“عندما بدأتُ، كنت أشبه بكائن فضائي يحطّ على السينما التركية. هكذا كان شعوري، لعله شعورٌ خاطئ، لا أعرف. لم يكن أحد في تركيا متآلفًا مع هذا النوع من السينما. لم أحصل على أي تمويل، كان عليّ جمع تكاليف فيلمي القصير الأول وأفلامي الثلاثة الطويلة الأولى بنفسي. أنجزتُ “أوزاك” الذي صوّرته بـ35 ملم بـ90 ألف دولار فقط لا غير. الطاقم التقني كان مقتضبًا؛ شخصان فقط. أدرتُ الكاميرا بنفسي واستعنتُ بشخص يهتم بضبط الفوكوس. كان هذا الشيء الوحيد المجبر عليه. في الواقع، يكفي أن يكون عندك ضابط فوكوس لتنجز فيلمًا”.
بهذه الكلمات، استدرج المخرج التركي “نوري بيجلي جيلان” أثناء حديثه عن بداياته السينمائية التي خاض أولى غمارها “متأخرًا” بحدّ قوله، إذ كان قد أتمّ عامه السادس والثلاثين حينما قدّم أول أفلامه. أما ما يعتبر نفسه قد تأخر عنه، فليس إنتاج الأفلام وتجميع جوائزها، بل ارتكاب الأخطاء التي يمكن أن يتعلّم منها. فالأخطاء بالنسبة لجيلان، هي أفضل المدارس.
أنتج جيلان حتى العام تسعة أفلام، إحداها قصير
تسعة أعمال سينمائية، بينها فيلم قصير، استطاعت أن تأخذ باسم صاحبها إلى العالم، حاملةً معها قضايا الإنسان والمجتمع التركيّ والناس البسطاء الذين استطاع “جيلان” أنْ يحوّل قضاياهم إلى أعمال فنية تستحق المشاهدة. فالإنسان هو محور أفلامه، يتجذّر من خلاله في اهتمامات المجتمع التركيّ الحديث، ويغوص في مشكلاته ويحلّلها بأسلوبٍ دقيقٍ. وفي حين أنّ جيلان كان غالبًا ما تتم مقارنته بمخرج السينما الإيرانية “عباس كياروستامي”، إلا أنّه استطاع لاحقًا أن يطوّر أسلوبًا خاصًّا به تمامًا.
وُلد “نوري بلجي جيلان” عام 1959 في مدينة إسطنبول. وعلى الرغم من أنه قد تخرّج من قسم الهندسة الكهربائية في جامعة “بوغازيتشي”، إلا أنه آثر بعد ذلك أنْ يلتحق بقسم التصوير الفوتوغرافي والسينمائي في جامعة “معمار سنان” لمدة عامين اثنين فقط ليقرّر بعدها الانسحاب وإكمال المسير وحده.
فيلم “Once Upon a time in Anatolia“: لغز بوليسيّ غامض يرثي الأناضول وتاريخه
يروي الفيلم بسردٍ طويل وبطيء تفاصيل الجولة البوليسية التي تقتفي آثار دفن إحدى الجثث المقتولة التي نسيَ قاتلها مكان دفنها في مكانٍ ما في إحدى بلدات الأناضول البعيدة. القصة في غاية البساطة، رحلة تستمرّ الليلة والنصف يقوم بها بعض أفراد الشرطة والمفتش العام للبلدة بالإضافة إلي الطبيب الذي سيقوم بفحص الجثة وتشريحها فيما بعد، إضافة للقاتل، كلٌّ منهم يرمز لرمزية معينة استطاع جيلان نسجها وخلقها بصياغة سردية وبصرية بارعة.
تريلر فيلم “حدث ذات مرة في الأناضول”-2011
أما عن فكرة الفيلم فيقول جيلان نفسه: “بالنسبة لـ”ذات زمن في الأناضول”، استندتُ الى شهادات حقيقية من طبيب تعاون معنا في كتابة السكريبت. خلال عشاء جمعني به، أخبرني انه تمّ التفتيش عن جثة حتى الصباح، وروى لي الكثير من التفاصيل. أخبرني مثلاً ان شَعر الميت ظهر أولاً عندما تمّ العثور على الجثة. بيد أنّ التفصيل الأهم الذي جعلني أرغب في إنجاز هذا الفيلم قوله إنه هو ومَن كان حاضراً هناك، شعروا بأنهم كانوا كأصدقاء مع المجرم الذي اعتقلوه. هذا الشقّ من الحياة مشوّق لي، وهو الذي حمّسني. دوستويفسكي قال إن مجرماً في سيبيريا قتل عشرة أشخاص ترك فيه انطباعاً غير مسبوق. هذا المجرم أدهشه. هؤلاء الأشخاص في حوزتهم سرّ لا نعرفه بعد. طبعاً، غيّرنا الكثير في مرحلة الكتابة، وأدخلنا عناصر من تشيكوف، الخ”.
صورة بانورامية تظهر طبيعة الأناضول كما قدّمها جيلان في فيلمه
يرثي جيلان في فيلمه هذا التاريخ، من خلال رثائه للأناضول القديمة بروعة حضارتها وآثارها وما تبقّى منها من خلال لقطاته البانورامية الواسعة التي تُظهر أن العاصمة التاريخية القديمة قد فقدت روحها مع أنها لا تزال تحتفظ بجمالها الباهت بعض الشيء. فمن خلال أحداث الفيلم يحاول جيلان أن يجعلنا نربط ما بين العاصمة القديمة بتاريخها وحضارتها وعراقتها وما بين ما آلت إليه من تهاوي وانحدار إنسانيّ تقوده البيروقراطية الشديدة والجهل المدقع السائد بين سكّان المنطقة.
فيلم “Uzak“: عن الوِحدة والاغتراب الداخليّ الذي تصنعه المدينة
يروي فيلم “بعيدًا” قصة هادئة عن زوجٍ من أبناء العمومة في اسطنبول. إذ وصل عامل المصنع يوسف من الريف ليبحث عن عملٍ له في المدينة، بعد أنْ استقبله ابنه عمه محمود، مصوّر الإعلانات التجارية الذي ترك القرية منذ زمنٍ طويل. محمود من جهة قد اعتاد حياة الوحدة والعزلة، لكنه من جهة ثانية مجبرٌ على استقبال ابن عمه وإيوائه في بيته الصغير الرماديّ الباهت، تمامًا كما حياته وأيامه.
تريلر فيلم “بعيدًا”- 2002
يحاول الفيلم من جهة أن ينقد حياة المدينة كسجنٍ خاص يخلقه سكّانها بأيدهم، فتتلاشى آمالهم وتندثر أحلامهم ويصبحون أسرى للملل والرتابة والرمادية التي تطغى على كلّ شيء فيها، لا سيّما في ظلّ طغيان الفردية والمجتمع الفرديّ والفشل الاجتماعيّ الواسع، بعكس مجتمعات الأرياف والقرى الدافئة التي تجسّدت بالفيلم عبر شخصية يوسف. وعلى أنّ أحداثه تحدث في اسطنبول التركية، لكنّ ديناميكية الفيلم يمكن زرعها في أي مكان. هو قصة عن الوحدة والعزلة والشغف المكبوت في الأعماق ونزاع الفرد الداخليّ بين نفسه وذاته من جهة، وعائلته ومجتمعه من جهةٍ أخرى.
فيلم “Winter Sleep“: الإنسان تحت رتابة الحياة اليومية
يستمر جيلان في فيلم “سبات شتوي” بتعزيز نهجه السينمائيّ الواقعيّ والقائم على اكتشاف جماليّات العاديّ وتصوير الحياة اليومية وتحليل العلاقات الإنسانية والطبقية في المجتمع. إضافةً إلى استعارته واستلهامه من الأدب الروسيّ في بعض آلياته السردية ليعكس من خلالها بحساسية بصرية عالية واقعًا إنسانيًا متماثلًا بين الشعوب.
وهو ما عبّر عنه جيلان مرةً حين قال في إحدى مقابلاته: “قد يكون للأدب الروسي التأثير الأكبر في أفلامي. فخو صالح للإنسانية جمعًا. ولو لم أكن أرى فيه انعكاسات المجتمع التركي، لم أكنْ لأستخدمه”.
تريلر فيلم “سبات شتوي”- 2014
وفي “سبات شتوي” يقدم جيلان أوضح مثال على تأثره بالأدب الروسيّ، تشيخوف خاصة، من خلال اختياره لشخصيات من مسرح تشيخوف، قام بإعادة رسمها وتصميمها لتتأقلم في بيئة تركية محلية، راصدًا إياها في الحياة اليومية العادية التي تمتلأ بالظلم والاستغلال والفقر والطبقية الواسعة بين شرائح المجتمع.
مشهد من الفيلم- يتميّز جيلان بلقطاته البانورامية الواسعة التي تظهر الطبيعة في بيئة أفلامه
وفي هذا يقول جيلان: “نقطة انطلاق “سبات شتوي” قصة لتشيكوف اسمها “الزوجة”، لازمت تفكيري لنحو 15 عامًا، مع قصص أخرى لتشيكوف. لكن لم يكن عندي ما يكفي من ثقة كي اقتبس فيلمًا منها. فجأة، بدأنا مع زوجتي بالتأليف وأتممناه في نحو ستة أشهر. كان تحديًا كبيرًا أن أنجز فيلمًا يستند الى حوارات كان معظمها فلسفيًا وثقيلًا. السينما لا تحب عادة هذا الثقل. كنت خائفًا، ولكن أحتاج الى ما يخيفني في كل فيلم أتولى تنفيذه. فعندما تخاف من شيء، تبذل مجهودًا أكبر. غياب الخطر يصيبك بالكسل.”
في السينما المعاصرة، قلة من المخرجين مثل جيلان، يراقبون أوضاع بلدانهم وقضايا مجتمعاتهم بحساسية عالية لينتجوا من ورائها أعمالًا سينمائية تحكي الكثير عن الناس والبشر والطبيعة والتاريخ والأوضاع السياسية ومشاكل الأفراد في المدن والتناقض الطبقي القاسي أحيانًا والمضحك أحيانًا أخرى. وعلى اختلاف آرائنا بأفلامه، إلا أنه لا يختلف اثنان على أنّ جيلان هو رائد المدرسة السينمائية التركية بأسلوبه المتميز وقدرته الإخراجية الفذة.