بعد أيام من عملية ماهر الجازي على جسر الملك حسين الفاصل بين الأراضي الفلسطينية والمملكة الأردنية الهاشمية، خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في عرض جغرافي جديد له، يستعرض فكرة بناء جدار حدودي يفصل بين المناطق الفلسطينية التي يخطط لضمّها (منطقة غور الأردن) والمملكة الأردنية الهاشمية، بتكلفة تقدَّر بملياري دولار.
وفيما استعرض نتنياهو مصطلحات “القوة والحصانة” في تعريفه للجدار، التزم بلغة دبلوماسية لا تثير حفيظة الجانب الأردني في تحديده لأهداف بنائه، قائلًا: “سنعمل على إقامة جدار قوي على الحدود مع الأردن لمنع التهريب، لأن من المهم لنا أن تبقى الحدود مع الأردن حدود أمن وسلام”.
إعلان نتنياهو حمل العديد من الدلالات، أولها أنه جاء بعد عملية الجازي الفدائية التي أوقعت 3 قتلى من مستوطني الضفة الغربية، ثانيها استباقيته للذكرى الـ 30 لاتفاقية وادي عربة نهاية أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، وثالثًا ارتباطه بالأيديولوجية الصهيونية التي تفضّل بناء الجدران بينها وبين مخاوفها لينتهي بها المطاف حبيسة هذا الخوف.
عملية الجازي
المكان والسياق والآلية والمزامنة وعوامل أخرى تضاف إلى رصيد عملية الجازي، لتكتسب زخمًا مضافًا إلى قيمتها الحقيقية باعتبارها تمثيلًا لحالة التضامن الشعبي الأردني مع الفلسطينيين، ورفضًا لحرب الإبادة التي تُشنّ عليهم في قطاع غزة، وامتدت منذ أسبوعين لتطال جارتهم في الضفة الغربية.
فمن موقعها كعملية حدودية على يد أحد العاملين على المعابر، اُعتبرت إعادة وصل بين الأردن وفلسطين على المستوى الشعبي، وفي سياقها باعتبارها شكلًا من أشكال المواجهة المزمنة التي يخوضها الاحتلال على حدوده مع الأردن، فينجح مرات ويفشل أخرى في اكتشافها وإحباطها كما في عملية الجازي وفي آليتها، باعتبارها تجاوزت حالات سابقة حاولت الدخول إلى عمق الأراضي المحتلة للالتحام مع المحتلين وضربهم، فاستعاض الجازي عن ذلك بالاشتباك المباشر، وما هو متوفر من محتلين على المعبر خير من آخرين قد لا ينالهم.
وأيضًا مزامنتها الحساسة للوضع الداخلي الإسرائيلي والأردني الهشّ، والتي دفعت الطرفَين إلى التحوط الشديد في ردود الأفعال بما لا ينعكس عليهم داخليًا، وبما يقلل من ارتدادات العملية أو الاحتفاء بها من طرف المقاومة الفلسطينية.
ومع ذلك، ليست هذه هي العملية الأولى التي يكسر بها الأردني صمت اتفاقية وادي عربة وخوائها، ولا رتم التحالفات الأمنية وقيودها، فقد سبقت الجازي إلى ذلك عملية الجندي الثائر أحمد الدقامسة منتصف مارس/ آذار 1997، حين أطلق الدقامسة النار على مجموعة إسرائيليات أثناء تأديته الخدمة العسكرية في منطقة الباقورة، فقتل 7 وجرح عددًا آخر خلال تواجدهنّ في منطقة جزيرة السلام الحدودية.
مرورًا بعملية المواطنة الأردنية سونا الراعي في أبريل/ نيسان 1997، عندما أطلقت النار على جنود الاحتلال على جسر الملك حسين، وأوقعت عددًا من الإصابات بينهم قبل اعتقالها، وعملية المواطن الأردني طاهر خلف عام 2018، الذي هاجم اثنين من العاملين اليهود في ميناء إيلات خلال عمله هناك، وأصابهما بجروح متوسطة، قبل أن تعتقله قوات الاحتلال وتوجّه له اتهامات بالتخطيط للعملية منذ أكثر من 10 سنوات.
وانتهاءً بعدد من عمليات إطلاق نار وتسلُّل من الحدود الأردنية إلى داخل المناطق الفلسطينية إبّان السابع من أكتوبر 2023، لكنها ظلت بعيدة عن الإعلام ومحاطةً بتحفُّظ الجانبَين الإسرائيلي والأردني من أن تغدو مثلًا شائعًا في تكرارها.
ومنها 22 مارس/ آذار 2024، حين أعلن الاحتلال عن اعتقال مسلحين بعد اجتيازهما حدود الأردن من منطقة الغور، جاءا لينفّذا عملية في يافا محملين بالرشاشات والذخيرة، وعملية 5 أبريل/ نيسان حين تسلّل مسلح من الأراضي الأردنية وأطلق النار على جيب عسكري، ثم تمكن من الانسحاب والعودة إلى داخل الأردن.
وما بين عملية الجازي وما سبقه هناك العشرات وربما أكثر من عمليات التسلل وتهريب الأسلحة التي تهزّ أمن الاحتلال وتضرب وجوده، والتي يمكن ملاحظة آثارها بتطور العمل المقاوم في الضفة الغربية خلال الأشهر الأخيرة، وعودة العمليات الاستشهادية إلى الواجهة.
وهذا التطور الذي تحيله أوساط أمنية إسرائيلية إلى توفر مواد قتالية أكثر فعالية، وخبرة أعمق، وظروف لوجستية داعمة يعززها تهريب ما اصطلح على تسميته اعتباطيًا بـ”المخدرات”، لكنه في ميدان العمل الفلسطيني المقاوم كان “منشطات” بل أكثر.
هذه القفزة النوعية بالتوازي مع عملية الجازي، جعلت طرح الجدار الحدودي الفاصل مع الأردن أكثر إلحاحًا وحلًّا قد يبدو مناسبًا للاحتلال، من منطلق إغلاق الجبهة بأكملها بدلًا من مراقبتها وتتبّع عمليات التسلل والاختراق، والجهد الميداني والعملياتي المشترك مع الأردن.
العلاقات الأردنية-الإسرائيلية.. السلام البارد
مع نهاية أكتوبر/ تشرين الأول المقبل سيكون قد مضى على معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية 30 عامًا ممّا يفترض أنه “حالة السلام الدائم والعادل”، وسيكون كلا الطرفين قد اجتازا الكثير من الأزمات والمحطات التي عصفت بالمنطقة وباتفاقية السلام دون أن تودي بها أو بهما.
لا يتعلق الأمر فقط بالعملية الفدائية التي نفّذها ماهر الجازي في المنطقة الحدودية الفاصلة ما بين المملكة الأردنية الهاشمية والكيان المحتل، وتأثيرها المحتمل على علاقات الجانبين، إنما يتجاوزه إلى تاريخ متطاول من الأزمات التي أسّست لحالة من الانفصام بين السلام الرسمي والعداء الشعبي.
هذه الحالة جعلت المنظومة الإسرائيلية تفضّل اعتبار السلام مع الأردن ومصر “سلامًا باردًا“، على عكس السلام مع الإمارات والبحرين والمغرب، وهي الدول التي وقعت اتفاقيات سلام نخرت عظام شعبها، دافعةً إياه إلى فتح ذراعيه رغمًا عنه للسياح والتجارة والتبادل الثقافي والأكاديمي الإسرائيلي، وإغلاق عينيه وأذنيه وقلبه عن كل ما يناقض سلام الاتفاقية ودفئها.
لكن الواقع والتاريخ يؤكدان أن حرارة السلام مرتبطة بدول قدّمت لها الجغرافيا ميزة إسقاط القضية الفلسطينية من أولوياتها بسلاسة مطلقة، على العكس من مصر والأردن اللتين فرضت عليهما الجغرافيا الاحتكاك مع المحتل وليّ عنق الإرادة السياسية بما يتناسب مع المناخ الشعبي ولا يدفع إلى تثويره.
تضاف إلى ذلك صعوبة القفز على العديد من الانتهاكات السيادية التي أطلقها الاحتلال وشعبه وإعلامه في وجه أنظمة الأردن ومصر، غير عابئ بتأثيرها على مجتمعها المحلي وعلى استقرارها السياسي، بل متفاخرًا بسطوته في الإخضاع.
بدءًا من عملية سايروس نهاية سبتمبر/ أيلول 1997 التي تجاوز فيها الموساد سيادة الأردن، واخترق أمنه على أراضيه بمحاولته الفاشلة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل في العاصمة الأردنية عمّان، والتي تسبّبت في أزمة دبلوماسية حادّة ما بين الأردن ودولة الاحتلال، لا سيما أن الملك الأردني هدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بتنفيذ حكم الإعدام بحقّ عملاء الموساد إذا مات مشعل.
مرورًا بإطلاق الجيش الإسرائيلي النار على القاضي الأردني رائد زعيتر على معبر الملك حسين، بدعوى مهاجمته حارس أمن إسرائيلي في 10 مارس/ آذار 2014، وإعاقة عملية التحقيق والتكتم على المسؤولين عن مقتله، تلاها إطلاق حارس أمن إسرائيلي في السفارة النار على شابَّين أردنيَّين في يوليو/ تموز 2017 بدعوى حصول شجار داخل مجمع السفارة.
وكانت المعضلة الأبرز في الحادثين الأخيرين هي التعامل الإسرائيلي البارد مع الجناة، بدءًا من التعتيم على مجريات التحقيق في حادثة اغتيال القاضي والادّعاء بتعطل كاميرات المراقبة، وإطالة مدة التحقيق لما يتجاوز العام دون الكشف عن حيثياتها.
ثم ازدادت حالة الاحتقان بالاستقبال الدافئ والحفاوة البالغة لحارس الأمن الإسرائيلي من قبل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وتجاهل اتخاذ أي إجراءات قانونية بحقه رغم قتله لمواطنين أردنيين، حيث لم يخفِ الأخير سعادته بعودة الاثنين من الأردن قائلًا: “يسرني أن الأمور انتهت كما انتهت. أنتما تمثلان دولة إسرائيل ولا ننسى ذلك ولو للحظة. يسرني رؤيتكما. لقد عملتما بشكل جيد وبرباطة جأش”.
يُظهر هذا حجم التناقض بين التضامن الإسرائيلي الكامل مع الجناة على حساب بنود اتفاقية السلام، مقابل ما التزمت به الأردن تجاه مواطنها أحمد الدقامسة من محاسبة وتجريم، بل حكم مشدد وتقييد زيارة وإجراءات صارمة، وهو ما أثار حفيظة الشارع الأردني وصولًا إلى الدوائر السياسية التي طالبت بالإفراج عن الجندي أحمد الدقامسة المحكوم بالسجن المؤبد، ردًّا على أسلوب التعامل الإسرائيلي الذي اُعتبر “وقحًا” وتجاهل شرط ملك الأردن بمحاكمة حارس الأمن الإسرائيلي لإعادة فتح السفارة الإسرائيلية.
ورغم إعادة فتح السفارة الإسرائيلية في الأردن مطلع عام 2018، بعد تقديم اعتذار إسرائيلي رسمي لعائلة القاضي زعيتر والشابَّين الأردنيَّين، ودفع تعويضات بلغت مليون و650 ألف دولار لكل أسرة، والتعهُّد بمتابعة الإجراءات القانونية، وتعيين سفير جديد بدلًا من السفيرة السابقة التي تسبّبت في امتعاض أردني، إلا أن حكومة الاحتلال بقيادة نتنياهو لم تدّخر جهدًا في إحراج الأردن وتجاوزه، بدءًا من إعلانه في 10 سبتمبر/ أيلول 2019 خطةً لضمّ غور الأردن إلى حدود السيادة الإسرائيلية، وما يعنيه ذلك من ضمّ جميع المستوطنات ومناطق “ج” التي تمثل أكثر من 60% من مساحة الضفة، مرورًا بصفقة القرن 2019-2020 التي قادها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وهمّشت فيها الأدوار التاريخية للأردن من أي تسوية سياسية للقضية الفلسطينية، بل هددت الوصاية الهاشمية على الحرم المقدسي بضمّه إلى السيادة الإسرائيلية وإعطائها مسؤولية حماية الأماكن المقدسة وضمان حرية العبادة للديانات المختلفة.
وتكرّس ذلك بعدة شروط أمنية إسرائيلية حالت دون زيارة ولي العهد الأردني الأمير الحسين إلى المسجد الأقصى المبارك مطلع عام 2021 للصلاة فيه في ذكرى الإسراء والمعراج، ما اُعتبر مسًّا بالوصاية الأردنية على الحرم المقدسي، وبحرية الدخول العربي الإسلامي له، لا سيما أن الاحتلال اشترط عددًا محددًا من المرافقين، ما دفع موكب الأمير للعودة من جسر الملك حسين وإلغاء الزيارة.
الكومة الكبيرة من التعقيدات والاحتقان المتتالي، والتي كان آخرها حرب الإبادة التي شنّها الاحتلال على قطاع غزة، لم تسهم في إضفاء أي حرارة على اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية، لا سيما مع الغضب الإسرائيلي من سلسلة تصريحات أردنية رفيعة المستوى ألقت باللائمة على الاحتلال، بالتزامن مع حراك شعبي قوي ومحاولات متكررة للوصول إلى محيط السفارة الإسرائيلية، واختراق حدود جسر الأردن نحو فلسطين.
الأردن: في ميزان ردود الأفعال
اللافت والمثير في عملية الجازي أيضًا كانت ردود الأفعال الرسمية عليها من الجانبين الإسرائيلي والأردني، والمتباينة بشكل حادّ مع حوادث وعمليات أخرى مسّت بما بقيَ من السلام بين الطرفين، بل المنقلبة على الاستراتيجية الإسرائيلية التي تسارع لكيل الاتهامات والتصعيد.
فمقارنةً مع ردّ الفعل الأردني على عملية الجندي أحمد دقامسة حين ذهب الملك حسين إلى بلدة القتلى وقدم العزاء لأهاليهن، بل جثا على ركبتيه مؤكدًا مشاركته إياهم مشاعر الفقد والعزاء، ثم تقديمه تعويضًا بمليون دولار لكل عائلة بالتزامن مع إخضاع الدقامسة لمحكمة عسكرية أردنية والتأكيد على عدم أهليته العقلية، ورغم ذلك أُدين وحُكم بالسجن لـ 20 سنة قضاها كاملةً دون نقصان.
فإن ردّ الفعل الرسمي الأردني هذه المرة بدا جزءًا من أحجية أكبر عنوانها “إعادة تموقع الأردن بعيدًا عن إسرائيل”، وعبّر أكثر عن التماس النظام الأردني لحساسية ردة فعله في الوعي الجماهيري والشعبي، وإدراكه أن موقعه ليس حارسًا لأمن “إسرائيل” ولا ذراعًا من أذرع المقاومة، بل هو توزان بينهما يفضي إلى أقل قدر من الخسائر.
وبهذا بدا ردّ الفعل الرسمي بالنسبة إلى الشارع أكثر توازنًا، حين اعتبر أن العملية تمّت في المناطق التي تخضع للسيطرة الإسرائيلية وليست الأردنية، وأن الحادث فردي، وترك للمستويات الشعبية والحكومية أريحية واسعة في التعبير عمّا تشاء بدءًا من الإشادة بالمنفّذ والهتاف له، وتوزيع الحلوى وإطلاق الألعاب النارية، والمشاركة الحاشدة في بيت عزاء الشهيد، وتنظيم مسيرات حاشدة أُحرقت خلالها الأعلام الإسرائيلية وسط العاصمة الأردنية.
كما سلطت الأضواء على زيارات العشائر وبعض المسؤولين لبيت عزاء المنفذ، بينما ردد المتظاهرون قسم الولاء لقادة المقاومة الفلسطينية الضيف وأبو عبيدة والسنوار، مرارًا وتكرارًا دون قمع شرطي أو أمني، فيما اُعتبر متنفسًا آخر من النظام للجمهور، إدراكًا لما قد يسفر عنه الاحتقان من ارتدادات داخلية قد لا تكون محسوبة العواقب.
هذه الأريحية الشعبية الأردنية والجمود الرسمي الأردني في ردود الأفعال المرتبطة بالقضية الفلسطينية، لم تكن إلا نادرة في العرف الرسمي العربي الذي لطالما عمد إلى خنق الأصوات والتحركات الشعبية، ووضع حدودًا لم يسمح للجمهور أن يتحداها حتى في أحلك المحطات وأكثرها دموية.
ردّ الفعل الرسمي الأردني هذه المرة بدا جزءًا من أحجية أكبر عنوانها “إعادة تموقع الأردن بعيدًا عن إسرائيل”، وعبّر أكثر عن التماس النظام الأردني لحساسية ردة فعله في الوعي الجماهيري والشعبي، وإدراكه أن موقعه ليس حارسًا لأمن “إسرائيل” ولا ذراعًا من أذرع المقاومة، بل هو توزان بينهما
وهو ما سبق للوزير السابق السياسي والبرلماني ممدوح العبادي اعتباره “ميزة أردنية”، تصدر في إطارها مواقف رسمية تنسجم مع نبض الشارع في مفاصل تاريخية، معيدًا التاريخ إلى محاولة اغتيال خالد مشعل عام 1997، حين وضع فيها الملك حسين عملية السلام في كفة وإنقاذ حياة مشعل في كفة أخرى.
مشيرًا إلى أن سياسة الأردن في احترام علاقاته الدولية واتفاقاته تشترط ألا تؤثر على عمقه الوطني أو أن تلحق الضرر بمصالحه، دون أن ينفي ذلك أن بعض المواقف الرسمية المنسجمة مع الشارع لها ثمن في المعادلات الدولية والإقليمية.
تعزز هذه النظرية مقارنة الأردن مع مصر أقرب الحلفاء وتوأم عملية “السلام البارد”، أو مع دول الخليج العربي أو المغرب العربي (تونس والمغرب خاصةً)، فإن سقف الحراك الشعبي لم يتجاوز لوحة الكيبورد لشعوبها، بل في كثير من الأحيان تم اعتبار هذه المساحة مهددة للنظام القائم.
وخلال العمليات الفدائية المعدودة التي نفّذها مصريون بحقّ الجانب الإسرائيلي على طول أيام الحرب، فضّل المصريون التعتيم الإعلامي والإشارة إليها باعتبارها شجارًا عابرًا دون روابط قومية أو أمنية، بل تجاهل النظام الروابط الاجتماعية والشعبية مع قطاع غزة بالتأكيد والتفاخر بدوره في تعطيل الأنفاق وإغراقها، بل محاججة الاحتلال بهذه الأدوار.
ورغم أن النظام الأردني حاول استخدام التعتيم والتمويه مرات كثيرة في استهدافه للعمل الأردني المرتبط بالمقاومة الفلسطينية، والإشارة إليه باعتباره مكافحة تهريب، إلا أنه لم يظهر دوره إلا في إطار الدفاع عن أمنه الداخلي واستقراره السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفنّد كثيرًا من الادّعاءات الإسرائيلية مبادلًا الإحراج الإسرائيلي بآخر أردني.
وربما يمكن القول إن النظام الأردني يستخدم هذه الأريحية لكشف حجم الضغوط التي يواجهها داخليًا، ما يعظّم من دوره الأمني والسياسي في المنطقة باعتباره صمّام أمان، لا سيما أنه الجبهة الملاصقة والأكثر حساسية للعمق الإسرائيلي، أو لتصدير هذه الضغوط إلى حليفه الأمريكي وربيبه الإسرائيلي كتأكيد على أن الآتي أعظم، ما لم توقف آلة الحرب الإسرائيلية إجرامها.
رد الفعل الرسمي يفتح المجال أيضًا لاعتباره توازيًا مع ردود الفعل الإسرائيلية السابقة على هجمات استهدفت مواطنين أردنيين، لكن منفذيها حصدوا تضامن الحكومة دون إيلاء اهتمام يُذكر بمعاهدات السلام، ويتزايد هذا الترجيح بالنظر إلى العلاقة الشخصية الرديئة التي جمعت نتنياهو وحكوماته بالملك عبد الله وولي عهده.
كما أن رد الفعل الرسمي المتحفظ يعبّر عن الحاجة لإغلاق الجبهات لا فتح جبهات أخرى قد تقلب الشارع على سياسييه لا سيما مع الجبهات المفتوحة أصلًا والتي يواجهها الأردن حاليًا، ما بين إيران والعراق والجولان وحدوده مع الأراضي الفلسطينية التي ارتفعت فيها معدلات تهريب الأسلحة والمتفجرات.
ويبدو أن المستوى السياسي الأردني قد أدرك أن أي رد فعل متعاطف مع الاحتلال قد يدفع للمزيد من التطرف في نتائج الانتخابات النيابية، لا سيما أن الأداء النيابي المصاحب للسابع من أكتوبر لم يحقق مطالب القاعدة الشعبية الأردنية، بإيقاف الممر الاقتصادي مع الاحتلال والإفراج عن المعارضين السياسيين وإغلاق السفارة الإسرائيلية في الأردن.
في المحصلة، مهما كانت مبررات ردود الفعل الرسمية وحدود ردود الفعل الشعبية، فإنها ليست كافية لتفسير التوجه السياسي والأمني الحالي للنظام الأردني، لا سيما أن الأحداث في المنطقة العربية أصبحت تُقاس بالتداعيات وليس بردود الأفعال.
لكنها عمومًا عبّرت عن براغماتية عالية وقدرة ديناميكية على الركمجة وقراءة حسابات الشارع يتفوق بها الأردن على غيرها من الدول العربية، ويحفظ أمنه الداخلي على أقل تقدير، ويضيف المزيد إلى رصيده داخليًا وعربيًا وإقليميًا ودوليًا.
“إسرائيل” في ميزان ردود الأفعال
على الجانب الآخر كانت ردود الفعل الرسمية الإسرائيلية مثيرة للغرابة في سطحيتها، فرغم ما أبداه نتنياهو سابقًا من “استعراض سياسي” في حادثتَي اغتيال القاضي زعيتر وحارس السفارة، وإحباطه لزيارة ولي العهد الأردني، إلا أنه هذه المرة تجاوز أي اتهام أو إشارة للمستوى الرسمي الأردني، موجهًا أصابع الاتهام إلى إيران، معتبرًا أن “الأيديولوجية القاتلة” هي السبب.
وانسحب ذلك على وزراء الحكومة ومستويات الأمن والجيش ووسائل الإعلام الإسرائيلية التي تجاوزت توجيه أي اتهام للأردن الرسمي، معتبرين أنه “استطاع الحفاظ على العمل الاقتصادي والمدني على الجسر معزولًا عن مجريات الحرب في غزة”، وأن المسؤولية عنه مشتركة بين “إسرائيل” والأردن.
فيما يمكن تفسير رد الفعل الإسرائيلي بأنه إدراك للمصلحة الإسرائيلية في عدم استعداء النظام الأردني، لا سيما أن إيران لم تنفذ تهديدها وانتقامها لاغتيال هنية على أراضيها بعد، وهو التهديد الذي قد يلعب الأردن خط الدفاع الأول فيه كما في الهجوم الإيراني في أبريل/ نيسان المنصرم.
ناهيك عن الحاجة الإسرائيلية لمزيد من التعاون الأمني والعسكري على مختلف الحدود والجبهات وأبرزها الحدود الشرقية، ما يدفعها لتجاوز آثار العملية وسدّ الفجوات والخلافات مقابل استمرار التعاون الأمني وتفعيله، ما قد يبدو سياسة إسرائيلية عامة انتهجها المستوى السياسي للتعامل مع الضربات الشعبية العربية له، بالتراوح بين التعتيم المشترك كما في عملية الطعن في منتجع طابا بمصر، أو بإلقاء الاتهامات على جهات أخرى كما في الأردن.
دولة الجدران والحواجز
لكن المرحلة الثانية من ردود الأفعال الإسرائيلية على العملية كانت طرح بنيامين نتنياهو لفكرة إنشاء جدار حصين وقوي، كفيل بوقف عمليات تهريب الأسلحة والمتفجرات، ووقف الهجمات من الحدود الشرقية، خلال زيارته إلى جسر الملك حسين مع الأردن، حيث قال: “سنعمل هنا على إقامة جدار حصين أمام محاولات التهريب، ونفعل ذلك بالتنسيق مع الجيران. ومن المهم بالنسبة لنا أن نضمن أن تظل هذه الحدود حدود سلام وأمن”.
طرح فكرة بناء جدار فاصل على الحدود مع الأردن لم تكن حديثة النشأة، ولم تتخذ شكلًا موحدًا، حيث كان أول طرح لهذه الفكرة يعود إلى العام 2012، حين اعتبر تسييج الحدود مع الأردن وضبطها أمنيًا جزءًا من الاستراتيجية الإقليمية للجيش الإسرائيلي.
سيؤثر أي جدار “حصين” وفقًا لمواصفات الحكومة الإسرائيلية على منسوب المياه الجوفية، وحركة الجريان السطحي لمياه الأمطار، ونظام التصريف والتراكم، ما سينتج عنه فيضانات في بعض المناطق مقابل جفاف في مناطق أخرى
ثم في عام 2015 أعلن نتنياهو عزمه بناء سياج أمني مع الحدود الأردنية، وفي عام 2016 دعى إلى إحاطة دولة الاحتلال بـ”سياج” لحمايتها، وتبعًا لذلك توجّه الجيش بطلب بناء جدار على طول الحدود تحت مسمّى “الجدار الواقي”، وذلك لمنع تسلل المهاجرين الأفارقة عبر الحدود الجنوبية.
ونظرًا إلى الكلفة العالية التي توقعت وزارة المالية أن تصل إلى 7 مليارات شيكل، والعوائق الطبوغرافية والسياسية المختلفة التي شابت الفكرة، رفضت الوزارة المشروع على أن يتم تعزيز التواجد العسكري والتعاون الأمني لمنع عمليات التسلل.
فوفقًا لخرائط البناء والتأسيس، سيؤثر أي جدار “حصين” وفقًا لمواصفات الحكومة الإسرائيلية على منسوب المياه الجوفية، وحركة الجريان السطحي لمياه الأمطار، ونظام التصريف والتراكم، ما سينتج عنه فيضانات في بعض المناطق مقابل جفاف في مناطق أخرى.
وهو ما يجعل إقامته مرفقةً بموافقة أردنية وفلسطينية، وحاجة إلى توافق إقليمي مدفوع بموافقة أمريكية أو صمت على الأقل، لا سيما أنه سينهب جزءًا من الأراضي الفلسطينية وفقًا لاتفاقية أوسلو، والشرعية وفقًا لقرار مجلس الأمن 242، وسيؤسّس لإنهاء حل الدولتين بشكل كامل.
في عام 2018 أعاد بنيامين نتنياهو طرح الفكرة، مع تأكيد حاجة دولته لجدار يحميها من أي تغيير ديموغرافي أو اجتماعي، لكن استمرار العوائق ذاتها وغياب ظروف سياسية أو أمنية مهيئة، دفعت جيش الاحتلال لإقامة مقطع صغير بطول 34 كيلومترًا على طول الحدود الجنوبية ابتداءً من ميناء إيلات، تم وصفه باعتباره “حائطًا ذكيًا”.
ثم دشنت مقطعًا آخر بطول 4.5 كيلومترات وارتفاع 26 مترًا، بهدف حماية مطار رامون الذي تم إنشاؤه عام 2019، رغم تعارضه مع سيادة الأردن التي تحفظها له اتفاقية وادي عربة، وتنكّره لبروتوكولات المنظمة العالمية للطيران المدني حيث يؤثر وجوده على حركة الملاحة الجوية لمطار الملك حسين في مدينة العقبة، ويخترق المجال الجوي الأردني خلال عمليات الهبوط والإقلاع.
رغم ذلك عززت دولة الاحتلال من أمن المطار بإنشائها جدارًا على طول الحدود مع الأردن في مواجهته، مزودة إياه بالمعدّات الالكترونية وأجهزة الاستشعار لتأمين إقلاع وهبوط طائراته من أي تهديدات قد تصيبه من الجانب الأردني.
ثم في مطلع عام 2021 التفت دولة الاحتلال على دهاليز السياسة بإنشائها جدارًا ملحيًا عملاقًا من ترسبات أملاح البوتاسيوم، بارتفاع 9 إلى 13 مترًا وبطول 45 كيلومترًا في المنطقة الواقعة ما بين وادي عربة والبحر الميت، لتضاف إلى الجدار الأول الواصل إلى إيلات، تحت مبررات صدّ المتسللين ووقف التهريب.
ومع منتصف عام 2023 وقبيل السابع من أكتوبر، عادت أطروحة الجدار الفاصل على لسان نتنياهو من جديد بالتزامن مع ارتفاع حالة العمل المقاوم في الضفة الغربية، والتي اعتبرت عمليات تهريب السلاح عبر الحدود الأردنية سببًا مباشرًا لها.
حيث سجّلت بيانات الشرطة الإسرائيلية في الأشهر الست الأولى من عام 2023 ضبط 506 مسدسات و24 بندقية هجومية و8 عبوات ناسفة في 26 حالة تهريب فقط، كما شمل العمل الأمني إحباط محاولة تهريب متفجرات من “منشأ إيراني” عبر الحدود الأردنية.
ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، وما رافقها من حراك أردني شعبي وزحف عارم نحو الحدود المشتركة مع الاحتلال، واجهت الأجهزة الأمنية الأردنية صعوبات بالغة في قمعه وتقييده، وبالتزامن مع ارتفاع عمليات التسلل والتهريب، أصبحت الحاجة الإسرائيلية إلى جدار يغلق عليها جبهة الحدود الشرقية أكثر إلحاحًا.
وكان مقترح بناء الجدار قد عاد للتصدر منتصف مارس/ آذار المنصرم 2024، حين كشفت وسائل إعلام إسرائيلية عن اعتقال شابَّين تسلّلا من الأردن لتنفيذ عملية مقاومة في منطقة تل أبيب، حيث ضُبطا وهما يحملان كلاشنكوف ومشطَين للذخيرة، بالقرب من مستوطنة يتسائيل بمنطقة الأغوار.
وهو ما استنفر المستوى السياسي الإسرائيلي لإعادة طرح مشروع بناء جدار فاصل على طول 238 كيلومترًا، من بحيرة طبريا حتى خليج العقبة، في ظل فشل الإجراءات الأمنية الإسرائيلية في منع تسلل المقاومين أو الأسلحة إلى داخل حدودها.
إن توجه نتنياهو لبناء جدار آخر يعزز من فرضية أن نتنياهو “لم يتعلم من أخطائه”، فعملية السابع من أكتوبر التي كان من المفترض للجدار العازل الذي كلّف أكثر من مليار دولار واستغرق بناؤه 3 أعوام، لم يمنع المقاومة الفلسطينية من تنفيذ طوفانها وضرب الاحتلال في مقتلة
والحقيقة إذا ما رأى جدار نتنياهو النور سيكون هو الجدار السادس المحيط بـ”إسرائيل”، بعد كل من جدارها العنصري الفاصل بين الضفة الغربية، والخط الأخضر الذي انطلق بناؤه عام 2002 بطول 770 كيلومترًا وبارتفاع 7 إلى 8 أمتار، يضاف إلى جدارها العازل على حدود قطاع غزة والذي أنشئ عام 2016 بطول 60 كيلومترًا، والذي بلغت كلفته أكثر من 1.2 مليار دولار.
والجدار مع مصر في مطلع العام 2010 على طول الحدود من مدينة إيلات في خليج العقبة حتى تقاطع الحدود بين مصر و”إسرائيل” وقطاع غزة، بتكلفة مالية تصل إلى 400 مليون دولار، فالجدار مع الجولان الذي بدأ بناؤه عام 2011 على طول 70 كيلومترًا من منطقة الحمة في جنوب الهضبة حتى معبر القنيطرة بشمال الجولان المحتل، وأخيرًا الجدار مع لبنان الذي بُني عام 2012 بطول كيلومتر واحد تقريبًا وارتفاع يصل إلى 8 أمتار يفصل بين بلدة كفر كلا اللبنانية ومستوطنة المطل الإسرائيلية.
وفيما تتنوع أشكال وأطوال هذه الجدران بل عمقها ما بين تحت الأرض وفوق سطحها، لكن أيًا منها لم يسترعِ اهتمامًا دوليًا أو حقوقيًا من المجتمع الدولي، باستثناء جدار الفصل العازل للضفة الغربية، حيث أصدرت محكمة العدل الدولية في عام 2004 رأيًا استشاريًا معتبرة إياه انتهاكًا ومطالبة الاحتلال بوقفه، رغم أن جميع الجدران تلتهم أراضي عربية وتمزّق مجتمعات على حساب معايير الأمن الإسرائيلي وأيديولوجيته الدفاعية.
وهي الأيديولوجية التي تجد من يرفضها في صفوف الاحتلال حتى على حساب الأمن، لا سيما أن بناء الجدران تأسيس لعقيدة دفاعية وليست هجومية، وتقييد لمبدأ الهجمات الاستباقية ونقل الصراع إلى أرض العدو لتحقيق مبدأ العمق الاستراتيجي في الحرب.
كما يتأتّى الرفض من الفكر اليميني المتطرف الذي لا يعترف بالحدود وفقًا لمنظوره الإسرائيلي الحالي، إنما يراها أوسع من ذلك بمدى قصير يضمّ الضفة الشرقية للنهر (المملكة الأردنية الهاشمية)، وبمدى أوسع يضم أجزاءً من لبنان ومصر والعراق بل السعودية، وبالتالي إن وجود الجدران يعني اعترافًا بها كحدود قائمة.
وهو ما عبّر عنه مسؤولون متطرفون إسرائيليون، من بينهم وزير المالية الإسرائيلية سموتريتش في خطابه منتصف مارس/ آذار 2023 في باريس، حين وقف أمام منصة تحمل خريطة متداخلة الحدود بين فلسطين والأردن، وهي شعار منظمة الأرغون التابعة للمنظمة العسكرية الوطنية في أرض إسرائيل.
في المقابل إن توجه نتنياهو لبناء جدار آخر يعزز من فرضية أن نتنياهو “لم يتعلم من أخطائه”، فعملية السابع من أكتوبر التي كان من المفترض للجدار العازل الذي كلّف أكثر من مليار دولار واستغرق بناؤه 3 أعوام وأكثر من 1200 عامل وأكثر من 120 ألف طن من الحديد والصلب و6 مصانع للخرسانة والباطون، لم يمنع المقاومة الفلسطينية من تنفيذ طوفانها وضرب الاحتلال في مقتلة.
وأما الجدار العازل حول الضفة الغربية، والذي بلغت كلفته مليار و370 مليون دولار واقتطع 10% من أراضي الضفة الغربية، فإنه لم يمنع العمليات الفدائية في عمق الاحتلال، والتي تواصلت وتنوعت بل عادت العمليات الاستشهادية للضرب من جديد.
وتاليًا إن الجدار الفاصل مع لبنان والجولان لم يمنح الأمن لمستوطني الجبهة الشمالية، ولم يمنع الصواريخ والطائرات المسيّرة من استهداف وجودهم والدفع بهم نحو النزوح إلى الوسط، وهو ما يعزز الوعي بأن أي جدار مع الأردن لن يوقف عمليات التسلل وتهريب الأسلحة.
تمامًا كما عجزت المنظومة الأمنية عن إيقاف ماهر الجازي العامل على شاحنة نقل من تنفيذ عمليته في قلب المعبر الإسرائيلي وقتل ثلاثة من العاملين هناك، ما يجعل فكرة الجدار مجرد مناورة للقفز عن السبب الحقيقي لتهاوي الأمن الإسرائيلي.
الأردن يدين و”إسرائيل” تبدأ الحفر
وجود نتنياهو في منطقة الأغوار بصحبة سموتريتش وحديثه عن بناء جدار عازل فاصل مقابل الحدود الأردنية، استدعى ردّ فعل أردني شمل إدانة اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي لمنطقة فلسطينية محتلة، واعتبار حديث نتنياهو “ادعاءات باطلة واختلاق” بهدف توسيع السيطرة على الأراضي الفلسطينية.
كما شمل ردّ الفعل الأردني التأكيد على السيادة الفلسطينية على منطقة الأغوار، والرفض والاستنكار الشديد لخطط وتصريحات سموتريتش ومساعيه لضمّ الضفة الغربية وتوسيع الاستيطان، معتبرةً ذلك “تحديًا فاضحًا للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الدولي، وخصوصًا القرار 2334 الذي يدعو الاحتلال لوقف الاستيطان”.
ردّ الفعل الأردني مقابل الاقتحام الإسرائيلي فتح الجبهة على الجدار الذي يعتزم نتنياهو بناءه، وما صاحبه من رفض أردني سابق له، لا سيما أن السيطرة الإسرائيلية على الأغوار وشرق النهر تهدد الأردن على مستويين؛ أولهما توجُّه الاحتلال لتهجير الفلسطينيين إلى الأردن، والثاني التهديد الأمني باستمرار الاتصال المباشر بين الأردن والاحتلال دون وجود فواصل سياسية فلسطينية تقف في وجه التوسع الإسرائيلي.
وهو ما عززه التأكيد الأردني على اعتبار حل الدولتين هو الخاتمة التي يجد فيها الأردن ملاذه وأمنه من مخططات الاحتلال الديموغرافية والجغرافية والسياسية، رغم أن ما وصلت له مخططات الضم والتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية والأغوار لا تترك أي أفق لدولة فلسطينية.
بل على العكس من ذلك، إن استراتيجية الاحتلال المتبعة منذ العام 1967 والقائمة على عزل منطقة الأغوار عن بقية الضفة الغربية، تحول الدولة الفلسطينية التي ينتظرها الأردن إلى مجموعة من الجزر المنفصلة، حيث لم تنحسر السيطرة الإسرائيلية منذ احتلالها الضفة عن ابتلاع المنطقة الشرقية من نهر الأردن، وإعلانها منطقة عسكرية مغلقة يمنع تواجد الفلسطينيين فيها.
بل بنت سلسلة متصلة من 37 مستوطنة على مساحة 40 ألف دونم في مقابل الحدود الأردنية، بدءًا من ميخولا شمالًا وحتى متسبيه شالم جنوبًا حتى الخليل، يعيش بها أكثر من 13 ألف مستوطن، إضافة إلى 32 بؤرة أخرى قيد التوسعة.
وحظيَ مستوطنو الاحتلال بإعفاءات خاصة من رسوم التعليم والمواصلات والضرائب والكهرباء والمياه، وقُدّمت لهم أكثر من 64 ألف دونم زراعي في المنطقة على حساب تهجير الفلسطينيين، كما شُقّت لهم طرق التفافية خاصة تصلهم بمستوطنات الضفة والداخل المحتل على طول 285 كيلومترًا، دون أي تداخل مع المناطق الفلسطينية.
هذه الإجراءات التي ترافقت مع توقف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التي تعدّ الحدود والمستوطنات جزءًا محوريًا فيها، وتزايدت في ظل عدوان الاحتلال على قطاع غزة ومن ثم الضفة الغربية، بالتزامن مع تجاهل كامل لأي أبعاد حقوقية أو قانونية أو ضغوط دولية قد تمسّ دولة الاحتلال، مقارنة بما تجاهلته بعد قرابة العام على إبادة جماعية في قطاع غزة ذهب ضحيتها أكثر من 41 ألف فلسطيني.
جميعها تؤسِّس لوضع نهائي لمنطقة الأغوار يجعل من المستحيل خروجها من السيادة الإسرائيلية، بل يتجاوزها إلى اعتبار الجدار أمرًا مفروغًا منه بغضّ النظر عن تبعاته السياسية التي يتمترس الأردن وراءها، أو القانونية التي قد تجيّش المزيد من الضغوط والانتقادات ضد حكومة الاحتلال.
وليس أدل على ذلك ممّا كشفته وسائل إعلام اسرائيلية يوم 16 سبتمبر/ أيلول الحالي، عن بدء جيش الاحتلال حفر الخنادق على طول الحدود مع الأردن، بهدف “تأخير” تسلُّل محتمل لمركبات على غرار تسلُّل مركبات حماس يوم السابع من أكتوبر.
وفيما أكدت المصادر أن حفر الخنادق التي ستبدأ من كيبوتس إيلوت قريبًا من إيلات متجهًا نحو الشمال من وادي عربة، إنما يأتي في ظل انتظار إقرار حكومي بتخصيص ميزانية لبناء سياج أو جدار على طول الحدود الشرقية، وأنه لن يمنع بأي حال من الأحوال تسلُّل المركبات لكنه سيؤخرها فقط.
إلا أن هذا التحرك يعزز من اعتبار السابع من أكتوبر مؤسسًا لحالة هوس إسرائيلي تجعل قادة الجيش والسياسة يرون وراء كل تضاريس طوفانًا آخر، وهو ما يعني إعادة الوجود الإسرائيلي إلى مربعه الأول كقوة طارئة على المكان تمارس البطش والإبادة، في محاولة لتأكيد وجودها المتزعزع.
وهذا يدحض دعاية نتنياهو التي تزعم أن التطبيع الإبراهيمي نتاج تسليم جيرانها العرب بقوة “إسرائيل” وتفوقها الاقتصادي والتكنولوجي، وفي الوقت نفسه يعزز من اعتبار الأردن في المستوى السياسي والعسكري أرضًا معادية، أو ربما تغدو كذلك تحت وطأة نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي تقدمت بها الأحزاب الإسلامية على غيرها، في تقدم غير مسبوق لها على مدى تاريخ العملية الانتخابية الأردنية.
ورغم غياب أي رد فعل إسرائيلي على نتائج الانتخابات النيابية الأردنية، إلا أن هناك إدراكًا عميقًا أن “الأيديولوجية القاتلة” التي حذّر منها نتنياهو في رده على عملية الكرامة قد اكتسبت شرعية حكومية وبرلمانية تضاف إلى زخمها الشعبي المتصاعد في ظلال الحرب على غزة، وهو ما يحوّل الإسلاميين إلى لاعب شبه أساسي في المعادلة الأردنية -إذا ما قرر الملك ترك الأمور على عواهنها-، ويجعل صخب هتافاتهم الشعبي يدوي في أذن نتنياهو وسموتريتش صفارات إنذار، قد تردعهما عن المزيد من التطرف الطائش والاستهانة بأهمية علاقاتهما الأمنية والسياسية مع الأردن، أو تدفعهما للمزيد منه شمالًا وشرقًا بما يؤسّس ولا شك لاعتبار الأردن جبهةً أخرى في صراع لا ينتهي.