لا يخلو التقويم السنوي التركي من المناسبات التاريخية والأعياد الوطنية، مرورًا من قيام دولة السلاجقة ووصولًا إلى تأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك الذي بطريقة ما حاول فصل الأتراك عن هويتهم الوطنية والدينية، فأنساهم جذورهم وأجدادهم ظنًا منه أن هذا الطريق الأسرع للتقرب من أوروبا وإيمانًا بالتفوق الغربي، لكن مع تولي حكومة حزب العدالة والتنمية الحكم في البلاد التأم هذا الشرخ حين اجتهدت السلطات الحاليّة في إحياء هذه الوقائع كل عام.
تركيا تستحضر تاريخها بقوة في الميادين الشعبية والخطابات السياسية
أردوغان ومجموعة من المسؤولين يزورون أكبر مقبرة إسلامية في تركيا
يوم أمس احتفلت تركيا شعبًا وحكومةً بذكرى معركة ملاذكرد التي فتحت بلاد الأناضول أمام الأتراك والإسلام، بعد أن واجه فيها ألب أرسلان السلطان الثاني لدولة السلاجقة الإمبراطورية البيزنطية وهزمها على الرغم من كل التوقعات التي رجحت نصر الروم عليه، لذلك تشكل هذه المناسبة مرجعًا مهمًا في التاريخ التركي والإسلامي بشكل عام.
أكد أهمية هذه الحادثة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي زار مقبرة السلاجقة بولاية بتليس في شرقي تركيا ضمن الاحتفالات السنوية بالذكرى الـ947 للمعركة، قائلًا: “معركة ملاذكرد أظهرت للعالم أجمع من أي نوع من الشعوب ينحدر الشعب التركي”، داعيًا للسلطان ألب أرسلان بالرحمة، ومتأملًا إنجاز الأهداف المنشودة في 2023 و2053 و2071.
جدير بالإشارة إلى أن حتى الرؤية المستقبلية للحكومة التركية مرتبطة بتواريخ ذات دلالات تاريخية فاصلة وحاسمة، إذ يشير التاريخ الأول إلى مرور 100 عام على تأسيس الجمهورية التركية وانتهاء معاهدة لوزان، والثاني يمثل مرور 600 عام على فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح، أما الثالث فيرمز إلى مرور ألف عام على دخول الأتراك إلى الأناضول لأول مرة بعد معركة ملاذكرد.
قانون الانقلاب اللغوي الذي أقره أتاتورك وينص على استخدام الحروف التركية الجديدة بالأبجدية اللاتينية بدلًا من الأحرف العربية كان سببًا مباشرًا في إضعاف الأواصر بين الشعب التركي والحضارة العثمانية
وبناءً على هذه الإستراتيجية، ضمت الحكومة التركية هذه الأحداث إلى قائمة أولوياتها من خلال إعادة إحيائها في الخطابات والتغريردات والحملات الانتخابية وقنوات التلفاز، إضافة إلى تنظيم فعاليات في الشوارع من أجل تقديم عروض تاريخية تعرض قصص الماضي، والتي تهدف إلى تذكير الشعب التركي بماضيه وتخليد انتصاراته.
مع العلم أن هذه المحاولات لم تكن سهلة الحدوث، فقانون الانقلاب اللغوي الذي أقره أتاتورك عام 1928 وينص على استخدام الحروف التركية الجديدة بالأبجدية اللاتينية بدلًا من الأحرف العربية كان سببًا مباشرًا في إضعاف الأواصر بين الشعب التركي والحضارة العثمانية، وذلك بحسب تصريح أردوغان الذي قال منتقدًا هذه السياسات: “إذا أبعدت شعبًا عن لغته الأم، فإنك تقطع علاقته مع أجداده”، مشيرًا إلى ضرورة تدريس اللغة التركية العثمانية في المدارس لتتمكن الأجيال الشابة من قراءة التاريخ.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يعبر بها أردوغان عن استيائه من هذا الإهمال للتاريخ التركي، إذ نوه سابقًا إلى جهود حزب الشعب الجمهوري في نزع هذه الأحداث من ذاكرة المجتمع التركي وحصرها في مناسبات معينة، إذ قال “هناك من يعمل بإصرار على أن يبدأ تاريخ تركيا من 1923 (تاريخ تأسيس الجمهورية التركية)، وهناك من يبذل قصارى جهده لانتزاعنا من جذورنا وقيمنا العريقة”.
وأضاف: “الشريحة التي ينتمي إليها زعيم المعارضة أيضا (رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال قليجدار أوغلو) وضعت معيارا للولاء للجمهورية، يقوم على أساس نصب العداء للأجداد”..”بالنسبة لهؤلاء، الجمهورية التركية حديثة الظهور ولا تمثل امتدادا للسلاجقة والعثمانيين، الذين وجهوا النظام العالمي طيلة ستة قرون”.
معركة ملاذكر.. البوابة التي فتحت مقاليد العالم الإسلامي للأتراك
قامت المعركة في عام 1071
يعود اسم هذه المعركة إلى منطقة ملاذكرد التي تقع أعلى نهر الفرات شمال بحيرة فان أو وان بالقرب من أرمينيا التي تعد الآن ضمن الحدود الشرقية التركية، وهي منطقة المواجهة بين السلاجقة والروم، قاد هذه المعركة ألب أرسلان الملقب بالأسد الباسل ضد الإمبراطور البيزنطي رومانس ديوجنيس الرابع الذي انزعج من التوسعات والفتوحات التي قام بها أرسلان تدريجيًا في إيران والعراق وسوريا، إضافة إلى سيطرته على حدود المناطق المسيحية مثل أرمينيا وجورجيا وشن غارات على صقلية، الأمر الذي دفع إلى إعلان الحرب بين الجانبين بشكل حاسم.
واستعدادًا للمواجهة جمع ملك الروم ديوجنيس جنودًا من أعراق مختلفة من الروس والفرنجة والكرج (الجورجيون) والأرمن وغيرهم، إلى أن قدر عددهم بنحو 300 ألف جندي، في المقابل لم يتعد الجيش السلجوقي الـ15 ألف فارس لانحصار الوقت بين يدي أرسلان في مناشدة الحلفاء بتزويده بالعدد والعتاد اللازمة للقتال، كما وصف هذه الحادثة المؤرخ الإسلامي الكبير ابن الأثير قائلًا: “جاؤوا في تجمل كثير وزيّ عظيم وقصد بلاد الإسلام، فوصلوا إلى ملازكرد من أعمال خلاط، فبلغ السلطان ألب أرسلان الخبر وهو بمدينة خوى من أذربيجان قد عاد من حلب، وسمع ما فيه ملك الروم من كثرة الجموع فلم يتمكن من جمع العساكر لبعدها وقرب العدو”.
طالب ألب أرسلان بالهدنة والصلح المؤقت إلى أن تصله الإمدادات لكن ملك الروم رفض هذا الاقتراح وأصر على المواجهة والقتال
هذه الأخبار أزعجت أرسلان الذي طالب بالهدنة والصلح المؤقت إلى أن تصله الإمدادات لكن ملك الروم رفض هذا الاقتراح وأصر على المواجهة والقتال وقال: “إني قد أنفقتُ الأموال الكثيرة وجمعتُ العساكر الكثيرة للوصول إلى مثل هذه الحالة، فإذا ظفرت بها، فكيف أتركها؟ هيهات، لا هدنة إلا بالرّى (عاصمة السلاجقة) ولا رجوع إلا بعد أن أفعل ببلاد الإسلام مثلما فُعل ببلاد الروم”.
اعتبارًا للكبرياء والإيمان الإسلامي، قرر أرسلان مواجهة هذه الجيوش الغفيرة بعدما استشار معلمه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الذي قال له: “إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال بالساعة التي يكون الخطباء على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة”.
اقتناعًا بذلك، خاطب أرسلان جيشه بكلمات مؤثرة سجلها ابن الأثير “لما كان تلك الساعة صلّى بهم وبكى السلطان فبكى الناس لبكائه، ودعا ودعوا معه، وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف فما هاهنا سلطان يأمر وينهى، وألقى القوس والنشاب وأخذ السيف والدبوس وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله ولبس البياض وتحنط وقال: إن قُتلتُ فهذا كفني، وزحف إلى الروم وزحفوا إليه، فلما قاربهم ترجّل وعفّر وجهه على التراب وبكى وأكثر الدعاء، ثم ركب وحمل وحملت إليه العساكر معه، فحصل المسلمون في وسطهم، وحجز الغبار بينهم، فقتل المسلمون فيهم كيف شاؤوا، وأنزل الله نصره عليهم، فانهزم الروم، وقُتل منهم ما لا يحصى حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى وأُسر ملك الروم”.
انتهت ملاذكرد باحتجاز ملك الروم أسيرًا وإقصاء الإمبراطورية البيزنطية من الحكم في أقاليم إستراتيجية، إلى جانب توسع نفوذ السلاجقة في آسيا الصغرى، وظهور الحملات الصليبية
لخص ابن الأثير أحداث المعركة بسطوره التي انتهت باحتجاز ملك الروم أسيرًا وإقصاء الإمبراطورية البيزنطية من الحكم في أقاليم إستراتيجية، إلى جانب توسع نفوذ السلاجقة في آسيا الصغرى، ومن جهة أخرى ظهرت الحملات الصليبية التي رأت أن مهمتها حماية الوجود المسيحي في الأقاليم الأوروبية من الفتوحات الإسلامية ومعتقداتها في الأرجاء الغربية على حساب مبادئها وأفكارها، والأهم من ذلك أنها مهدت الطريق إلى قيام الإمبراطورية العثمانية التي باتت فيما بعد موطنًا أبديًا للأتراك.