لطالما كانت التصريحات والتحذيرات الروسية عنوانًا لأحداث تأتي بعدها، فلم تكد تمر ذكرى مجزرة الغوطة الشرقية التي ارتكبها نظام الأسد عام 2013، حتى خرجت وزارة الدفاع الروسية لتتحدث عن “مسرحية” هجوم كيماوي يتم تحضيره في محافظة إدلب، متهمة هيئة تحرير الشام بالاستهداف لإيجاد مسوغ تستطيع من خلاله واشنطن وباريس ولندن توجيه ضربه عسكرية لنظام الأسد.
وبينما تصرح روسيا بأنها تسعى مع تركيا والولايات المتحدة لتجنيب إدلب السيناريو العسكري، راحت تروج لسيناريو وقوع هجوم كيماوي مرتقب على إدلب تنفذه هيئة تحرير الشام بإشراف المخابرات البريطانية، وتتهم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا النظام السوري بالوقوف خلفه لتبرير توجيه ضربات عسكرية غربية على أهداف تابعة للنظام السوري.
“مسرحية” هجوم كيميائي في إدلب
في 25 من أغسطس/آب، ادَّعي المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية الجنرال إيغور كوناشينكوف أن عناصر من “هيئة تحرير الشام” يستعدون لتنفيذ هجوم استفزازي من أجل اتهام قوات النظام باستخدام السلاح الكيميائي ضد المدنيين في إدلب.
وبحسب رواية كوناشينكوف، فإن العناصر نقلوا 8 أحواض تحوي غاز الكلور إلى قرية تبعد بضعة كيلومترات عن مدينة جسر الشغور بريف إدلب، مدعيًا أن العبوات سُلمت إلى “حزب التركستان الإسلامي” لتنفيذ هجوم كيماوي.
تتخوف روسيا من هجوم بالأسلحة الكيماوية على إدلب
وبحسب الخبير العسكري الروسي، فإن تنفيذ ما وُصف بـ”مسرحية الهجوم الكيماوي المزعوم” يجري بمشاركة المخابرات البريطانية لتكون حجة جديدة لقيام الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بضربة صاروخية ضد نظام الأسد، تستهدف دوائر الدولة والمنشآت الاقتصادية السورية، بحسب تعبير المسؤولين الروس.
الرواية “الهوليودية” الروسية تنبأت أيضًا بأن مجموعة خاصة من المسلحين المدرّبين على استخدام المواد السامة، تحت إشراف خبراء من شركة “أوليفا” العسكرية البريطانية الخاصة، وصلت إلى منطقة جسر الشغور، متوقعة أن يكون منفذو الهجوم الكيماوي مرتدين لباس “الخوذ البيضاء” لتنفيذ عمليات إنقاذ المصابين في الهجوم.
تخوف الدفاع الروسي من هجوم بالأسلحة الكيماوية على إدلب، دفع أيضًا، نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف إلى تحذير واشنطن وحلفائها من اتخاذ أي “خطوات متهورة جديدة” في سوريا
موسكو ألحقت هذه الرواية بخطوات عسكرية، ذكر منها الخبير العسكري الروسي ورئيس تحرير مجلة الدفاع الوطني الروسية إيغور كوروتشينكو، أن المدمرة الأمريكية “يو إس إس سوليفان” وصلت إلى الخليج قبل أيام محملة بـ56 صاروخًا مجنحًا من طراز “كروز”، بهدف تنفيذ واشنطن وحلفائها ضربات ضد نظام الأسد بذريعة استخدام الأسلحة الكيماوية.
فيما تستعد للتحرك من القاعدة الأمريكية في قطر قاذفات القنابل “بي1- بي”، لضرب أهداف في سوريا، وفقًا لما نقلت وكالة “سبوتنيك” الروسية عن كوروتشينكو الذي لم يستبعد أن تستخدم واشنطن في هجومها الجديد على سوريا، غواصات نووية متعددة الأغراض مزودة بصواريخ توماهوك كروز، موجودة في البحر الأبيض المتوسط أو المياه الدولية المجاورة.
تخوف الدفاع الروسي من هجوم بالأسلحة الكيماوية على إدلب، دفع أيضًا، نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف إلى تحذير واشنطن وحلفائها من اتخاذ أي “خطوات متهورة جديدة” في سوريا، متحدثًا عن احتمال تكرار سيناريو تنظيم استفزاز جديد في سوريا تليه ضربات تنفّذها دول أجنبية.
بدورها، تحدثت وزارة الخارجية الروسية في بيان أصدرته في 24 من أغسطس عن أن دولاً غربية وشرق أوسطية لجأت في مراحل سابقة إلى استفزازات شنيعة في سوريا نفّذها إرهابيون باستخدام السلاح الكيميائي لتحقيق مصالحها هناك.
هدد بولتون بتوجيه ضربات عسكرية جديدة للنظام السوري
التحذيرات الغربية مقابل الحملة الروسية الوقائية
يأتي السيناريو الذي رواه الروس في أعقاب ما نشرته وكالة بلومبيرغ الأمريكية، بالأمس، نقلاً عن 4 مصادر مطلعة على ما جرى خلال اجتماع مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي جون بولتون بنظيره الروسي نيكولاي باتروشيف في جنيف قبل أيام، في 23 من أغسطس/آب.
وذكرت الوكالة أن بولتون هدد خلال الاجتماع بتوجيه ضربات عسكرية جديدة وأكثر قوة من قبل ضد نظام الأسد في حال استخدام الأسلحة الكيميائية أو البيولوجية في العلملية العسكرية التي يروج لها النظام للسيطرة على محافظة إدلب، ونفى وجود مفاوضات مع موسكو بشأن آخر معاقل المعارضة في سوريا.
وبحسب المصادر، فإن الولايات المتحدة لديها معلومات عن احتمال استخدام نظام الأسد للسلاح الكيماوي في إدلب، وهو ما أشار إليه بولتون في مؤتمر صحفي، ذاكرًا أن بلاده تراقب خطط نظام الأسد لاستئناف عملياته العسكرية الهجومية على إدلب.
التحذير الثلاثي المباشر لبشار الأسد لم يشمل عدم بدء المعركة أو وقف التحركات العسكرية
وفي خضم الاستعدادات بشأن حسم ملف إدلب في سوريا، والحديث عن تحركات لقوات النظام السوري للتقدم ميدانيًا، أتى تهديد غربي آخر من مغبة وخطورة استخدام النظام السلاح الكيماوي في الشمال السوري؛ لتتناغم تصريحات بولتون مع بيان أمريكي فرنسي بريطاني صدر في 21 من أغسطس/آب الحاليّ، في الذكرى الخامسة للهجوم الكيميائي الذي استهدف الغوطة الشرقية وأودى بحياة المئات.
البيان الثلاثي حذر أيضًا من استخدام السلاح الكيماوي في إدلب، مؤكدًا تصميم الدول الثلاثة على التحرك في حال استخدم نظام الأسد الأسلحة الكيمائية مرة أخرى، لكن التحذير الثلاثي المباشر لبشار الأسد لم يشمل عدم بدء المعركة أو وقف التحركات العسكرية.
وفي المجمل، تأتي التحذيرات الغربية في ظل استعداد النظام وحلفائه لبدء حملة عسكرية على إدلب التي تعاني منذ أسابيع من سلسلة تفجيرات واغتيالات مجهولة أدت إلى مقتل المئات من المدنيين ومقاتلي المعارضة، وحذر زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني فصائل المعارضة العاملة في إدلب من التفاوض مع النظام السوري أو الدخول في تسويات، ووصف تفكير البعض بتسليم السلاح بـ”الخيانة”.
لا تختلف الأوضاع على الأرض عما هي عليه في أروقة السياسة
كيماوي سوريا في ميزان الدول الكبرى
قبل هذه التحذيرات التي أطلقت مؤخرًا، لم تكن أمريكا خارج نطاق بحث مصير إدلب، فوزير خارجيتها مايك بومبيو أعرب عن قلقه من عمل عسكري على إدلب، وجاء ذلك خلال مكالمة هاتفية مع نظيره الروسي، طالبه خلالها بأخذ الاعتبارات الإنسانية بعين الاهتمام فيما يخص إدلب.
بينما تصرح روسيا بأنها تسعى مع تركيا والولايات المتحدة لتجنيب إدلب السيناريو العسكري، يواصل دبلوماسيوها اتباع سياسة “ذر الرماد في العيون”، فها هو مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة يلمِّح مجددًا لما أسماه “وجود إرهابيين في إدلب”؛ ليترك بذلك الباب مشرَّعًا أما كل الاحتمالات في المنطقة.
على ذات الوتر أيضًا عزفت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروف التي ادعت قيام فصائل إدلب بعمليات استفزازية ضد قوات نظام الأسد والقوات الروسية عبر ما أسمته “الطائرات المسيرة عن بعد” التي تستهدف حميميم، وهي رواية يكذبها ناشطون ميدانيون، ويؤكدون أنها ذريعة لدق طبول الحرب في المنطقة.
وتعكس الحملة الروسية “الوقائية” تخوف موسكو من رد الفعل الغربي بشن هجوم بالأسلحة الكيماوية على إدلب، كما سبق أن حدث أكثر من مرة على أهداف تابعة لنظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين، ردًا على استخدام النظام أسلحة كيماوية، الأمر الذي يشير إلى هوة شاسعة ما زالت تفصل بين مواقف روسيا وأمريكا من أبرز القضايا المتعلقة بسوريا.
وفي ظل عدم توصل موسكو مع واشنطن إلى تفاهمات بشأن مستقبل سوريا، يبقى الملف السوري أحد نقاط الاختلاف بين الدولتين، فضلاً عن رغبة واشنطن في الحد من النفوذ الإيراني في سوريا، وهو ما تعتبره روسيا مطلبًا منفصمًا عن الواقع.
ثمة من يرى في التحذيرات الغربية والاتهامات الروسية مؤشرًا ربما على “مجزرة” كيماوية قادمة يحضر لها نظام الأسد
ومع التصاعد تبقى معركة إدلب لا مفر منها، فسد مباحثات “أستانة” قد لا يصمد أكثر وسط تجاذبات مهندسيه، فروسيا وتركيا تحولان تثبيت الهدنة قدر المستطاع، وإيران تريد فتح باب السد لتطمر مياه العمليات العسكرية محافظة إدلب فتطوى صفحتها.
لكن لا يبدو أن من على الأرض يستجيبون لمشيئة عرابيهم، فالنظام السوري مستنفر في المنطقة وبدأ يستقدم التعزيزات العسكرية إلى مطار حماة العسكري استعدادًا للمعركة، أما جبهة النصرة التي تسيطر على معظم إدلب فقد بدأت بتفقد الجبهات الأمامية، محذرة باقي الفصائل السورية من التفاوض مع النظام السوري، والدخول في اتفاقات تسوية كما حصل في مناطق أخرى.
وترى جبهة النصرة أن التوصل إلى اتفاقات تسوية تنص على دخول قوات النظام وتسليم الفصائل أسلحتها ما هو إلا سيناريو حدث في محافظات الجنوب فقط ولن يتكرر في الشمال، لكنها تشهد انشقاقًا بين صفوفها، بين مصرٍّ على المعركة وراغب في الانحناء للعاصفة؛ حتى يبقى للجبهة شرعية ودعم دولي مستقبلاً.
وعلى الأرض لا تختلف الأوضاع عما هي عليه في أروقة السياسة، فمزيد من التصعيد يقابله مزيد من القلق، وثمة من يرى في التحذيرات الغربية والاتهامات الروسية مؤشرًا ربما على “مجزرة” كيماوية قادمة يحضر لها نظام الأسد.