ترجمة وتحرير: نون بوست
أثار صعود تقنية الذكاء الاصطناعي والروبوتات العديد من المخاوف وساهم في تفشي الخرافات بين العامة، سواء حول احتمالية استيلاء الروبوتات على الوظائف أو استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي ضمن الطائرات العسكرية من دون طيار. ومثلما يمكن تسخير الذكاء الاصطناعي للخير، يمكن استغلالها كذلك في أفعال الشر. لذلك، يستلزم تطويع هذه التقنية وتسخيرها لخدمة الخير تعاونا دوليا، واتباع نهج جديد تماماً من أجل معالجة المعضلات الأخلاقية، وذلك حسب ما ورد في مقال افتتاحي نشر في مجلة “ساينس”.
حيال هذا الشأن، أشارت نائبة مدير قسم الأخلاقيات الرقمية بجامعة أكسفورد وأحد مؤلفي المقال، ماريا روساريا تاديو، إلى أن “تقنية الذكاء الاصطناعي أثبت قدرتها على خدمة الخير من خلال تشخيص السرطان وفهم التغيرات المناخية، فضلا عن اعتمادها لتأدية الوظائف الشاقة والمحفوفة بالمخاطر. ويبقي السؤال المطروح: كيف يمكن الاستفادة من هذه الميزات؟”.
إن شركة “ديب مايند” التابعة لشركة غوغل، من بين أحد الأمثلة الحية على الاستغلال الجيد لخاصيات الذكاء الاصطناعي. فقد تمكنت هذه الشركة من تصميم أنظمة قادرة على تشخيص 94.5 بالمائة من الحالات المرضية، التي شملت خمسين مشكلة شائعة تصيب العين، بشكل صحيح على امتداد فترة التجربة التي أجريت بالتعاون مع مستشفى مورفيلدز للعيون. ومن بين الإيجابيات الأخرى مساعدتها للعلماء على فهم كيفية عمل الدماغ.
ساعدت تقنية الذكاء الاصطناعي الباحثين على اكتشاف نوع جديد من الشعاب المرجانية هذه السنة، بعد أن تم برمجتها من خلال تحميل المئات من صور الشعاب المرجانية عليها.
في هذا الصدد، قالت تاديو إن الذكاء الاصطناعي يتمتع بقدرة هائلة على تقديم الفائدة للبشر، مشيرة إلى أن التكنولوجيات التي تعتمد هذه التقنية ستكون قادرة على معالجة جملة من القضايا على غرار “الكوارث البيئية، والأزمات المالية، بالإضافة إلى الجرائم والحروب والإرهاب، فضلا عن المجاعة والفقر والجهل وعدم المساواة ومستويات المعيشة المتدنية بشكل مروع”.
فعلى سبيل المثال، تم استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي سابقا في دراسة المئات من أصوات الطيور لتقدير فترة وصول إحدى فصائلها، التي تعرف بالطيور المغردة، إلى مناطق تكاثرها في القطب الشمالي. عموما، سيمكّن هذا النوع من البيانات الباحثين من فهم تأثير التغير المناخي على عادات الحيوانات المهاجرة.
إلى جانب ذلك، أتاحت صور الشعاب المرجانية فهما أوضح وأعمق للتغيرات المناخية الطارئة على كوكبنا، إذ ساعدت تقنية الذكاء الاصطناعي الباحثين على اكتشاف نوع جديد من الشعاب المرجانية هذه السنة، بعد أن تم برمجتها من خلال تحميل المئات من صور الشعاب المرجانية عليها. وسيقع استخدام هذه التقنية في دراسة مدى قدرة الشعاب المرجانية على مقاومة ارتفاع درجة حرارة المحيطات.
مع ذلك، لا زالت تقنية الذكاء الاصطناعي تشكو من بعض النقائص. ومن أجل ضمان تسخيرها في عمل الخير، يتعين علينا أولا فهم الاخطار التي قد تشكلها هذه التقنية. وتشمل هذه النقائص، افتقار هذه التقنية للشفافية فيما يخص الخوارزميات التي تدخل ضمن نطاق عملها. فقد عمل باحثون في شركة “إنفيديا” على تطوير سيارة ذاتية القيادة تم إطلاقها سنة 2016، دون الكشف عن البرمجيات التي تدخل ضمن عملية اتخاذها للقرارات المتعلقة بالقيادة.
فمن المسؤول الحقيقي في حال حدثت كارثة بسبب ارتكاب السيارة لخطأ ما؟ ففي حال كانت إحدى السيارات ذاتية القيادة على وشك الاصطدام بعربة أخرى، إن هذه السيارة قد تكون مبرمجة إما لحماية راكبيها أو راكبي السيارة الأخرى. من هو المسؤول الحقيقي عن مصير الأشخاص المتورطين في حادث السير، بغض النظر عما إذا اتخذ صانعها أو سائقها القرار الأخير؟
تكمن المشكلة الأخرى في إمكانية اتخاذ تقنية الذكاء الاصطناعي لقرارات على أساس التمييز غير العادل
في إطار الإجابة عن هذه التساؤلات، توصل فريق من العلماء إلى تقنية تخول لسائقي هذا النوع من السيارات اتخاذ القرار النهائي، التي تعرف باسم “المقبض الأخلاقي”. ويسمح “المقبض الأخلاقي” للسائق بالتحكم في إعدادات السيارة والاختيار ما بين خاصية “الإيثار الكامل” أو “الأنانية الكاملة”، مع إمكانية ضبط المقبض عند خاصية “الحياد”.
مع ذلك، تكمن المشكلة الأخرى في إمكانية اتخاذ تقنية الذكاء الاصطناعي لقرارات على أساس التمييز غير العادل. وبشأن هذه المسألة، استدلت تاديو بما حصل عند استخدام إصلاحية ويسكونسن لأداة تعرف باسم “كمبوس” التي طورتها شركة خاصة تعنى بتقييم المخاطر، وقد تم استخدام هذا النظام لتقدير استحقاقية المساجين بالتمتع بالإفراج المشروط. وكانت النتيجة تمييز النظام ضد الأمريكيين من أصول أفريقية أو لاتينية. وعند نظر فريق من الصحفيين في ملفات عشرة آلاف متهم من مقاطعة بروارد بولاية فلوريدا، اتضح أن النظام يتنبأ بأن فرص ارتكاب المتهمين السود للجرائم مجددا أعلى مما هي عليه في الواقع، والعكس بالنسبة للسجناء البيض.
في الوقت نفسه، تعد مسألة جمع البيانات بكميات هائلة مصدرا للمخاوف. ففي الحقيقة، يتم استغلال تقنية الذكاء الاصطناعي في تتبع سكان مدن بأكملها في الصين، وذلك عبر الاطلاع على البيانات التي تم تجميعها من مصادر مختلفة. ويستدعي تحسين أداء هذه التقنيات زيادة كم البيانات المستخلصة في المستقبل. وهذا يعني تزايد فرص جمع بيانات الأفراد وتخزينها والتلاعب بها دون موافقتهم، أو حتى علمهم.
من هذا المنطلق، شددت تاديو على أهمية وضع قوانين ولوائح وطنية ودولية على حد السواء، على غرار قانون النظام الأوروبي لحماية البيانات العامة، من أجل ضبط استعمالات هذه التقنية. لكن في نهاية المطاف، سوف يتم تعميم استخدام الذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء العالم، وربما حتى في الفضاء، لأجل البحث عن الكواكب خارج مجموعتنا الشمسية. لذلك، لا يمكن وضع لوائح تنظيمية تقيد استخدامها على سطح الأرض فحسب.
تم تكريس مجموعة قليلة من المبادرات للعمل على فهم تقنية الذكاء الاصطناعي وتأثيرها المتوقع.
بناء على هذه المعطيات، دعت تاديو إلى عدم منح السلطة المركزية المنظمة للذكاء الاصطناعي لهيئة واحدة. وأوضحت تاديو أنه “سيتم تسخير تقنية الذكاء الاصطناعي ضمن مجموعة واسعة من المجالات، بدءا بتطوير البنية التحتية والدفاع الوطني وصولا إلى التعليم والرياضة والترفيه”. ولن ينجح اتباع نهج “واحد يناسب الجميع” في هذه الحالة. كما أفادت تاديو بأنه “يجب الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الثقافية ومتطلبات كل مجال على حدة”. فعلى سبيل المثال، قد يُعتبر التقاط صورة لشخص ما أمرا مقبولا بالنسبة لإحدى الثقافات، لكن مستنكرا لدى ثقافات أخرى لأسباب دينية.
بالفعل، تم تكريس مجموعة قليلة من المبادرات للعمل على فهم تقنية الذكاء الاصطناعي وتأثيرها المتوقع. ومن بين هذه المبادرات “إي آي 4 بيبل”، وهو أول منتدى عالمي في أوروبا حول التأثير الاجتماعي لتقنية الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى الاستراتيجية التي اقترحها الاتحاد الأوروبي، وإعلان الاتحاد الأوروبي بشأن التعاون في مجال الذكاء الاصطناعي. وقد تم التوقيع على إعلان الاتحاد الأوروبي في وقت سابق من هذه السنة، وتعهد المشاركون بالعمل سويا على تحديد أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وتسخيرها لخدمة الخير، بما في ذلك تحديث أنظمة التعليم والتدريب في أوروبا.
أما المبادرات الأخرى فتشمل ائتلاف “الشراكة في الذكاء الاصطناعي لصالح الناس والمجتمع”، الذي انتسب إليه مؤلفو المقال الافتتاحي الذي نشرته مجلة “ساينس”. وقد صرح كل من إريك هورفيتز ومصطفى سليمان، المؤسسون المشاركون في هذا الائتلاف: “قمنا بتأسيس هذا الائتلاف، جزئياً، حتى نتمكن من جذب المزيد من الاهتمام وتكريس جهد أكبر في تسخير تقنية الذكاء الاصطناعي حتى تساعد في إيجاد حلول لبعض القضايا الإنسانية الشائكة، بما في ذلك تحقيق التقدم في مجال الصحة، والنقل، والتعليم، والعلوم”.
نحن لسنا سوى بشر لذلك يبقى خطر إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي قائما
من جهتها، قالت تاديو إن هذه المبادرات ليست إلا في طور البداية، ويتعين علينا تنفيذ المزيد مثلها حتى نتمكن من فتح باب النقاش ونشر الوعي حولها. كما أوضحت تاديو أن “الخوض في مسألة حوكمة الذكاء الاصطناعي يستدعي إشراك العلماء والأكاديميين، والمهندسين، والمحامين، والقانونيين، والسياسيين، والمجتمع المدني وممثلي التجارة. فنحن بحاجة إلى فهم طبيعة مجتمعات ما بعد الذكاء الاصطناعي والقيم التي ينبغي أن تدعم تصميم وتنظيم واستخدام الذكاء الاصطناعي”.
في نهاية الأمر، نحن لسنا سوى بشر لذلك يبقى خطر إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي قائما. واختتمت تاديو حديثها قائلة “في هذا الصدد، لا اختلاف بين تقنية الذكاء الاصطناعي والكهرباء أو المحركات البخارية، حيث تقع على عاتقنا مسؤولية توجيه استخدامها بطريقة تساعد على ازدهار البشرية والحد من المخاطر التي قد تنجر عنها”.
المصدر: وايرد