعت المملكة نفسها – كما يقول اقتصاديون في ذلك النهج – وسط بؤرة سياسة الاقتراض المعلنة وغير المعلنة التي لا شك أنها ستثقل كاهلها أسوة بدول أخرى مرت بتلك التجارب ووضعتها في مأزق، ليس اقتصاديًا فحسب، وإنما سياسيًا أيضًا.
وبدأت تقارير تتحدث عن تواصل ارتفاع الديون الداخلية والخارجية مقابل زيادة كلفة الرؤية الاقتصادية “2030” التي طرحها ولي العهد السعودي، ففي أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي كشف ابن سلمان عن مشروع مدينة “نيوم” بتكلفة تقدر بـ500 مليار دولار، وهذا المشروع هو الأبرز ضمن خطة ابن سلمان لتحديث المملكة.
هذا المشروع وغيره الكثير ترافق مع إثقال كاهل الاقتصاد السعودي بديون خارجية، فبعد أن كانت المملكة ثالث أقل دول العالم في نسبة الدَّين العام للناتج المحلي الإجمالي في يناير/كانون الثاني 2013، واصل حجم الدين العام السعودي تراجعه في نهاية 2014 ليصل إلى نحو 11.8 مليار دولار، لتبدأ ملامح كل ما هو اقتصادي في المملكة في التغيير، وذلك مع بداية رحلة هبوط أسعار النفط.
في ظل العجز الكبير بالموازنة العامة للمملكة يبدو الشعور الدائم لديها بأنها دولة ما زالت غنية ويمكنها تحمل تكلفة كل هذه المشاريع
ودفعت رؤية ابن سلمان، إلى تسارع وتيرة لجوء الحكومة إلى أسواق الدين، فخلال عامين ونصف فقط، سجلت الديون السعودية قفزات متتالية، حيث تضاعفت نسبة الديون لإجمالي الناتج المحلي للمملكة بنحو عشرة مرات، فمن 1.6% في نهاية 2014، إلى 15.5% بنهاية النصف الأول من العام الحاليّ انطلقت رحلة الصعو.
ومنذ بدء أزمة تهاوي أسعار النفط قبل نحو ثلاث سنوات، قفزت الديون السعودية بنسبة غير مسبوقة لتزيد بنحو 861%، بعد أن وصلت إلى 113.4 مليار دولار خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مقابل 11.8 مليار دولار بنهاية عام 2014، لتمثل الديون حاليًّا ما يعادل 17.7% من الناتج المحلي للبلاد، الذي بلغ 2.4 تريليون ريال (640 مليار دولار) في العام الماضي، بحسب بيانات وزارة المالية.
أما داخليًا، تشكل الديون المحلية نحو 60% من الدين السعودي بنهاية الربع الثاني 2017، بقيمة 204.5 مليار ريال، فيما يمثل الدين الخارجي 40%، بقيمة 136.9 مليار ريال، وذلك بحسب تحليل صادر عن وحدة البحوث الاقتصادية بصحيفة “الاقتصادية” السعودية، إذ ذكر أن السعودية ما زالت رابع أقل دول العالم في نسبة الدين للناتج المحلي الإجمالي.
ونتيجة لهذا التراجع سجلت ميزانية السعودية عجزًا للعام الخامس على التوالي، فقد كشفت وزارة المالية السعودية بلوغ العجز في الموازنة العامة في الربع الأول من 2018 قرابة 34.3 مليار ريال (9.15 مليار دولار) بما يعادل نحو 18% من إجمالي عجز الميزانية المتوقع هذا العام والبالغ 52 مليار دولار بما قيمته 7.3% من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي ظل العجز الكبير بالموازنة العامة للمملكة يبدو الشعور الدائم لديها بأنها دولة ما زالت غنية ويمكنها تحمل تكلفة كل هذه المشاريع، لكن قد تكون الحقيقة أنها لن تستطيع تحمل المشاريع المعلنة حتى مع إدراج شركة أرامكو.
الإنفاق العسكري أرهق الاقتصاد السعودي بصورة كبيرة
فاتورة الإصلاح التي تسددها المملكة
حالة الركود الاقتصادي السعودي التي تفندها الأرقام، دفعت المملكة للتراجع في معدلات النمو، ما دفع السلطات إلى اتخاذ حزمة من الإجراءات التقشفية التي تسميها المملكة بـ”الإصلاحية”؛ من أجل سد العجز في الموازنة ومحاولة إحداث حالة من التوزان بين النفقات والإيرادات، دون اعتبار للتداعيات الناجمة عن هذه السياسات على المواطن السعودي.
لكن السياسة التقشفية الإلزامية التي تبنتها المملكة خلال الآونة الأخيرة تناقضت وبشكل واضح مع توجهات ولي العهد محمد بن سلمان الرامية إلى ملء خزائن الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا بالمال السعودي، إما في صورة صفقات سلاح أو استثمارات، هدف من خلالها الأمير الشاب إلى تسويق نفسه للعالم كونه الملك القادم للسعودية.
تلك الفاتورة التي تسددها المملكة دفاعًا عن طموحاتها الخارجية من جانب وأطماع ولي العهد الباحث عن الكرسي من جانب آخر أرهقت الاقتصاد السعودي بصورة كبيرة، وهو ما يجسده حجم الإنفاق في اليمن وسوريا، فضلاً عن مئات المليارات التي دفعتها الرياض للولايات المتحدة خلال زيارة رئيسها للسعودية مايو 2017، فضلاً عن تحملها كلفة الوجود الأمريكي في سوريا حسبما كشف دونالد ترامب في تغريدة له.
يبدو أن معظم العناوين الرئيسية تذكر مبالغ ضخمة من المال، وكأن المملكة لن تنظر في مشروع إذا كانت تكلفته أقل من مليار دولار
وفي وقت تسعى فيه المملكة لتنويع اقتصادها في ظل هبوط أسعار النفط، يبدو أن معظم العناوين الرئيسية تذكر مبالغ ضخمة من المال، وكأن المملكة لن تنظر في مشروع إذا كانت تكلفته أقل من مليار دولار، أو كما وصف ذلك ترامب بـ”الفول السوداني” بالنسبة للمملكة، وهنا، يرى مراقبون أن المملكة توسع نشاطاتها بشكل يفوق طاقتها.
وفي الواقع يمكن أن يتضاعف الدين العام السعودي خلال السنوات القادمة بسهولة، وذلك في حال فرضنا بقاء المعطيات السابقة على حالها، بمعنى أنه في حال واصلت أسعار النفط تراجعها، واستمر الاقتصاد في دوامة الانكماش، وهو ما يعني أن الديون ستكون المصدر الأول لتمويل العجز.
لعل ذلك ما دفع صندوق النقد الدولي إلىتحذير السعودية من زيادة الإنفاق في أعقاب ارتفاع أسعار النفط، وذلك بعد يوم من الكشف عن اقتراض الصندوق السيادي للمملكة 11 مليار دولار من بنوك عالمية، وقال الصندوق في تقرير إن زيادة الإنفاق ستعرّض ميزانية المملكة للانكشاف في حال انخفاض أسعار النفط بشكل غير متوقع، كما حثها على الحد من كلفة الرواتب.