لم تترك الصين مجالاً تنافس عليه إلا وكسبت الرهان فيه، حتى أعمال المخابرات والتجسس الماركة المسجلة باسم أمريكا، اكتسحت فيها الولايات المتحدة، واستطاع التنين الصيني خلال العامين الماضيين، توجيه ضربات قاتلة لشبكات التجسس الأمريكية كافة، ولم يكتف بذلك، بل دمر جواسيس واشنطن بأقصى عقوبات يقرها القانون الصيني، وما زالت بلاد العم سام تحاول البحث عن حل للغز تفوق بكين الصارخ على أجهزتها المخابراتية، التي طالما أرعبت الشائعات عن قدراتها الخارقة العالم أجمع.
“الحكومة الصينية تفكك بشكل منهجي عمليات التجسس الأمريكية في البلاد منذ عام 2010” – صحيفة “نيويورك تايمز” مايو 2017
في منتصف العام الماضي، أظهرت الصين أنيابها للولايات المتحدة، وعبر نبرة تحد واثقة، طالبتها بوقف عمليات زرع الجواسيس والقرصنة التي تتبعها معها، وأشارت لها من بين السطور أن مثل هذه الحيّل أصبحت من الماضي، ولن تجدي معها نفعًا، بعدما استطاعت تدمير المنظومة بأكملها في 2010، العام الذي كُشف فيه شبكة تجسس غير مسبوقة في العالم تابعة للمخابرات الأمريكية، وتغلبت بكين حينها على نظام الاتصال المشفر بين الجواسيس، وسيطرت عليهم وعلى المسؤولين عنهم في الجهاز.
اعتقلت الصين إبان هذه الواقعة نحو 30 جاسوسًا، وبعد سلسة مداولات أمام القضاء الصيني، حكم على أغلبهم بعقوبات مشددة، ما بين الإعدام والسجن، ومن وقتها وحتى الآن، ومع توالي عمليات الكشف عن عملاء “CIA”، أصبحت عملية اختراق أنظمة المخابرات الأمريكية على ألسنة الخبراء الأمنيين بالعالم أجمع، في محاولة لفك شفرة ألغاز الطريقة التي اعتمدتها الصين للإيقاع بعملاء أمريكا بشكل متتال، سواء عن طريق القرصنة أم نجاحها في تجنيد عملاء مزدوجين لبكين، داخل أقوى جهاز استخباراتي في العالم.
لماذا تتجسس أمريكا على الصين؟
يساور أمريكا الرعب الشديد من التطور الخاطف للصين، حيث تهتز صقور الدولة العميقة الأمريكية عندما يدور بمخيلتهم أن بكين قد تخطف الريادة من واشنطن وتهدم النظام العالمي القائم على رأس أصحابه وتقود السفينة بعدما توحش اقتصادها وجعل منها قوة عظمى تقف حاليًّا الند بالند أمام أمريكا.
لم يكن أمام الأمريكان إلا اللجوء لضرب الصحوة الصينية بشبكة متطورة من الجواسيس، تنقل أدق التفاصيل عن الوحش الآسيوي القادم بقوة ليلتهم كل ما يقابله، وانتهت بالفعل من تجهيز شبكة التجسس بقدرات وتحصينات هي الأقوى في العالم، والأولى من نوعها في بدايات العقد الحاليّ الذي أوشك على الانتهاء، واستطاعت الأجهزة الأمريكية الانتصار بشكل ملحوظ في بداية الأمر، وتوصلت إلى معلومات غاية في السرية والخطورة عن عمل الحكومة وخطط التنمية الصينية ومساراتها الدبلوماسية الخارجية وخريطة تحالفاتها السياسية والاقتصادية بجميع أنحاء العالم.
ضمت شبكة التجسس الأمريكية أفضل رجال جهازي مكتب التحقيقات الفيدرالي “FBI” ووكالة الاستخبارات المركزية “CIA”، للعمل ضمن منظومة التجسس على الصين، وحتى لا يتم اختراق المجموعة أو تتبع أكوادها داخل الاستخبارات الأمريكية، اتخذوا لها مقرًا جديدًا في ولاية فرجينيا
جند الـ”CIA” عملاء من مستويات الدولة كافة، كان الفساد لا يزال ينخر في عظام الدولة الصينية رغم تقدمها الكبير في الاقتصاد والسياسة، وساعد إرث الاستبداد الولايات المتحدة على إنجاح مهمتها في شراء ولاء كبار المسؤولين في الدولة، لتأتي القفزات المرتفعة التي حققها الاقتصاد الصيني وآليات صيانة الشفافية وتجفيف منابع الفساد، لتعرقل المخططات المخابراتية المتزايدة، وبدأت بكين في الالتفات لما تحيكه لها الولايات المتحدة، عبر نسج خيوط عنكبوتية لتتبع عملاء واشنطن.
ضمت شبكة التجسس الأمريكية أفضل رجال جهازي مكتب التحقيقات الفيدرالي “FBI” ووكالة الاستخبارات المركزية “CIA”، للعمل ضمن منظومة التجسس على الصين، وحتى لا يتم اختراق المجموعة أو تتبع أكوادها داخل الاستخبارات الأمريكية، اتخذوا لها مقرًا جديدًا في ولاية فرجينيا، بعيدًا عن العاصمة، والمثير أن واشنطن أعطت للعملية اسمًا يعبر عن نظرتها للصين وهو “غرير العسل” ويطلق على حيوان نادر مفترس وشجاع وعدواني، رغم أنه عمليًا لا يوجد له أعداء طبيعيين.
كيف واجهت بكين جواسيس واشنطن؟
استطاعت الاستخبارات الصينية العبث بأجهزة الاستخبارات الأمريكية، فغزا القراصنة الصينيون نظام الاتصالات المشفر وحللوا رموزه وكشفوا كل أسراره وأتموا مهمتهم بنجاح ساحق، بعدما تم تدريبهم بعناية ضمن برنامج جهاز مكافحة التجسس، فأصبح لديهم القدرة الكاملة على كشف نظام المراقبة التابع لوكالة الأمن القومي الأمريكية، ومن نفس مربع الخيانة، أذاقت الصين الولايات المتحدة من كأس السم ذاته واستطاعت تجنيد عملاء أمريكين لديهم علاقات مصالح مع بكين.
نجاح الصين في ضرب تحصينات الاستخبارات الأمريكية والإيقاع بالعملاء الواحد بعد الآخر، أرجعه خبراء أمريكيون لاختراق القراصنة الصينيين، نظام اتصالات الاستخبارات الأمريكية بسرعة ودقة فائقة لم تتوقعها هذه الأجهزة
استقطبت المخابرات الصينية، الطالب الأمريكي في شنغهاي “غلين شرايفر”، وتفانى العميل الأمريكي الصغير في جمع معلومات عن القدرات الدفاعية لجيش بلاده، مقابل تقاضي أموال طائلة، كان شرايفر صفعة كبرى على جبين جهاز الـ”CIA” الذي اكتشف العملية بعد إتمامها بفترة، وحتى يقي الطلاب الأمريكيين الذين يدرسون في الصين شر هذه المؤامرات، اضطر لفضح خيانة شرايفر، ومن هذه اللحظة أدركت أجهزة استخبارات الولايات المتحدة، أن تجنيد الأمريكين لم يعد بعيد المنال، وليس أمرًا مستعصيًا على قبضة بكين.
نجاح الصين في ضرب تحصينات الاستخبارات الأمريكية والإيقاع بالعملاء الواحد بعد الآخر، أرجعه خبراء أمريكيون لاختراق القراصنة الصينيين نظام اتصالات الاستخبارات الأمريكية بسرعة ودقة فائقة لم تتوقعها هذه الأجهزة التي كانت على ثقة تخطت مرحلة الغرور، من فشل أي قوة استخباراتية بالعالم مهما كانت قوتها في اختراق نظام المعلومات السري للشبكات الأمريكية.
الأمر الذي أدى بهم إلى الاستهانة بقدرات الصين، فعملت الأخيرة بمنتهى الأريحية ودون مضايقات لتصميم برنامج تجسس صيني مواز، رصد بنجاح ساحق ضباط المخابرات الأمريكية في جميع تحركاتهم، لدرجة أن المطاعم التي كانت يتناولون فيها وجبات طعامهم، كانت تسجل لهم أدق تحركاتهم عبر ميكروفونات تم تركيبها في جميع الطاولات، وكان أطقم الخدمة في المطاعم والمحلات التي يرتادها ضباط المخابرات الأمريكيون من حاملي الرتب المختلفة بجهاز مكافحة التجسس الصيني.
كانت التكلفة باهظة في أجهزة الاستخبارات الأمريكية المختلفة، فدفعت الولايات المتحدة ثمن استخفافها بالجهاز المخابراتي المخيف للصين الذي لم ينجح فقط في الإيقاع بالجواسيس الأمريكان وإعدامهم، بل نجح في تجنيد أعلى المستويات الوظيفية في الأجهزة السيادية الأمريكية، منهم كانديس كلينبورن الموظفة الكبيرة بوزارة الخارجية التي اكتشفت المخابرات الأمريكية دعم حسابها البنكي بأموال طائلة تتدفق عليها بشكل دوري من الصين، بجانب هدايا عينية ثمينة، وشقة مفروشة بالكامل على أحد طراز في الديكور والأثاث، والطامة الكبرى أن العمل المخابراتي المعقد في الصين، نجح في حمايتها ولم تستطيع المخابرات الأمريكية إثبات عمالتها للصين أو إثبات تسريبها معلومات حساسة عن بلادها لبكين.
هل تساعد موسكو في عرقلة المخابرات الأمريكية؟
تدور داخل دوائر المخابرات والأجهزة السيادية الأمريكية العديد من التكهنات وتتزايد الشكوك عن تدخل أجهزة المخابرات الروسية في مساعدة الصين، ومدها بهذه التكنولوجيا التي تبدو عصية على الفهم، وما يعزز مزاعمهم هذه، حالة الاختفاء المفاجئة للعديد من المخبرين والجواسيس الناشطين في روسيا لصالح أمريكا، الذين توقفوا عن إيفاد المعلومات عن مصادرهم المكلفين بتغطيتها، في وقت متزامن مع انهيار شبكة الاستخبارات الأمريكية في الصين.
التفوق الصيني الساحق في الصراع المخابراتي، جعل أمريكا تعلن الهزيمة أولاً، بعدما نشرت الصحف الأمريكية كواليس ما دار، وبشكل خاص نيويورك تايمز التي كشفت النقاب عن معلومات تفصيلية تفيد بالخسائر المهينة لبلادها
وهناك سبب آخر للشكوك التي تحوم حول تدخل روسيا في الصراع المخابراتي الدائر بين أمريكا والصين لصالح الأخيرة، وهو توحد الآلية التي تستنزف بها الصين الاستخبارات أمريكا، عبر الإيقاع بعملائها عبر عمليات التجنيد المضادة والمزدوجة، وهي الطريقة التي كانت تستخدمها روسيا مع العملاء الأمريكيين الذين تم كشف هويتهم في عهد الاتحاد السوفيتي، وتم إعادة تجنيدهم من قبل جهاز الـ”KGB” السوفيتي، خلال فترات الحرب الباردة بسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
التفوق الصيني الساحق في الصراع المخابراتي، جعل أمريكا تعلن الهزيمة أولاً، بعدما نشرت الصحف الأمريكية كواليس ما دار، وبشكل خاص نيويورك تايمز التي كشفت النقاب عن معلومات تفصيلية تفيد بالخسائر المهينة لبلادها والضربات المتتالية لها من جهاز الاستخبارات الصيني، بما أودى بالنظام المخابراتي القديم لأمريكا والمستخدم في الشرق الأوسط، وإعادة بناء نظام جديد يستعيد هيبة الولايات المتحدة في مجال ظلت مهيمنة عليه لعقود من الزمن، ويبدو أن الوهن والعجز طاله كما يطول كل شيء.