أثارت جريمة اختطاف وقتل الطفلة التركية نارين غوران، في إحدى قرى مدينة ديار بكر جنوب شرق تركيا، غضبًا واسعًا في أنحاء البلاد، خاصة بعد توصل التحقيق إلى تورط 11 شخصًا من أهل القرية من بينهم أفراد من العائلة، أبرزهم والدة الطفلة وعمها وشقيقها.
واختفت نارين في 21 أغسطس/آب الماضي في أثناء توجهها لإحدى دورات تحفيظ القرآن الكريم الصيفية في قريتها، قبل أن يتم العثور على جثتها داخل كيس في قناة مائية بعد 19 يومًا من اختفائها، فيما أكدت فحوصات الطب الشرعي أن الضحية قتلت خنقًا، وسط ترجيحات بأنها قضت في الماء ما يقارب 15 يومًا، ما يجعل من الصعب تحديد توقيت الوفاة بدقة.
أحد المتهمين قال إنه تخلص من جثة نارين بطلب من عمّها مختار القرية، بعد إغرائه بمبلغ 200 ألف ليرة تركية، أيّ ما يعادل نحو 6 آلاف دولار تقريبًا، مقابل إخراجها من سيارته ورميها في القناة المائية مستعيًنا بحجر صخري لإغراق الجثة، قبل أن يتراجع -على ما يبدو- عن تلك الإفادة.
من جانبه، أولى الرئيس رجب طيب أردوغان اهتمامه بالقضية، وصرّح بأنه يتابع سير التحقيقات عن كثب متوعدًا بمعاقبة المجرمين. كما تعالت أصوات منظمات حقوق الطفل والمرأة مطالبة برفع السرية عن تفاصيل الجريمة، ونظموا وقفات احتجاجية في مدن عدة رافعين وسم “نارين كان يجب أن تذهب إلى المدرسة هذا العام”.
مقتل الطفلة نارين مثّل أحدث حالة في سلسلة عنيفة من جرائم العنف الموجهة ضد الأطفال والنساء في تركيا، قبل انتشار خبر آخر عن تعرّض شابة سورية لاجئة “نايا” لمحاولة قتل، يوم الإثنين 16 سبتمبر/ أيلول الجاري، بإطلاق النار عليها، من قبل شاب تركي تقدّم لخطبتها مرات عدة ولم تقبل الارتباط به. وهو ما يسلط الضوء على الارتفاع المقلق في معدلات العنف، حيث تُطالب منظمات حقوق الإنسان والطفل بتغييرات قانونية عاجلة للحد من انتشار هذه الجرائم، لا سيما بعد تزايدها منذ أن توقفت تركيا عن العمل بـ”معاهدة إسطنبول”، وهي اتفاقية لحماية حقوق المرأة والطفل وقعتها تركيا في عام 2011، لكنها تخلت عنها مؤخرًا، ما أثار انتقادات واسعة.
العنف ضد الأطفال
تواجه تركيا تزايدًا ملحوظًا في معدلات العنف الجسدي ضد الأطفال داخل المنازل، الأمر الذي كشفته دراسات صادرة عن منظمات حقوقية.
وحسب دراسة أصدرتها منظمة “مراقبة حقوق الطفل” بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي في 2020، فإن معدلات العنف ضد الأطفال داخل المنزل في تركيا تتزايد بوتيرة سريعة بالتزامن مع تراجع أعداد المواليد، نتيجة ارتفاع نسب الطلاق وانخفاض معدلات الزواج الذي تشهده البلاد منذ عام 2019.
وقدّر عدد الأطفال في تركيا عام 2019 بـ27.5% من إجمالي نفوس تركيا، ومن المتوقع أن يتراجع إلى 23.3% في عام 2040، و20.4% في عام 2060.
وتشير الدراسة إلى أن الصفع والضرب هما أكثر وسائل العقاب استخدامًا من الأهالي، حيث يلجأ واحد من كل 5 آباء إلى ضرب أطفاله، ويعتمد واحد من كل 3 على الصفع كأسلوب تأديب، فيما يصل عدد الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 15-17 عامًا وحرموا من استكمال تعليمهم بقرار عائلي إلى 13.6% من الأطفال الذكور و13.9% من الأطفال الإناث.
وإلى جانب ذلك يبرز العنف الجنسي ضد الأطفال، الذي يعد الأكثر وضوحًا ويتم تناوله بشكل واسع في وسائل الإعلام التركية، إلا أنه يصعب الحصول على بيانات موثقة نتيجة لما يحمله من حساسية في المجتمع التركي، إذ لا يزال الاعتداء الجنسي وصمة تتجنبها الضحية وأفراد أسرتها، مما يقف عائقًا في طريق التبليغ والمساءلة والإحصاء بطبيعة الحال.
وحسب بيانات معهد الإحصاء التركي تم جلب نحو 158 ألفًا و343 طفلًا إلى مراكز الدولة في عام 2016 بعد تعرضهم لأنواع مختلفة من الاعتداءات، وكان من بينهم 16 ألفًا و877 ضحية اعتداء جنسي، وبلغت نسبة الفتيات المعتدى عليهن 87%، بينما ارتفع عدد الأطفال الذين تعرضوا لجرائم اعتداء جنسي في 2017 إلى 18 ألفًا و623 طفلًا وطفلة.
كما أعلنت منصة “ماردين شاهميران” للنساء في تقريرها السنوي العام الماضي، أن 270 حادثة اغتصاب وقعت بحق أطفال من الإناث والذكور في المدينة عام 2023. وأشار التقرير، الذي غطى الفترة الزمنية ما بين 1 يناير/كانون الثاني و31 ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام، إلى تعرّض ما لا يقل عن 270 طفلًا إلى اعتداء جنسي 172 منهم تحت سن 16 عامًا، 3 حالات منهم نتج عنها حمل وولادة.
وإلى جانب ذلك، أظهرت دراسة منظمة “مراقبة حقوق الطفل” أن الإناث في تركيا، وخاصة في المناطق الريفية، يتعرضن لضغوط نفسية لإجبارهن على الزواج المبكر، ورغم انخفاض معدلات الزواج المبكر بين عامي 2010 و2018 من 8.2% إلى 5.6%، فإن هذه النسبة لا تزال مرتفعة، وتبرز مقاطعة “Ağrı” في المقدمة بنسبة 14.8% في تزويج الفتيات القاصرات، تليها “Muş” بنسبة 14.1% و”Bitlis” بنسبة 12.5%، ما يسلط الضوء على استمرار مشكلة تزويج القاصرات بفارق عمري كبير.
كما يواجه العديد من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و17 عامًا في تركيا ضغوطًا نفسية وجسدية تدفعهم للهروب من منازلهم بسبب العنف الذي يتعرضون له في البيت أو المدرسة أو الشارع، خاصة في المناطق الريفية.
وأكّدت الإحصائيات أن نحو 104 آلاف و531 طفلًا وطفلة هربوا من منازلهم بين عامي 2008 و2016، وكانت الفتيات الفئة الأكبر بين هؤلاء الهاربين، حيث بلغ عددهن نحو 59 ألفًا و435 طفلة. وفي عام 2016 كان يعيش 8279 طفلًا تحت سن 14 في مؤسسات حماية الدولة بعد هروبهم من ذويهم.
العنف ضد النساء
وإلى جانب العنف ضد الأطفال، تبرز تركيا كأعلى دولة أوروبية في معدلات العنف الموجه ضد النساء، وفقًا لبيانات منظمة دول التعاون الاقتصادي والتنمية لعام 2019، حيث يصل معدل العنف ضد النساء في تركيا إلى 38%، إذ تتعرض 4 من كل 10 نساء تركيات لعنف من الذكور في حياتهن.
وحسب تقرير صادر في يونيو/حزيران 2023، عن اتحاد الجمعيات النسائية في تركيا (TKDF) وصندوق الأمم المتحدة للسكان، فإن 28 ألفًا و198 سيدة أبلغت عن عنف أسري ضدها أو ضد أحد من أطفالها، كما أكد التقرير ارتفاع معدل تعرض الأطفال للعنف من 7% إلى 17% بعد عام 2012 وإلى 18% مع انتشار وباء كورونا.
وتأتي النساء المتزوجات على رأس قائمة الأكثر تعرضًا للعنف في تركيا بنسبة 73%، تليهن العازبات بنسبة 12% ثم المطلقات بنسبة 7%. وتتراوح أعمار معظم الذين يتعرضون للعنف بين 31 و55 عامًا بنسبة 42% تليها الفئة العمرية 19-30 بنسبة 37%.
ويتصدر العنف الجنسي قائمة الاعتداءات ويقف الزوج وراء 68% منها، يليها شكاوى عن أنواع مختلفة من العنف مثل العاطفي والاجتماعي والاقتصادي. وسُجلت بيانات تؤكد أن 73% من المعرضين للعنف الجنسي داخل البيوت هم من النساء، و11% أطفال، و10% فتيات.
ويؤدي فشل السلطات في إنفاذ أوامر المحكمة إلى ترك الكثير من النساء عرضة للعنف المميت، إذ إن أغلب حالات قتل النساء تكون آخر مرحلة في سلسلة اعتداءات جسدية متكررة تعرضت لها على يد شريك حالي أو سابق.
على سبيل المثال، 38 من أصل 307 نساء قُتلن عام 2021 كان لديهن بالفعل “تصريح حماية وقائية” يشمل مجموعة من التدابير الرامية إلى إبعاد الجاني ومنعه من الاقتراب من الضحية أو الاتصال بها، لكن التطبيع المجتمعي مع العنف غالبًا ما يساعد الجناة في التهرّب من العقاب بغطاء إداري.
تظهر البيانات الحكومية الصادرة عن وزارة العدل تناقضات واضحة بشأن عدد أوامر الحماية الصادرة على مدى السنوات الخمسة الماضية، حيث يختلف عدد الأفراد الذين تلقوا أوامر إبعاد من المحكمة عن عدد النساء اللواتي حصلن على حماية وقائية بفارق كبير.
وصدر عام 2016 نحو 139 ألفًا و218 قرار إبعاد من المحكمة في جميع أنحاء تركيا، بينما تلقت 1801 امرأة فقط حماية وقائية. وارتفع العدد بشكل أكبر عام 2018 ليصبح 181 ألفًا و72 قرار إبعاد مقابل 4648 امرأة حصلت على حماية وقائية، بينما وصل الرقم إلى 272 ألفًا و870 قرار إبعاد مقابل 10 آلاف و401 حالة تم توفير الحماية لها مع نهاية عام 2021.
وأكد تقرير حركة “سنوقف جرائم قتل النساء” التركية، أن 334 سيدة قتلت على يد رجل خلال عام 2022 بينما تم العثور على 245 سيدة متوفيات في ظروف مثيرة للشكوك.
وقالت الحركة الرائدة في مجال مكافحة العنف ضد النساء إن 46% من هؤلاء النساء لقين حتفهن على يد أزواجهن و10% منهن على يد شريك و8% على يد شريك سابق. كما يزعم التقرير تقاعس السلطات عن حماية 23 ضحية رغم حصولهن على تصاريح حماية وقائية، ويفيد أن 50% من ضحايا القتل في أثناء الطلاق كن يخضعن بالفعل للحماية الرسمية وقت وفاتهن.
جهود الدولة في مكافحة العنف
تحاول السلطات التركية وبرامج وزارة الأسرة والخدمات الاجتماعية تقديم العديد من أشكال المساعدة في جانب الاستشارات الأسرية وتأمين مكان آمن للنساء والمراهقين الذين يتعرضون بشكل مستمر لأي شكل من أشكال العنف، بالاستعانة بدور الرعاية والملاجئ، وتقدم محاضرات توعوية لكل المراحل الدراسية في المدارس والنوادي الرياضية الخاصة بالطلاب.
كما تساهم مديريات الأمن في تقديم أشكال أخرى من الحماية السريعة مثل مشروع تطبيق هاتفي مجاني KADES أطلقته المديرية العامة للأمن عام 2018، هدفه تمكين النساء من طلب النجدة السريعة عبر تحديد موقعهن وإرساله لأقرب دورية شرطة في المنطقة، أو إيصالهن بقسم الطوارئ مباشرة، عبر ضغطة زر واحدة. استفادت منه 31 إمرأة خلال أسبوع واحد من تاريخ الانطلاقة التجريبية، فيما كان متوسط وقت استجابة أفراد الشرطة للنداء 5 دقائق فقط.
مع ذلك، لا يزال يقع على السلطات التركية مسؤولية كبيرة في مواجهة جرائم العنف تجاه النساء والأطفال بكل أشكالها داخل المنزل وخارجه، وهو ما يمكن تحقيقه بالاستعانة بمواد اتفاقيات حقوق الإنسان التي هي جزء منها. وتمكين مؤسسات العمل التوعوي ومنظمات حقوق الإنسان كجزء فاعل في صنع التغيير.