كشف وزير الإسكان المصري، شريف الشربيني، السبت 14 سبتمبر/ أيلول 2024، عن البدء في تجهيز مخطط استراتيجي لطرح شبه جزيرة “رأس بناس” الواقعة على البحر الأحمر جنوب شرق مصر، على مستثمرين أجانب ومحليين، ضمن استراتيجية بيع (استثمار) أراضي وأصول الدولة المصرية لتوفير العملة الصعبة وسداد الالتزامات الخارجية، بعدما وصل الدين الخارجي إلى 153.8 مليار دولار في يوليو/ تموز الماضي (كان قد بلغ 168 مليار دولار بنهاية عام 2023).
واستفاض الوزير المصري -من باب التسويق وإغراء المستثمرين- في الكشف عن مميزات تلك المنطقة التي تمتلك أحد أجمل الشواطئ المصرية، وتعدّ من أكبر تجمعات الشعاب المرجانية البكر في العالم، وتقع على مساحة تصل إلى نحو 50 كيلومترًا داخل البحر الأحمر (تعادل مساحة منطقة رأس الحكمة التي حصلت الإمارات عليها).
يأتي هذا الطرح المثير للجدل بعد 7 أشهر فقط من طرح الحكومة المصرية لمنطقة “رأس الحكمة” بالساحل الشمالي (شمال غرب)، والتي حصلت عليها الإمارات مقابل 35 مليار دولار، والتي من المفترض أن تتسلمها مطلع أكتوبر/ تشرين الأول المقبل بحسب وزير الإسكان المصري، رغم الاعتراضات والانتقادات التي تعرضت لها الدولة بسبب هذا المشروع الذي تفقد به مصر إحدى أهم المناطق الاستراتيجية المطلّة على البحر الأبيض المتوسط.
وتتصاعد المخاوف من تكرار السيناريو ذاته، وأن تفقد مصر موقعًا استراتيجيًا آخر، إذ تتمتع شبه جزيرة “رأس بناس” بمكانة فريدة عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، فهي تعدّ ميناءً بحريًا مهمًا يطل على ممرات التجارة العالمية الاستراتيجية (قناة السويس شمالًا، مضيق باب المندب على البحر الأحمر جنوبًا، ومضيق هرمز بالخليج العربي شرقًا)، خاصة مع احتمالية احتدام التنافس بين السعودية والإمارات، وربما الكويت، للفوز بهذا المشروع اللوجستي بالنسبة إلى البلدان الثلاثة.
ومنذ عام 2019 وتتبنّى الدولة المصرية سياسة “بيع الأصول” تحت مسمّى “الاستثمار” في محاولة للخروج من الأزمة الاقتصادية، التي غرقت فيها البلاد بسبب سوء الإدارة والإصرار على السياسات المالية والنقدية الخاطئة، رغم التحذيرات المتكررة، حتى لو انطوى ذلك على المساس بالأمن القومي لمصر من خلال التنازل عن البقاع السحرية ذات الأهمية الاستراتيجية أمنيًا وعسكريًا، والتخلي عن أهم المناطق الاقتصادية مقابل حفنة من مليارات الدولارات التي لا تتناسب مطلقًا مع أهمية وقيمة تلك المناطق.
رأس بناس.. منطقة استثمارية فريدة
تتمتع شبه جزيرة “رأس بناس” بإمكانيات استثمارية هائلة، فهي إحدى المناطق السحرية على الشواطئ المصرية، وتعدّ واحدة من أهم البقاع المطلة على البحر الأحمر وقلعة متكاملة من الشعاب المرجانية الفريدة، وتتمتع بواجهة بحرية مميزة، إذ تحيطها المياه من الشمال والجنوب والشرق، وهو ما يؤهّلها لأن تكون المقصد السياحي الأكبر في مصر.
كما تتميز بقربها من المدن الحيوية، فهي تبعد عن مدينة الأقصر 356 كيلومترًا، وتتلاصق مع الأماكن الأشهر سياحيًا في البحر الأحمر، مثل محمية وادى الجمال وخليج القلعان وشاطئ حنكوراب وجزر حماطة ووادي الجمال وسيال والزبرجد، علاوة على احتوائها على عدة أماكن للغوص والأنشطة السياحية العالمية، مثل منطقة شعاب سطايح ومنطقة شعاب مالك وكذلك منطقة بيت الدلافين.
أما مناخيًا فتمتاز بطقس معتدل معظم فترات العام، مائل إلى الحرارة نسبيًا أوقات النهار مع برودة خفيفة في الليل، وفي الوقت ذاته تعدّ شبه الجزيرة ملتقى رئيسيًا للتيارات الهوائية التي تتشابه مع تلك المتواجدة في مدينة الزعفرانة الشهيرة (تقع بمدينة رأس غارب بالبحر الأحمر وتعدّ إحدى أشهر المناطق السياحية في مصر).
كل تلك الامتيازات والإمكانيات الجغرافية والسياحية والبيئية الخاصة بالجزيرة، ورغم أنها وحدها كافية بأن تُسيل لُعاب المستثمرين من مختلف دول العالم، إلا أنها لم تكن المحرك الأهم والوحيد بالنسبة إلى المتنافسين عليها، فهناك مميزات أخرى ربما تغيب عن أعين ووعي المواطن المصري، لكنها حتمًا لن تغيب عن عقل من يدفعون عشرات المليارات من أجل الفوز بمثل تلك الصفقات التي قلّما تتكرر في التاريخ.
تاريخ عسكري وأهمية لوجستية
أثار الموقع الجغرافي لـ”رأس بناس” اهتمام القوى العالمية الكبرى، فقربها من الممرات المائية الدولية كمضيق هرمز وقناة السويس وباب المندب، بما يؤهّلها لأن تكون نقطة انطلاق قريبة جدًّا لكل من الخليج العربي والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، جعلها ساحة تنافس كبيرة لكل من السوفيت والأمريكيين في إطار صراع النفوذ بين القوتين لتعزيز حضورهما الإقليمي والدولي.
– أنشأ الاتحاد السوفيتي في عام 1970 قاعدة عسكرية له في “رأس بناس”، وذلك أعقاب اتفاقية الصيد السوفيتية المصرية 1964، لتكون أول قاعدة له في مصر، وظلت تلك القاعدة سرّية عن الشارع المصري حتى تم الكشف عنها بعد عامين كاملين من تدشينها.
– عام 1979 وفي إطار مساعي الرئيس المصري الراحل أنور السادات لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة، شجّع وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، هارولد براون، لاستخدام “رأس بناس” كمرفق بحري وجوي أمريكي، ورغم عدم تحمّس الأمريكيين بداية الأمر لهذا الطرح، لكن سرعان ما تشجّعوا له بعد توقيع السادات لرسالة تسمح للولايات المتحدة باستخدام شبه الجزيرة كموقع محتمل لانطلاق العمليات إلى الخليج العربي، وللعمليات الطارئة الأخرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وذلك أثناء زيارته لواشنطن عام 1981.
– وضعت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” خطة لجعل “رأس بناس” مرفقًا أساسيًا لقوات القيادة الوسطى الأمريكية في الشرق الأوسط، ومنصة لإطلاق قاذفات بي-52 وطائرة النقل سي-5، غير أن الخطة لم تنفذ عمليًا بسبب مخاوف مصر من أن تصبح المنطقة هدفًا لاعتداءات القوميين العرب المناوئين للأمريكيين والإسرائيليين، وعليه تم إجراء تعديل في الخطة بحيث تكون المنطقة نقطة ارتكاز لوجستية للقيادة الأمريكية، فكان المقترح بإنشاء محطة تحلية مياه مزودة بشبكة توزيع مياه، وإنشاء مستودعات، كذلك خزانات وقود، وثكنات قادرة على استيعاب 25 ألف فرد من القوات الأمريكية.
– بعد تعرُّض السادات للاغتيال عام 1981، شنّت الصحف المصرية حملة إعلامية طالبت فيها بإنهاء التواجد الأمريكي في “رأس بناس”، كون أن هذا التواجد يمثّل تهديدًا لاستقلال الدولة المصرية وتهديدًا لسيادتها، لكن فوجئ الجميع في ذلك الوقت بتقديم وزير الخارجية المصرية لمقترح مشروع أمريكي جديد يتناول استئجار شبه الجزيرة المصرية للنشاط العسكري الأمريكي، تبع ذلك لقاء مع مجموعة من العسكريين الأمريكيين لبحث الموضوع في وزارة الخارجية، ورغم انتهاء تلك اللقاءات دون حسم الموضوع اكتشف البعض استخدام الطائرات الأمريكية بالفعل لميناء “رأس بناس” دون علم وزارة الخارجية، وذلك بالتنسيق المباشر بين وزارة الدفاع ومؤسسة الرئاسة.
– في أعقاب تولي الرئيس الراحل حسني مبارك الحكم، رفض بشكل واضح إنشاء قاعدة جوية أمريكية دائمة في تلك المنطقة، وإن لم يمانع من استخدام قوات الانتشار السريع الأمريكية للمنشآت العسكرية على “رأس بناس” في حالات الطوارئ.
– في أعقاب رفض مصر إنشاء أمريكا لقاعدة عسكرية دائمة لها في “رأس بناس”، حاول المصريون عام 1985 إنشاء قاعدة عسكرية خاصة بهم في المنطقة ذاتها، لكنها كانت تحتاج إلى تمويل كبير (أكثر من نصف مليار دولار على أقل تقدير)، إلا أن أوروبا لم تمول المشروع لتبقى المنطقة على حالتها تلك حتى اليوم، وإن استخدمتها الولايات المتحدة أكثر من مرة بين الحين والآخر، أبرزها خلال حرب الخليج.
– خلال العقد الأخير تباينت الآراء والتصريحات حول استخدام أمريكا لشبه جزيرة “رأس بناس” عسكريًا، ففريق يرى أن تلك المنطقة هي قاعدة عسكرية أمريكية بالفعل، وإن كان ذلك بشكل غير رسمي، كما جاء على لسان الباحث المقرب من واشنطن، سعد الدين إبراهيم، خلال لقاء تلفزيوني له عام 2013، فيما ينفي آخرون تلك المزاعم، لتظل هذه البقعة ساحة نزاع كبيرة بين القوى الدولية لما تتمتع به من موقع جيوسياسي هامّ جدًّا.
تنافس خليجي.. من يفوز بالصفقة؟
لا تتوفر المعلومات الكافية حتى الساعة حول المتنافسين على هذا الطرح، لكن صفقة بهذا الحجم المقارب لصفقة “رأس الحكمة”، والتي تحتاج إلى عشرات المليارات من الدولارات، لا يقدر عليها بطبيعة الحال مستثمر مصري، ليظل المستثمر الخليجي هو الأقرب كالعادة في مثل تلك الصفقات، خاصة مع الأهمية اللوجستية لـ”رأس بناس” بجانب إمكانياتها السياحية الاستثمارية سالفة الذكر.
وتشير معظم التكهنات إلى تنافس سعودي إماراتي محتمل للظفر بهذا المشروع، في ظل السباق الواضح بين البلدين على النفوذ في البحر الأحمر، والهرولة نحو الاستحواذ على الأصول المصرية الاستراتيجية استغلالًا للوضعية الاقتصادية الصعبة للدولة المصرية، والتي دفعتها للتنازل عن أهم أصولها ومواردها وثرواتها الطبيعية.
على الجانب السعودي، تقع شبه جزيرة “رأس بناس” قبالة ميناء ينبع السعودي مباشرة، وهو الأمر الذي يجعل من الصعب تركها للإماراتيين في ظل صراع النفوذ والتوتر بينهما خلال الآونة الأخيرة، وفي المقابل تبذل الإمارات جهودًا مضنية للاستحواذ على أهم البقاع الاستراتيجية المطلة على البحر الأحمر، سواء في مصر أو اليمن أو إثيوبيا والقرن الأفريقي، لخدمة أجنداتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
وفي أغسطس/ آب الماضي أبرمت الحكومة المصرية عقدًا مع “مجموعة الغانم” الكويتية بشأن تطوير ميناء برنيس البحري قرب “رأس بناس”، وتحويله إلى قاعدة اقتصادية ومنطقة لوجستية متكاملة، ما دفع البعض للحديث عن احتمالية أن تدخل الكويت كمنافس محتمل على تلك الصفقة، وإن كان ذلك مستبعدًا إلى حدّ ما في ظل تراجع نفوذها الاقتصادي والسياسي مقارنة بجارَيها السعودي والإماراتي.
مخاوف على الأمن القومي
نظرًا إلى هذا الموقع اللوجستي الخطير لـ”رأس بناس”، وقربها كذلك من قاعدة برنيس العسكرية التي جرى افتتاحها في 15 يناير/ كانون الثاني 2020، والمنوط بها حماية حدود مصر الجنوبية، فضلًا عن قربها من مطار برنيس الدولي الذي يمتلك ممرات جوية بطول 3000 متر تقريبًا، ورصيف حربي بطول 1000 متر يسمح بتلبية احتياجات القوات البحرية التي تحتاج إلى غاطس كبير لحاملات الطائرات والغواصات والفرقاطات، كل هذا يجعل من التفريط في تلك المنطقة مغامرة محفوفة بالمخاطر وتهديدًا مباشرًا لأمن مصر القومي.
وتنطلق تلك المخاوف من أن منح هذه المنطقة اللوجستية المحورية لدولة أجنبية، أيًا كانت هويتها، خطوة تحمل الكثير من التهديدات، لا سيما إذا ما تعارضت المصالح مستقبلًا مع الدولة المستحوذة على تلك الصفقة، وهو الأمر الذي قد يُدخل البلاد في أتون من التوترات التي لا تنتهي.
وتتصاعد تلك المخاوف تزامنًا مع الحديث عن صفقة أخرى تنوي الحكومة المصرية طرحها على البحر الأحمر، في منطقة “رأس جميلة” بمدينة شرم الشيخ، والبالغ مساحتها 860 ألف فدان، والواقعة قبالة مضيق تيران مباشرة، وتطل على جزيرتي تيران وصنافير اللتين تنازلت عنهما القاهرة للرياض، إثر إبرام اتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين عام 2016.
وعليهـ وبعد استحواذ الإمارات على “رأس الحكمة” الواقعة بالقرب من قاعدة محمد نجيب وميناء جرجوب العسكريَّين، ثم ما يثار حول حصول السعودية على “رأس جميلة” حيث جزيرتي تيران وصنافير ومضيق تيران، وصولًا إلى شبه جزيرة “رأس بناس” والاقتراب من مضيق هرمز والخليج العربي وقاعدة برنيس العسكرية، فإن الأمن القومي المصري بات في مرمى الاستهداف بشكل يهدد السيادة المصرية ويقوض استقلاليتها.
يتعاظم الأمر قلقًا وتخوفًا مع الدور المشبوه الذي تقوم به الإمارات (كأحد الدول المستحوذة على تلك الصفقات) في المنطقة، والذي يسير عكس عقارب الأمن القومي المصري، سواء في السودان أو إثيوبيا أو اليمن، أو حتى مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يجعل سيطرتها على أي من تلك البقاع الاستراتيجية مخاطرة كبيرة.
وهكذا تواصل الدولة المصرية، بفضل الإدارة والسياسات الخاطئة التي تتبعها على مدار أكثر من 10 سنوات، نزيف ثرواتها وتفريغها من مواردها وتعريض أمنها القومي للخطر، عبر التفريط في بقاعها اللوجستية ورؤوسها البحرية الهامة، التي ينطوي التنازل عنها على مخاطر محدقة تضع المستقبل المصري بأكمله في غياهب أزمة ضبابية.