على نحو غير مسبوق، شهدت الأشهر الأخيرة من العام الحالي جدلًا حادًّا وخلافات واسعة بين أطياف الناشطين والمؤثرين السوريين المعارضين، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.
وليس جديدًا أو مستغربًا أن الثورة السورية وتطوراتها التي جعلت البلاد ساحة حروب بالوكالة، بما أنتجته من استقطاب واسع، أفرزت مبكرًا انقسامات وانشطارات بين أصحاب الموقف الواحد، والخندق الواحد أحيانًا، غير أن طول أمد الحرب التي تجاوزت 13 عامًا وسّع هوة الخلافات، وأنشأ مشهدًا عنقوديًا من تباينات الرأي وإعادة الاصطفافات، على المستويات السياسية والفكرية والاجتماعية والعسكرية كذلك.
ولعلّ أبرز ما يلاحظه المتابع خلال العام 2024 تحديدًا، هو أن بوصلة الغالبية العامة من الناشطين وجمهور الثورة السورية، انحرفت بشكل كبير عن استهداف نظام الأسد وأذرعه وحلفائه الإقليميين والدوليين، لتصبح “ساحة الثورة” نفسها ميدانًا لصراعات ومواجهات ساخنة بين عدة أطراف، كلها كانت قبل سنوات ترى في بشار الأسد “العدو الأكبر”، الذي تزول بإزاحته من المشهد السوري جميع العوائق والعقبات التي تحول دون بناء “سوريا المستقبل”.
في خارطة زمنية مختصرة ومحددة، يمكن القول إن الحراك الرقمي من الناشطين السوريين ضد نظام الأسد كان بدأ يتغير تدريجيًا منذ موجة التطبيع العربي معه، التي أعقبت زلزال فبراير/ شباط 2023، وأسفرت عن حضوره اجتماع القمة العربية في العاصمة السعودية الرياض في مايو/ أيار من العام نفسه.
في بدايات التطبيع وجّه جمهور الثورة وناشطوها لومًا وعتابًا كبيرَين للدول العربية، التي قالوا إنها “تحاول مسح جرائم الأسد وغسل سجلّه الدامي”، عن طريق إعادة العلاقات معه واستضافته مجددًا في كرسي القمة العربية الذي طُرد منه في العام 2012.
لكن القصة بدأت تختلف بشكل دراماتيكي بعد اشتعال الانتفاضة الشعبية بالسويداء، والتي جاءت بعد يوم واحد من قرار حكومة الأسد رفع الدعم عن المشتقات النفطية الرئيسية، وارتفاع أسعارها بنسبة تتجاوز 3 أضعاف، ومن هنا انقسم “جمهور الثورة السورية” إلى فريقَين، بدأ كل منهما يحاول نشر أفكاره بالإقناع حينًا، وبأسلوب “العنف الفكري” حينًا آخر.
فريق يرى انتفاضة السويداء حراكًا مهمًّا في سبيل إفهام الدول المطبّعة مع الأسد أن شرعيته سقطت منذ زمان، وتؤكد ذلك السويداء في هبّتها الشعبية، وأن الحراك ينتزع من يد الأسد ورقة “حماية الأقليات” ووصف الثورة بأنها “طائفية”، وفريق ثانٍ هوّن من الحراك وقلل من شأنه بشكل كبير، واعتبر أنه مجرد “ثورة جياع” وليس امتدادًا لـ”ثورة الكرامة” التي انطلقت في العام 2011.
وإذا كانت هذه بداية القصة فقط، فإن الأشهر التالية حملت الكثير من الملفات و”الترندات”، التي كان لافتًا أن نظام الأسد أو روسيا أو إيران أو “حزب الله” لم يكونوا أطرفًا فيها، إنما كان “أبطالها” و”ضحاياها” هم جمهور الثورة نفسه، بما حمله ذلك من طابع التخوين والسخرية والقطيعة، وصولًا إلى الشتائم المتبادلة.
لم يكن الانتقاد أو الجدل أو الهجوم الفكري يتعلق فقط بتبادل وجهات نظر وخلافات بين “رأي” و”رأي آخر”، إنما كان الأمر أكثر تعقيدًا، إذ انتقلت حالة الوسم بـ”اللاوطنية” من حالة “معارضة وثورة” مقابل “موالاة وتشبيح”، إلى حالة تخوين بين الأطراف الثورية صاحبة الرأي الواحد “فيما سبق”، حتى إن ظاهرة “التخوين” أصبحت “ظاهرة” بين مكونات الثورة السورية، وفقًا للباحث د. محمد نور حمدان، الذي يرى أن معظم جمهور الثورة “باتوا لا يؤمنون بأي مرجعية أو هيئة أو تيار أو فصيل”.
وأضاف حمدان في حديثه لـ”نون بوست”، أن تلك الظاهرة لها أسباب عديدة من ضمنها عدم وجود مرجعية حقيقية وقوية تمثل الثورة السورية، الأمر الذي يؤدي إلى ضعف الثقة في هذه الهيئات بما يؤدي إلى التخوين.
ويمكن إجمال غالبية محاور “الخلافات البينية” -إذا صحّ التعبير- لدى جمهور الثورة السورية بما يلي:
1- الجانب السياسي:
رغم أن مؤسسة الائتلاف السوري المعارض وجميع الكيانات السياسية والعسكرية التابعة لها، من حكومة مؤقتة وهيئة تفاوض وجيش وطني وسواها، كانت مثار انتقاد وجدل وهجوم من قبل الكثير من السوريين المعارضين، بسبب ما يعتبرونه “ترهّلًا في الأداء”، أو “عجزًا” عن مجاراة مجمل التطورات السياسية والميدانية في المشهد السوري، إلا أن العام الأخير كان لافتًا في مستوى الهجوم والتنديد بالائتلاف.
وتباينت الانتقادات التي تلقاها الائتلاف بين السخرية والازدراء حينًا، والتخوين حينًا آخر، حتى باتت مواقع التواصل في العام الأخير تتحدث عن “سقطات” الائتلاف و”لا وطنيته”، بشكل يوازي ما تلقاه نظام الأسد من اتهامات.
وحملت تصريحات التقارب التركي المحتمل مع الأسد موجة إضافية من الاتهامات للائتلاف، سواء تلك التي تنتقد “صمته عن التقارب”، أو التي تقول إنه “متواطئ وطرف في النقاشات”.
وبعيدًا قليلًا عن الملف السوري وتشابكاته، شكّلت القضية الفلسطينية باب جدل سياسي إضافي أمام جمهور الثورة السورية، عقب عملية “طوفان الأقصى” والحرب الإسرائيلية في قطاع غزة.
ولعلّ من الطبيعي جدًّا، وفق ما يقول البعض، أن تدور هذه النقاشات حول قرار حركة حماس التحالف مع إيران، المتورطة بشكل مباشر في الكارثة السورية ودعم الديكتاتور الأسد، لكن ما يبدو غير منطقي أن النقاشات وحملات التخوين بين السوريين المعارضين وصلت مستويات ربط هذا الجدل بالواقع السوري بطريقة لا تخلو من العنف الفكري، حتى إن الأطراف التي دافعت عن سياسة حماس واجهت اتهامات بالنكوص عن الثورة وتضحياتها، والأطراف التي هاجمت الحركة واجهت أيضًا اتهامات بالتعاطف مع الاحتلال الإسرائيلي وتبنّي اتجاه “صهيوني”.
2- الجانب الشعبي:
يبدو الجانب الشعبي في حالة المواجهات الساخنة بين جمهور الثورة هو أكثر الجوانب إثارة للجدل، لأنه لا يتعلق غالبًا بخلافات سياسية أو قضايا شائكة ذات زوايا حادّة، إنما يرتبط غالبًا بمناسبات أو نشاطات محلية في المناطق المحررة الخارجة عن سيطرة نظام الأسد.
تبدأ قائمة الجدل والاتهامات مع انطلاق مشاريع تجارية كبيرة في الشمال السوري واتساع نطاقها، والهجوم ضد شخصيات معارضة للنظام من ناشطين أو تجار أو مستثمرين، واجهوا قائمة اتهامات عريضة بـ”المتاجرة بالدم السوري”، أو تبييض الأموال عن طريق التجارة وتشييد المشاريع والمعامل، أو خلق بيئة تفاوت طبقي بين “مجتمع أغنياء ومجتمع مخيمات”، وتصوير مناطق الشمال السوري على أنها “آمنة” وتعيش “ظروفًا مثالية”.
واللافت أن غالبية الاتهامات تُساق عبر مواقع التواصل الاجتماعي دون أي أدلة أو وثائق، وتقابل غالبًا بوجهات نظر مضادة تدافع عن هؤلاء الأشخاص، وتعتبر ما يحصل ظاهرة طبيعية ومهمة في محاولة إعادة الحياة للمناطق المحررة، وتؤكد أن التفاوت الطبقي موجود في جميع مناطق السيطرة بالجغرافيا السورية.
وفي هذا السياق، يرى حمدان أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورًا في انتشار ظاهرة التخوين، خصوصًا أن بعض القنوات -لا سيما في تيليغرام- ليس لها مهمة سوى نشر “فضائح” منها ما هو صحيح لكن يتم المبالغة فيه، ومنها ما هو مضلل.
وبدأت كرة الثلج تكبر، سواء في المناطق المحررة أو في الخارج السوري، مع تنظيم فريق ملهم التطوعي مؤتمر “مؤثرون من أجل الإنسانية” بإسطنبول في أغسطس/ آب الفائت، حيث شارك فيه إعلاميون وناشطون وفنانون سوريون معارضون.
المؤتمر تلقّى سيلًا غير مسبوق من الانتقادات، مع كيل اتهامات للمشاركين فيه بـ”المتاجرة بأوجاع السوريين ومعاناتهم”، وغصّت مواقع ومنصات التواصل بمنشورات وفيديوهات تهاجم المؤتمر والمشاركين فيه، لا سيما فريق ملهم، منظِّم المؤتمر، وفتح بابًا واسعًا -قديم متجدد- من النقاش والجدل حول المنظمات الإغاثية العاملة في الشمال السوري.
وبالمقابل أيضًا، لم يسلم ناشطون وإعلاميون مقيمون في الشمال السوري، وكانوا من أوائل الذين غطّوا أحداث الثورة السورية والمعارك مع نظام الأسد، من سهام الانتقاد بسبب مشاركتهم في المؤتمر، فيما تكرر الأمر نفسه مع تنظيم معرض للكتاب في إدلب خلال شهر سبتمبر/ أيلول.
حيث اتُّهم كل من زار المؤتمر أو قام بتغطية فعالياته بـ”الترويج للجولاني”، و”خيانة” مبادئ الثورة، دون معرفة السبب الرئيسي وراء هذه الانتقادات، مع العلم أن إدلب شهدت خلال السنوات الماضية عدة فعاليات شعبية، من بينها على سبيل المثال دوري في كرة القدم شاركت فيه نوادٍ كثيرة في الشمال المحرر، أو فعاليات نظمتها حكومة الإنقاذ، الواجهة المدنية لهيئة تحرير الشام، دون إبداء هذا الكمّ والنوع من الانتقادات.
حتى إن بعض المتفاعلين مع الهجمات ضد معرض الكتاب تساءلوا: الجامعات والمدارس العامة في محافظة إدلب تابعة لحكومة الإنقاذ، فهل يجب مقاطعتها كذلك؟
ويبدو أن فقدان ثقافة الحوار البنّاء وانتشار التعصّب الفكري لدى أوساط في المعارضة السورية ناجم بشكل أساسي، وفق ما يرى مساعد الباحث في مركز الحوار السوري أ. عامر العبد الله، عن غياب المرجعية المتفق عليها، وعدم وجود مؤسسات قادرة على تنظيم الحوار والتبادل الفكري داخل أوساط المعارضة، إذ أصبحت تقريبًا كل جماعة أكثر انغلاقًا حول نفسها، وهو ما يؤدي إلى تعصب فكري يرفض الآخر، وسط تكرار حالة الانتقادات والميل دائمًا إلى التشكيك والطعن.
وأضاف العبد الله في تصريحات لـ”نون بوست”، أن حالة الجمود السياسي وتوقف المعارك الكبرى في سوريا منذ اتفاق موسكو الموقع بين تركيا وروسيا في مارس/ آذار 2020، يلعبان كذلك دورًا في تفسير تفاقم الخلافات الداخلية في المعارضة، لأنه لم تعد هناك قضايا ميدانية ملحّة تفرض توحيد الجهود، ولم يعد هناك حديث عن إسقاط نظام الأسد أو تحرير مناطق جديدة.
ولذلك أصبحت المعارضة أكثر عرضةً للانقسامات في ظل غياب الأهداف، وارتباط أغلب أطراف المعارضة السياسية والعسكرية بأجندة إقليمية أو دولية، أو وجود حالة من التنافسية الداخلية فيما بينها، خاصة إذا ما علمنا أن هيئة تحرير الشام تحاول خلق نفوذ لها ضمن مناطق سيطرة الجيش الوطني السوري، وتعمل على شراء الولاءات من قياديين مناصرين لها بالمنطقة، وبالفعل تمكّنت من إحداث عدة شروخ بين مكونات الجيش الوطني، والتوغل ضمن مناطق لم تكن تحلم ببناء نفوذ فيها بريف حلب الشمالي.
ويبدو أن انتشار تلك الظاهرة يتعلق أيضًا -بحسب الباحث حمدان- بعدم قدرة المكونات والهيئات الحالية على تمثيل الثورة السورية، ووجود فساد بين الفصائل وبين هذه الهيئات السياسية امتد حتى إلى منظمات المجتمع المدني، مشيرًا إلى أن بعض الأشخاص باتت لديهم ثروات طائلة بعد الثورة، الأمر الذي أدّى إلى عدم الإيمان بهذه الهيئات والمكونات والفصائل من قبل بعض شرائح السكان.
3- الجانب الديني:
كان من الطبيعي خلال سنوات الثورة الطويلة ظهور نقاشات دينية حول مجمل القضايا العسكرية والسياسية والمدنية، وحول شكل الحكم في الدولة بعد سقوط النظام، على سبيل المثال.
ومع تنوع أطياف الثورة السورية وانتماءاتها الدينية والطائفية، كان للجانب الديني حضور لافت في الجدل والنقاشات وفي أرض الواقع كذلك، وارتفعت وتيرة ذلك مع ظهور التنظيمات الراديكالية في ساحة الأحداث، وعلى رأسها تنظيم “داعش”.
وظهرت في الساحة السورية -لأول مرة- فتاوى وأحكام من شخصيات غير سورية منضوية في تنظيم “داعش” أو جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام لاحقًا)، نظر إليها السوريون حينها على أنها “أحكام متطرفة”، لا تعبّر عن حقيقة ما يُعرف بـ”التديُّن الشامي”، المعدود ضمن التيارات المعتدلة في الأحكام الفقهية ونمط الحياة، مع ملاحظة أن كل ذلك كان خلال فترة المعارك الكبيرة والرئيسية في البلاد، والتي امتدت بين عامي 2012 و2020.
ومع سيطرة هيئة تحرير الشام على كامل محافظة إدلب، فُرض نوع خاص من الأحكام الدينية ونمط المعيشة، وأصبح على السكان الالتزام بتعليمات دينية أكثر صرامة من طبيعة التدين السائد بالمحافظة، مع ملاحظة أن ما تعرف بـ”الأحكام المتشددة” انخفضت وتيرتها تدريجيًا، لا سيما أن الجولاني زعيم تحرير الشام بدأ يميل نحو تصدير صورة مدنية مختلفة عن صورة تنظيمه السابقة، وظهر ذلك بدءًا من زيّه الشخصي وزياراته المتكررة لفعاليات مدنية وتجارية، ومحاربته تنظيمات رفضت هذه التغييرات، وتمسكت بالبقاء على نهج القاعدة.
قد تبدو المقدمة السابقة مجرد عرض تاريخي خارج عن سياق الملف الرئيسي، غير أنه يأتي -في الواقع- في صلب موضوع النقاشات والخلافات الدينية، لأن الأوضاع العامة في إدلب خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة اختلفت بشكل كبير عمّا قبل ذلك، وأصبحت إدلب “أكثر انفتاحًا” إذا صحّ التعبير، لكن في الوقت نفسه بقيَ تيار ديني غير رسمي يحاول مواجهة هذا التغيير من خلال إصدار فتاوى تنتقد بعض النشاطات المدنية والفعاليات التجارية بسبب “الاختلاط”، ويمكن القول إن هذا التيار يستطيع التأثير بشكل قوي لدى حكومة الإنقاذ وهيئة تحرير الشام.
ويمكن القول إن آخر المواجهات بالجانب الديني وأكثرها سخونةً، ظهرت مع تنفيذ فعالية الألعاب البارالمبية”بالملعب البلدي في إدلب خلال أغسطس/ آب الماضي، وهي نسخة خاصة بأصحاب الهمم تم تنظيمها برعاية “منظمة بنفسج”، بالتزامن مع تنظيم الفعالية نفسها في فرنسا.
وشارك في هذه الفعالية ناشطون وإعلاميون تعرضوا هم والمنظمة الراعية لانتقادات دينية بسبب “مظاهر الاختلاط” التي حصلت فيها، واحتدم الجدل والنقاشات بين أطراف دافعت عن الفعالية، وأطراف ثانية اتهمت المنظمين والإعلاميين بالترويج لـ”أفكار الغرب”، وتقليد ثقافة “الكفار” من خلال الشعلة التي تمّ إيقادها في حفل افتتاح دورة الألعاب البارالمبية، ما دفع الهيئة إلى الاستجابة لهذه الانتقادات وإلغاء الفعالية.
هذا نموذج واحد فقط من الخلافات الأخيرة بالجانب الديني وقع في إدلب تحديدًا، لكن توجد بالمقابل نماذج كثيرة تابعة لـ”الترندات” التي خاضَ فيها جمهور الثورة مؤخرًا، حتى وصل الأمر إلى سجال حادّ أيضًا حول جواز الترحُّم على رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية عقب اغتياله في طهران، بين من يرى عدم جواز ذلك لأنه توفي في أرض دولة “عدوة” و”متورطة في دماء ملايين المسلمين”، وبين من يرى أنه زعيم حركة وطنية “اضطرت” للتحالف مع إيران بسبب “خذلان” الدول العربية لها.
واللافت أن المجلس الإسلامي السوري، وهو أكبر هيئة دينية معارضة لنظام الأسد، أصدر بيانًا في نعي هنية، ثم اضطر إلى سحبه بعد موجة الهجمات والانتقادات التي تلقاها.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ لم تمضِ أسابيع على سحب بيان نعي هنية، حتى بدت بوادر تشكيل كيان موازٍ للمجلس الإسلامي السوري، حيث أُعلن في مدينة أعزاز شمالي حلب عن تشكيل “نقابة العلماء السوريين الأحرار”.
ورغم أن القائمين على النقابة أشاروا إلى أن الهدف من تشكيلها هو “حماية طلاب العلم والدفاع عن حقوقهم”، وأن هناك حاجة ماسّة لوجود كيان يهتم بشؤون الدعاة والعلماء، إلا أن ذلك لا يعني تبديد مخاوف بعض الناشطين من أن يكون الهدف من الكيان تبديد دور المجلس الإسلامي وإضعافه، وفي الوقت ذاته لم تسلم النقابة من الانتقادات، خصوصًا أنها تضمّ الكثير من الشباب وطلبة العلم الذين لم يرتقوا بعد لأن يكونوا “علماء”، فضلًا عن اتهامها من قبل البعض بالتبعية لهيئة تحرير الشام.
غياب ثقافة النقد البنّاء
ثقافة “التخوين” المنتشرة بين أطياف في المعارضة السورية ركزت مرارًا على اتهام الآخرين بالخيانة أو العمالة، وهذا ما قد يؤدي إلى زعزعة الصفوف الداخلية المتزعزعة أصلًا، في حين يغيب عن الكثير من المكونات اللجوء إلى ثقافة النقد البنّاء الذي يسعى لتصحيح الأخطاء عبر الحوار الموضوعي.
وهنا يعتبر الباحث حمدان أن وجود النقد أمر طبيعي، بل إن السوريين قاموا بالثورة للمطالبة بالحرية، مشيرًا إلى أن الشعب لا بدَّ أن تكون لديه “عين رقابة” على جميع المكونات والفصائل والهيئات، فهذه رقابة شعبية، لأن كل من يعمل بالشأن العام يجب أن يكون مراقَبًا من الشعب، لكن بشرط ألا تنقلب هذه الرقابة إلى وسيلة لهدم المؤسسات والمرجعيات والتخوين وهتك الأعراض، بل اللجوء إلى محاولة تقديم الفاسدين للمحاكم.
ورأى حمدان أن حالة “الكل يخون الكل” و”الكل لا يؤمن بالكل” مشكلة كبيرة، وتؤدي إلى اليأس وترك الثورة والخذلان وضعف تمثيلها، وهو ما يصبّ عمليًا في مصلحة النظام.
ما ذهب إليه حمدان يؤيده كذلك فيه عامر العبد الله، الذي يرى أن ظاهرة التخوين تؤدي إلى تآكُل القاعدة الشعبية من سكان الشمال السوري ومناصري الثورة عمومًا، ويتراجع التفاؤل بشأن القدرة على تحقيق التغيير المرجو.
علمًا أن ظاهرة النقد البنّاء ليست سلبية، بل على العكس هي مطلوبة بشكل كبير، خصوصًا في هذا التوقيت الذي يكثر فيه النقد الهدّام وغير الموضوعي، وهذه السلبيات لا يجب التقليل من مخاطرها، لأنها تجعل الثورة السورية ضحية لتفكُّك داخلي يتفاقم يومًا بعد آخر، وفي الوقت ذاته إن ظاهرة التخوين تعزز مبدأ “الخمول” وعدم الانخراط في أي فعاليات أو نشاطات أو مؤتمرات لصالح الثورة السورية سواء في الداخل أو الخارج، خوفًا من التهجُّم والقدح.