في الصورة المثالية المتخيلة لانتخابات رئاسية، وجب أن نكون هذه الأيام في تونس منشغلين بالدعاية الانتخابية للمترشحين، نقارن ونناقش ونتخاصم في الأفضل، ونمارس متعة الناخبين الأحرار المالكين لزمام أمرهم، لكن انتخابات تونس أبعد ما تكون عن هذه الحالة المتخيلة أو المثالية.
الشعور المهم الآن هو كيف ننقذ ما يمكن إنقاذه من الأمل في التغيير لاستعادة مسار سياسي غير إقصائي وغير دموي، ولا يعيد إنتاج الهيمنة الخارجية على تونس، ولذلك شرعنا نبرر لأنفسنا الاختيار، مكتفين بما نصوره كأقل الاختيارات سوءًا.
ونحن واعون تمامًا بأن خياراتنا/ قراراتنا ليست خالصة منا، بل نستشعر هيمنة خارجية تحدِّد لنا الخطوط الكبرى، كما يحدَّد لقطيع طيب نوعية الأعلاف المدرّة للحليب. من يؤثر على انتخابات تونس وماذا يريد من التونسيين؟
خديعة انتخابات 2019
“التطبيع خيانة عظمى”، هذا الجملة حكمت نسبة عالية جدًّا من التصويت للرئيس قيس سعيّد. لقد نطقها بشجاعة وأصرّ عليها، فسرنا خلفه هاربين من غريمه في الدور الثاني، والذي ظهر في نفس التوقيت يتخابر مع عميل صهيوني (وكم كانت مسرحية متقنة الإخراج). فلمّا فاز احتفلنا بانتصار على الصهيونية، حتى أن غزة المحتلة شاركتنا الاحتفال وأرسلت لنا التهاني، لقد وصل إلى السلطة في تونس نصير القضية. هكذا ظننا وظنت غزة.
سرعان ما انكشفت الخديعة، ورأينا أبعاد اللعبة التي انطلت، لكن كان الوقت قد فات للاستدراك، لقد كان درسًا مكلفًا رسخ لدى الجميع قناعة أن أي انتخابات تجري في قطر عربي لا يمكن أن تنجو من التدخل الصهيوني. ووسعنا النظر في كل خطوة.
لم يحدث شيء من مقاومة التطبيع في تونس، بل إن الرئيس صاحب المقولة قد نكص على عقبيه، ورفض تمرير القانون أمام برلمان اختاره بنفسه. بل ذهب بعيدًا في تطوير علاقته بنظام العسكر في مصر، وهو من هو في خدمة الصهيونية وقد تكفلت غزة بالكشف العظيم. وكفتنا إقامة الحجة عليه.
المؤثرون متعددون
لقد كنا نقول ولدينا أدلة أن فرنسا هي من تختار رئيس تونس منذ استقلالها. والأمر لم يتغير وإن كانت الصورة الآن غير واضحة والأمر اختلط علينا (مع من تقف فرنسا الآن؟). إن نقص المعلومات يضعف مقالنا.
لكن ترسخ لدينا يقين أن أي خطوة في اتجاه ديمقراطية متينة تزعج العدو الصهيوني (وفرنسا أخت الصهيونية وأمها المرضعة)، وقد تابعنا ردود الأفعال على انتخابات الأردن الأخيرة، وتبيّن أن أي صندوق انتخابي عربي نظيف يأتي بأعداء الصهاينة. فهل ستنجو هذه الانتخابات من ذلك التأثير؟
لدينا يقين آخر نطق به البعض بشجاعة، هو التدخل الجزائري في مجريات الوضع العام في تونس، بما في ذلك المسار الانتخابي. إنه ليس مكشوفًا بل يحسن تمويه أصابعه في زحام الأحداث. عندما تبيّنت لنا الخديعة (بشعار التطبيع)، وبدأ التململ، كانت دولة الجزائر ترفد النظام بالمساعدات والتمويل، حتى قال بعض النشطاء الجزائريين إن الجزائر تدفع رواتب التونسيين. لا نملك الأرقام لكننا نحتفظ بصور شاحنات المعونة.
تقدّم الجزائر للعالم صورة بلد يدار بطريقة ديمقراطية، وقد نظمت انتخاباتها الأخيرة وحظيت بالمباركة الأمريكية، لكن على الأرض نرى الاحتمال الديمقراطي السليم يخيف السلطة الحقيقة في الجزائر، أي العسكر المتحكم الفعلي في البلد. أين الجزائر وعسكرها من انتخاباتنا الحالية؟ هل لديها مرشحها؟ وكيف تدعمه عمليًا؟ لا يقين، ولكن تلتقي في انتخابات تونس الصهيونية والعسكرتاريا العربية من الجزائر حتى مصر، مرورًا بحفتر في ليبيا لمحاربة كل احتمال ديمقراطي. أما خوف الغرب من الديمقراطية فليس عندنا محل شك.
نستسلم أم نقاوم الهيمنة؟
في هذه السبّورة السوداء تبدو العراقيل أعلى من قدرة التونسيين على التجاوز، بل يذهب البعض منهم إلى أن كل التحليل أعلاه هو إعادة نشر نظرية المؤامرة على شعب ذكي حريص على سيادته، وإن التدخلات السري منها والعلني مجرد أوهام مهزومين. لذلك إن الجبهة الداخلية التي ينبغي أن تتماسك حول سلامة الصندوق الانتخابي واحترام نتائجه، لم تقم ولا نراها تقوم.
من هذه الزاوية ترتفع مؤشرات الإحباط، فالمطلوب الوقوف ضد شياطين الداخل المعادية للديمقراطية، بالتوازي مع حماية الصندوق من شياطين الخارج.
إنها جبهات متعددة مفتوحة على قوى حزبية مشتتة ومتناحرة في بينها، وشخصيات نرجسية لا تريد أن تتواضع للحظة السياسية الهشة، وتشقها حروب استئصال لا تؤذن بنهاية أو شفاء، بما يقلل من تقدم الاحتمال الديمقراطي، وهو الوضع الذي تحبّذه قوى الهيمنة الخارجية بكل مكوناتها.
إنها ربوة عالية وجهد مستنزف في سنوات من الصراعات البينية، التي كشفت كل الضعف ولم تنتج قوة مقاومة داخلية تؤمن فعلًا بالصندوق.
الإسلاميون حاضرون بالغياب
العقدة في منشار الديمقراطية العربية المخيفة هو وجود الإسلاميين في كل قطر، فكلما فتح صندوق انتخابي نظيف أخذوا فيه المكان الأول، وآخرها انتخابات البرلمان الأردني التي كشفت رغم كل المعيقات أنهم القوة السياسية الوحيدة المنظَّمة، والتي تملك كوادر كافية للحكم، بل لديها القدرة على تجديد نخبها وتقديم الشباب منهم.
في تونس ومنذ الانقلاب غُيّب الإسلاميون بالتدريج، ويجري الآن اعتقال المزيد منهم، فبعد قيادات الصف الأول وتجميد الحزب بلا قانون، يجري الآن اعتقال الكوادر الوسطى بتهم عقوبتها الإعدام، وهم يشاهدون المسار الانتخابي من سجونهم، فليس لهم مرشح لكن الجميع يعرف أن خزانهم الانتخابي موجود ويمكن الاستفادة منه.
وقد فُسّرت الاعتقالات الأخيرة على أنها ابتزاز حرياتهم مقابل خزانهم الانتخابي. إنه نوع من الإخضاع لجزية انتخابية (التصويت مقابل الأكسجين)، ومن دون ضمانات أيضًا، والويل لمن يختار الإسلاميون أن ينصروه برغبتهم، فهو ساقط ولو بعد فوزه.
هذا الوضع يعيدنا إلى النقطة الصفر من الديمقراطية. مطلوب محليًا ديمقراطية بلا إسلاميين، ثم نكتشف بلا فلسفة أن هذا ليس مطلب الناس، بل مطلب غربي معادٍ للإسلاميين. ولأن هؤلاء الإسلاميين لا يندثرون من تلقاء أنفسهم، فإننا نجد أنفسنا في الدائرة المفرغة التي تركها بن علي ومبارك وغيرهما، عملية سياسية مضروبة من الداخل تشتغل لصالح قوى الهيمنة الخارجية، بما يغلق أي أفق تغيير حقيقي.
هنا يستوي المرشحون، فالفائز واحد وإن اختلفت السحنات والأسماء، ونكتشف طول الطريق التي علينا صعودها لحماية الصندوق الانتخابي وتحمل كلفة الحرية، حيث لا يمكننا الإفلات من تأكيد أمر سبق لنا قوله: إن أي انتخابات حرة في قطر عربي هي جزء هامّ من معركة تحرر وطني ضد قوى الهيمنة الغربية والعربية المرعوبة من الاحتمال الديمقراطي.
ونختم بألم أنه لن تؤدي انتخابات تونس 2024 إلى تحرر تونس من هيمنة جيرانها. وكل الأمل أن تزيد في كشف تلازم الديمقراطية مع معركة التحرير التي لم يكملها الآباء ذات ثورة تحرر وطني.