أمر الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ببناء البصرة، بعد أن أرسل القائد الإسلامي والصحابي عتبة بن غزوان إلى الأُبُلَّة ليفتحها ويُخرج الفرس منها، ففتحها الله على يديه، وطهرها من الفرس، واختطَّ مدينة البصرة، وبعد أن تولاها الصحابي أبو موسى الأشعري قام ببنائها من جديد من اللِبن بعد تعرضها لحريق بسبب أن بيوتها كانت من القصب، (رضوان الله عليهم جميعًا).
ومنذ ذلك الوقت والبصرة تتوسع عمرانيًا وسكانيًا حتى أصبحت ثالث مدينة بالعراق من حيث عدد السكان، تلك المدينة التي كانت أول حاضرة إسلامية بناها المسلمون خارج الجزيرة العربية، تحولت إلى مدينة تنطلق منها الفتوحات الإسلامية شرقًا، وشهدت انطلاقةً لحركةٍ علميةٍ وثقافيةٍ، ما زالت تفتخر بها هذه المدينة التي ينتسب إليها خيرة العلماء المسلمين، الأمر الذي جعلها قبلة لطلاب العلم الشرعي وعلم الطبيعيات على مدار تاريخها.
كانت البصرة من أشهر المدن لا سيما أيام العباسيين الذين زادوا في عمارتها وشيدوا فيها الأبنية الجميلة من صروح وقصور ومساجد، وكانت تأتي بعد بغداد في الأهمية والذكر، فخرج منها فطاحل علماء المسلمين وكبار الفقهاء، وظهرت فيها مدرسة شهيرة ذاع صيتها في الآفاق، عُرف أصحابها بإخوان الصفا.
وما زالت مدينة البصرة تحتضن قبور مشاهير الصحابة رضوان الله عليهم مثل طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وأنس بن مالك، والتابعين من أمثال الحسن البصري ومحمد بن سيرين ومالك بن دينار رحمهم الله.
هذه المدينة التي ارتبط تاريخها بالتحضر والرقي والقوة والمنعة كان لا بد لها أن تموت بيد من يعتقدون أن ملكهم وسلطانهم قد فنى بتأثير تلك المدينة والناس الذين بنوها
لم يدر بخلد أولئك الصحابة والتابعين، أن يومًا سيأتي على هذه المدينة تبدأ فيه بالاحتضار وهي تتعرض للموت البطيء على يد من يكنُّ لها الحقد ذي الجذور التاريخية، كيف لا وهي التي كانت نقطة انطلاق الجيوش الإسلامية لتحرير الشرق من رجس الشرك بالله وإسقاط أصنام حكامها إلى الأبد.
هذه المدينة التي ارتبط تاريخها بالتحضر والرقي والقوة والمنعة كان لا بد لها أن تموت بيد من يعتقدون أن ملكهم وسلطانهم فنى بتأثير تلك المدينة والناس الذين بنوها، فهي تحاول قتلها عمدًا كل ما سنحت لها الفرصة لذلك.
وجاء الاحتلال الأمريكي للعراق ليشكل الفرصة المثالية للنظام الإيراني للتنفيس عن أحقاده التاريخية، ويجعل هذه المدينة خاوية على عروشها، تموت بيده وبيد من سلطهم على رقاب أهل هذه المدينة وسائر العراق، من سياسيين لا يفهمون من السياسية سوى الولاء المطلق لولي نعمتهم النظام الإيراني.
النظام الإيراني وحكومة بغداد مسؤولان بشكل مباشر عما يحدث بالبصرة
لم يتوان النظام الإيراني عن قطع الروافد المائية التي تغذي أنهار العراق منذ 2003 وإلى الآن، فقد بلغت تلك الروافد ما يقارب الـ40 رافدًا، لتجعل نسبة المياه التي تصب في نهر دجلة تصل لنصف كميتها التي كانت سابقًا، لكن ما عمله هذا النظام لمدينة البصرة أنكى وأمر، فقد قطع ماء نهري الكارون والكرخة، لتنخفض نسبة المياه في شط العرب وتمتد المياه المالحة من الخليج العربي إلى داخله لمسافة 140 كيلومترًا؛ مما أثر وبشكل بالغ على نسبة الملوحة في نهر شط العرب.
لم تكتف إيران بذلك فقامت بتصريف نفاياتها الصناعية إلى شط العرب وتصريف مياه البزل المالحة إليه كذلك، مما جعل مياهه غير صالحة للاستخدام البشري، ووصلت نسبة التلوث البكتيري نسب عالية جدًا حينما وجهت إيران المياه الثقيلة إليه، فضلاً عن سوء إدارة ملف المياه من حكومات العراق ما بعد الاحتلال.
الحكومة العراقية متورطة بما يحدث للبصرة، فهي لم تدخر جهدًا للإمعان في قتل هذه المدينة وتهجير أهلها، ولم تقم بأي مشاريع لحل مشكلة المياه الصالحة للشرب أو السقي
شط العرب الذي تعتمد البصرة على مياهه لغرض الشرب والسقي، ارتفعت نسبة الأملاح الذائبة فيه إلى 7500 TDS، بحسب وزارة الموارد المائية، في حين أن منظمة الصحة العالمية، تقول إن النسبة المقبولة يجب أن لا تتجاوز 1200TDS (ومقياس TDS يعبر به عن كمية المواد العضوية واللاعضوية التي تحتويها السوائل، وغالبًا ما يستخدم هذا المصطلح عند التعامل مع المياه لوصف مدى صلاحيتها للشرب).
ومع هذا كله تحتج إيران على العراق وتعتبر نفسها الضحية رغم كل ما اقترفته بحق العراق، ويخرج علينا رئيسها حسن روحاني ليقول إن هناك “تعمد” باستمرار حرائق الأهوار داخل الأراضي العراقية، داعيًا خارجيته لتوجيه رسالة احتجاج للحكومة العراقية، والحكومة العراقية التي انتقدت في وقت سابق تحويل مسارات الروافد الداخلة للعراق، لم تلق استجابة إيرانية ولم تقم الحكومة العراقية بمتابعة الموضوع.
إن الحكومة العراقية متورطة بما يحدث للبصرة، فهي لم تدخر جهدًا للإمعان في قتل هذه المدينة وتهجير أهلها، ولم تقم بأي مشاريع لحل مشكلة المياه الصالحة للشرب أو السقي، مما سبب موت المزارع والبساتين والثروة الحيوانية في هذه المدينة، لتتحول البصرة التي كانت في يوم ما محط أنظار دول الخليج لاستيراد الماء الصالح للشرب منها، إلى مدينة تستورد مياه الشرب وغيرها من الأمور من الدول الصحراوية.
أزمة جديدة تتمثل بتسمم المواطنين
آخر ما قامت به حكومة بغداد الرشيدة هو الإهمال والتغافل عن عملية إغراق مدينة البصرة بمياه ملوثة كيميائيًا وتحتوي على ملوثات جرثومية، ناهيك عن نسبة الملح العالية فيها والتلوث الإشعاعي، وفي ذلك تقول شعبة الرقابة الصحية في دائرة صحة البصرة: “مياه البصرة سجلت تلوثًا كيميائيًا بنسبة 100% وجرثوميًا بنسبة 50% مقابل استخدام 0% من مادة الكلور في محطات مياه الشرب”.
تحوي البصرة ثروات نفطية هائلة، إذ تشير الإحصاءات إلى أنها تملك 15 حقلًا، منها 10 منتجة، ولديها احتياطي نفطي يزيد على 65 مليار برميل
تسبب هذا الأمر بحالات تسمم طالت أكثر من 6 آلاف شخص حتى الآن، ومع أن أحد الدوافع الرئيسية لخروج مواطني البصرة بتظاهرات مستمرة لحد الآن، توفير المياه الصالحة للشرب، جاءت استجابة الحكومة عكس ما يطالب به الناس، وكأنها بذلك تقول لهم، ويل لكل من يخرج للشارع متظاهرًا اعتراضًا على سوء الخدمات التي نقدمها، ووزيرة الصحة العراقية عديلة حمود تخفف ما يحدث في البصرة، وتقول إن الحالات التي حصلت فيها بسيطة ومتوسطة ولا تدعو للقلق.
أهكذا يُرد الفضل لأهل الفضل؟
تحوي البصرة ثروات نفطية هائلة، إذ تشير الإحصاءات إلى أنها تملك 15 حقلًا، منها 10 منتجة، ولديها احتياطي نفطي يزيد على 65 مليار برميل، مشكلًا نسبة 80% من إجمالي الاحتياطي النفطي العراقي المثبت، وبلغ الإنتاج الشهري لحقول البصرة النفطية للشهر الماضي فقط، ما يقارب 3.5 مليون برميل، لكن مليارات الدولارات التي تنتجها البصرة يكون مصيرها جيوب الفاسدين في بغداد، بالمقابل ماذا استفادت مدينة البصرة من كل الثروات التي تحتويها أرضهم؟
لقد جمدت الحكومة قانون البترودولار التي كانت أمواله ستُنفق على المشاريع الخدمية، وتم تولية السراق على مقادير هذه المحافظة، مثل ماجد النصراوي محافظ البصرة السابق الذي هرب مع ابنه شريكه بالسرقات، مع ذلك لوحظ هذا السارق في الفترة الأخيرة بالعراق دون أدنى خشية من محاسبة على ما اقترفه بحق هذه المحافظة المنكوبة.
حينما خرج المواطنون هناك ليتظاهروا سلميًا بسبب عدم توفر المياه الصالحة للشرب، أوعزت الحكومة لتوفير ناقلات حوضية لنقل مياه الشرب، وتبين لاحقًا أنها مياه ملوثة وتسببت في حالات تسمم عديدة لمواطني البصرة حسب ما أعلنت دائرة صحة محافظة البصرة.
تأتي مشكلة قِدم شبكة توزيع المياه الصالحة لتضيف مشكلة أخرى لتلويث المياه، لأنها غالبًا ما تتعرض للكسر بسبب تأكلها لتختلط مع مياه الصرف الصحي وتلوثها
لم تخصص الحكومة للبصرة أي مبالغ لإنشاء محطات تصفية مياه، رغم قلة تكاليف إنشائها، والموجودة منها لا يمكنها تلبية احتياجات المحافظة من مياه الشرب، وحسب جهات رقابية صحية، فإن 100 محطة تصفية مياه تعمل في المحافظة، تنطبق الشروط الصحية على 27 محطة فقط، تتراوح أعمار إنشاء هذه المحطات بين 40 إلى 80 سنة، وأُنشئت كلها على شط العرب بسبب عذوبة مياهه سابقًا.
وتأتي مشكلة قِدم شبكة توزيع المياه الصالحة لتضيف مشكلة أخرى لتلويث المياه، لأنها غالبًا ما تتعرض للكسر بسبب تأكلها، لتختلط مع مياه الصرف الصحي وتلوثها.
ستبقى مدينة البصرة تئنُّ من الظلم المسلط عليها، وتنتظر غدًا جديدًا لا يكون فيه هؤلاء المفسدين حكامها، لكن هذا الغد الجديد لن يأتي إلا إذا قرَّر أبناؤها وأبناء العراق كله، بأن الطغيان القادم من وراء الحدود ومن حكومات الاحتلال، يجب أن يتوقف، ويجب أن يحكم شرفاء هذا البلد أنفسهم بعيدًا عن كل خائنٍ عميل.