ترجمة وتحرير: نون بوست
إلى حد هذه اللحظة، يبدو الميناء أشبه بمجمع للصيد البحري ولا يحمل أي أهمية أخرى. ويبدو ميناء غوادر المشرف على بحر العرب أشبه بمدينة منسية، حيث لا تجوب شواطئه سوى قوارب الصيد الصغيرة التي تغطي الخليج، ولا يسجل فيه سوى القليل من النشاط الاقتصادي. ومن فوق قمة تل يطل على ميناء المياه العميقة الجديد، يلوح فندق “بيرل كونتيننتال” مثل السراب. وتنتشر ست رافعات على رصيف طوله 600 متر، حيث يظهر بعض العمال وهم منشغلون بمواقع البناء على غرار مركز أعمال تم افتتاحه في مطلع السنة، وفندق حسب العمارة المغولية لا زال في طور البناء.
في هذا السياق، أكد مدير الميناء، دوستين خان جاملديني، قائلا: “نحن نشهد ولادة جديدة في هذا المكان”. ويشيد هذا الرجل صاحب الوجه المستدير والشارب والشعر الرمادي بالإمكانيات التي تزخر بها هذه المنطقة بمجرد ربطها بالصين واستغلالها لمخزون المحروقات في آسيا الوسطى. في الأثناء، وقف المدير على سطح المبنى الذي يضم مكتبه، وبدأ يتخيل الميناء بصوت عال، حيث قال: “في غضون خمس سنوات، سيكتظ الميناء بسفن البضائع التي سيتم شحنها إلى المجمع الصناعي. وفي هذه المنطقة الحرة، سيتم تشييد من 1500 إلى 2000 مصنع”.
وفقا لما أشار إليه المدير، يبدو أن الأشغال تُحرز تقدما جيدا، حيث أفاد جاملديني أنه “قد تم وصل المنطقة الحرة بشبكة من المياه والكهرباء. كما قمنا بتأجير قطع من الأراضي لشركتين صينيتين، وثلاث شركات باكستانية ستبدأ قريبا في بناء مصنعها”. وأضاف جاملديني أنه “من المقرر أن ينتهي كل شيء في غضون 18 شهرا. وستتكفل إحدى الشركات الثلاث بتجميع الدراجات الكهربائية، في حين تقوم أخرى بصناعة زيت الطهي، والثالثة بإنتاج أنابيب فولاذية، ستكون كلها موجهة للتصدير”.
مشروع مارشال
لا يعيش في مدينة غوادر سوى 263 ألف نسمة تقريبا، التي استثمرت الصين فيها قرابة 500 مليون دولار. ويأتي هذا الميناء على رأس أولويات الصينيين بحسب ما صرح به رئيسهم، شي جين بينغ، سنة 2013، لإنعاش طريق الحرير الرابط بين آسيا وأوروبا. وتعتبر مدينة غوادر “رأس حربة” الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني على نحو خاص. وقد استثمرت الشركات الصينية المملوكة للدولة 62 مليار دولار في باكستان لبناء محطات الطاقة الشمسية ومحطات توليد الطاقة، وبناء وتوسيع الطرق السريعة، وتركيب شبكات الألياف البصرية، وتجديد خطوط السكك الحديدية.
على الجانب الباكستاني، فيكتسب الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني بعدًا عاطفيا واستراتيجيا أيضًا
في هذا الصدد، بدأت آثار “مشروع مارشال” هذا، الذي تعادل قيمته خمس الناتج المحلي الإجمالي الباكستاني (الذي قدّره البنك الدولي بحوالي 278 مليار دولار) في الظهور. ففي أقل من خمس سنوات، تمت إضافة ما لا يقل عن 6700 ميغاواط إلى السعة الكهربائية الباكستانية، وارتفع النمو من 3.7 بالمائة سنة 2013 إلى 5.3 بالمائة سنة 2017، وفقا لبنك التنمية الآسيوي، الذي يتوقع نموا بنحو 5.6 بالمائة هذه السنة. ويساهم الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني في تعزيز قطاع البناء، وكذلك الاستهلاك المنزلي.
في الواقع، تسير بكين نحو تحقيق هدفين اثنين، إذ أنها تعمل، من ناحية، على فتح أقاليمها الغربية عن طريق وصلها بأفريقيا والخليج الفارسي عبر باكستان وميناء غوادر. ومن ناحية أخرى، ينكبّ الصينيون على تنمية هذا البلد البالغ عدد سكانه 210 مليون نسمة لمنعه من الغرق في البؤس والتطرف الديني. ويرى مختص صيني في العلوم السياسية، فضّل عدم الكشف عن اسمه، هدفا شخصيا للرئيس الصيني الذي يعمل على تحقيقه، حيث أشار إلى أن “الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني وطريق الحرير الجديد يستغلهما شي جين بينغ لإثبات شرعيته وترك بصمته في التاريخ”.
أما على الجانب الباكستاني، فيكتسب الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني بعدًا عاطفيا واستراتيجيا أيضًا. ومنذ سنة 2008، تحولت البلاد إلى مسرح لحرب أهلية بين الجيش وحركة طالبان، الأمر الذي أجبر المستثمرين على الهرب ولم يعد معظمهم بعد. ومن هذا المنطلق، يتيح العمل الهام الذي قامت به الشركات والمجموعات الصينية الفرصة لإحياء الاقتصاد الباكستاني وطي صفحة الإرهاب.
افتتح رئيس الوزراء الباكستاني السابق، نواز شريف، والسفير الصيني السابق في باكستان، سون ويدونغ، ممرا تجارياً جديداً في ميناء غوادر يوم 12 تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2016
التنافس مع الهند
ترى إسلام آباد في تعاملها مع بكين فرصة من أجل اللحاق بركب جارتها الهند. وتجدر الإشارة إلى أن العسكريين الباكستانيين مقتنعون بأن نيودلهي لم تقبل أبدا بتقسيم شبه القارة الهندية بعد رحيل البريطانيين، الذي نتج عنه تأسيس دولة باكستان سنة 1947. وبالتالي، يرى الجيش الباكستاني أنه من الضروري منع الهند من أن تتحول إلى القوة المهيمنة في جنوب آسيا، وهو ما يتطلب اقتصادًا مزدهرًا قادرًا على تمويل تحديث الآلة العسكرية.
في الحقيقة، تتطلع باكستان إلى تحقيق هذا الهدف عبر التحالف مع الصين وليس مع الولايات المتحدة، التي شنت قواتها البحرية غارة لقتل أسامة بن لادن في أبوت آباد سنة 2011، دون تحذير سلطات إسلام آباد، ما تسبب في خلق قطيعة بين باكستان والولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، أنشأت واشنطن تقاربا مع نيودلهي، حيث وقّعت معها اتفاقية تعاون نووي مدني في سنة 2008، واتفاق دعم لوجستي في سنة 2016، ما يسمح للبحرية الأمريكية بالتزود بالوقود والبقاء في الموانئ الهندية.
علاوة على ذلك، أصبحت الولايات المتحدة ثاني أهم مزود للهند بالأسلحة بين سنة 2013 و2017 بحسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. كما أن قدوم رئيس جديد للولايات المتحدة لم يدفع الأمور نحو الأفضل. وفي هذا الإطار، قال المتحدث باسم الجيش الباكستاني، اللواء آصف غفور: “ألقِ نظرة على إدارة ترامب. إن المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة، نيكي هالي، أصولها هندية، والسفير الأمريكي في الهند أصوله هندية كذلك. ويعني هذا أن اللوبي الهندي له تأثير على السياسة الخارجية الأمريكية”.
منذ إطلاق مشروع الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني، طالته انتقادات واسعة في شتى أنحاء البلاد. وقد ذكر الصحفي المختص في الشأن الاقتصادي في صحيفة “داون” الباكستانية، أن “المشروع برمته سيمتد حتى سنة 2030، وربما سيذهب إلى ما هو أبعد من بناء الطرق ومحطات الطاقة”. وأضاف الصحفي الباكستاني أن “السلطات تتطلع إلى تطوير مناطق اقتصادية خاصة في كل مكان. وقد أخبرني مصدر صيني أن المشاريع الحالية ليست سوى غيض من فيض. وللأسف، هذا كل ما نعرفه”.
في إسلام آباد، ترفض السفارة الصينية إجراء أي مقابلة، ولعل ذلك ما أكده أحد العاملين السابقين بمشروع الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني في وزارة التخطيط، الذي أشار إلى أن “الدبلوماسيين لا يتحدثون سوى مع كبار المسؤولين الحكوميين. ومن المستحيل لأي باحث أن يجري معهم حوارا”.
في باكستان، أثار غياب الشفافية بشأن هذا المشروع حفيظة المتبنين للموقف القائل إن الأزمات الاقتصادية ما فتئت تتراكم بسبب الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني
إن هذا الغموض مهم بنفس القدر عندما يتعلق الأمر بتمويل هذا المشروع العملاق. ومخافة أن تخسر بلاده سيادتها إذا تحقق مثل هذا السيناريو، تساءل الخبير الاقتصادي أكبر زايدي: “سيتم تمويل مواقع البناء جزئيا من القروض المقدمة من البنوك الصينية، ولكن ما هي الضمانات؟ وكم ستكون تكلفتها؟ وماذا سيحدث إذا لم تدفع باكستان مستحقاتها؟”.
في الصين أيضا تتعالى الأصوات المشككة في جدوى هذا المشروع، حيث أكد الخبير الصيني بالشأن السياسي، المذكور أعلاه، “لقد شكك الأكاديميون والمسؤولون في الحزب الشيوعي من الجدوى الاقتصادية للممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، خاصة أن عملية نقل البضائع من غرب الصين إلى غوادر، عبر طريق يبلغ طوله نحو ثلاثة آلاف كيلومتر عبر سلسلة من الجبال يصل ارتفاعها إلى 4600 متر، ستكون باهظة التكلفة”.
في سياق متصل، أضاف الخبير الصيني: “عندما نذكر هذه الحجة، يخبروننا بأن المشروع إستراتيجي. فمن المفترض أن يتمكن أسطولنا البحري من الحصول على نقطة تموين عند بحر العرب بالقرب من مضيق هرمز، من خلال ميناء غوادر. ولكن إنفاق 62 مليار دولار من أجل بناء قاعدة للتزود بالوقود لا طائل منه”.
الاستياء
في باكستان، أثار غياب الشفافية بشأن هذا المشروع حفيظة المتبنين للموقف القائل إن الأزمات الاقتصادية ما فتئت تتراكم بسبب الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني. وعلى امتداد سبع سنوات، تضاعفت الواردات الصينية أربعة أضعاف لتصل إلى ذروتها ببلوغ 14 مليار دولار خلال السنة المالية 2016-2017. وتشمل هذه الواردات الأدوات الآلية والإسمنت والصلب، وذلك وفقا لمذكرة نشرت السنة الماضية صادرة عن المصرف المركزي. والسؤال المطروح، كيف يثقلون كاهل احتياطي النقد الأجنبي للبلاد، وهو بالأساس لا يكفي أكثر من شهرين من الواردات؟
يبدو أن هذا الوضع يقلق مجتمع الأعمال، الذي يواجه صعوبة أكبر في اختراق السوق الصينية، إذ لا يمكن لباكستان أن تصدر لها أكثر من 1.5 مليار دولار سنوياً. وحيال هذا الشأن، قال رئيس مجلس الأعمال الباكستاني، إحسان ماليك، إن “المشكلة تكمن في اتفاقية التجارة الحرة الموقعة سنة 2006. كما أن التعريفات التي يتعين على مؤسساتنا دفعها تفوق تلك المفروضة على بلدان رابطة دول جنوب شرق آسيا، وخاصة فيما يتعلق بالأرز والملابس الجاهزة”.
أما الأسوأ من ذلك أن باكستان تصدر بشكل رئيسي إلى الصين المواد الخام، وخاصة القطن. وبشأن هذه المسألة، نوه ماليك بأن “هذا القطن يستخدم لتصنيع الملابس التي تنافس منتجاتنا في الولايات المتحدة والأسواق الأوروبية”، وفي ذلك إشارة إلى التداعيات الاقتصادية للممر الاقتصادي الصيني الباكستاني.
كما أضاف ماليك أن “معظم الموظفين العاملين في مواقع محطات الطاقة وحتى المواد من الصين، دون أن تستفيد صناعتنا الثقيلة وقوتنا العاملة”. ويقال إن السلطات سترسل ما بين 20 ألف إلى 30 ألف مواطن صيني ليعيشوا في باكستان. ولا يمكنك الذهاب إلى فندق كبير في إسلام أباد أو كراتشي دون رؤية هذه المجموعات الصغيرة من المغتربين.
في العاصمة، تنتشر المطاعم ومحلات البقالة الصينية، ويوجد في “سوق دجنه” كشك مليئ بالأغذية المستوردة من الصين من لحوم جافة ونودلز وحتى لحم الخنزير المعلب الذي يعد من اللحوم المحظورة في هذه الجمهورية الإسلامية. وعلى الرغم من أنها تعمل في باكستان منذ ثماني سنوات، إلا أن المديرة الصينية لا تتقن التحدث باللغة الأوردية أو الإنجليزية، حيث قالت بابتسامة عريضة: “تلك هي ظروف العمل!”.
صيادون في غوادر، ستستقبل زوارقهم عما قريب عددا لا يحصى من السفن المحملة بالبضائع
ماذا عن أويغور؟
إن هذا الحضور الصيني المكثف، بالإضافة إلى الغموض الذي يلف الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، يسلط الضوء على الصين، ولا سيما على الأسلوب الذي يعامل به المسلمون في هذا البلد. في الواقع، إن هذا الموضوع حساس بالنسبة لباكستان، حيث الإسلام هو أساس الهوية الوطنية. لذلك، يبدو أن القمع الذي يتعرض له الأويغور، المجتمع المسلم الناطق باللغة التركية غرب الصين، يؤثر على المجتمع الباكستاني.
في الثاني من آذار/ مارس، صوّت مجلس مقاطعة غلغت بلتستان الواقعة شمال باكستان لصالح قرار يقضي بإطلاق سراح نحو خمسين امرأة أويغورية من المعتقلات الصينية متزوجات بباكستانيين. وفي معظم الحالات، كان هؤلاء رواد أعمال صغار يعملون في مجال الاستيراد والتصدير، يعيشون منذ زمن في إقليم سنجان الصيني المتاخم للحدود الباكستانية.
كان شفقت علي، البالغ من العمر 39 سنة، من بين هؤلاء، وقد انتقل إلى أورومتشي عاصمة سنجان سنة 2000 حيث افتتح شركة للنقل، ثم تزوج من امرأة صينية سنة 2008. وفي حديثه عن حياته في الصين، قال شفقت علي “لقد نعمنا على مدى ثماني سنوات بحياة هادئة، حتى تاريخ 15 تشرين الثاني/ نوفمبر من سنة 2016. ففي صباح ذلك اليوم، كنت في العمل عندما تلقيت مكالمة هاتفية من حماتي أخبرتني فيها والذعر واضح على صوتها أنه قُبض على زوجتي. فاتصلت فورا بالسلطات التي أكدت لي أنها قبضت عليها بسبب حضورها دورات في القانون!”.
مرت سبعة أشهر والزوج يتوسل للسلطات ليتمكن من التواصل مع زوجته، لكن دون جدوى. وقد أفاد شفقت علي، الذي أُجبر على العودة إلى باكستان دون طفليه، “في شهر أيار/ مايو من سنة 2017، رفضوا تجديد تأشيرتي”، في حين صودرت جوازات سفر الطفلين، وبقيا في الصين على الجانب الآخر من الحدود.
حركة مناهضة للصين
أكد شفقت علي “ما زلت لا أعرف أين زوجتي، وليس لدي أخبار عن ابنتي البالغة من العمر عشر سنوات وابني الذي لم يتجاوز عمره أربع سنوات. لقد تركت أطفالي لدى والدتي، ومنذ كانون الأول/ ديسمبر من سنة 2017، لم يعد بإمكاني الاتصال بها نظرا لأن رقم هاتفها لم يعد متاحا”.
هذا الحضور الصيني المكثف، بالإضافة إلى الغموض الذي يلف الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، يسلط الضوء على الصين، ولا سيما على الأسلوب الذي يعامل به المسلمون في هذا البلد
لقد سعى شفقت جاهدا لمعرفة مصير زوجته بيد أن سفارته في بكين أو وزارة الخارجية الباكستانية أو التمثيل الصيني في إسلام أباد لم تقدم له الإجابة. ولم يكن الجيش الباكستاني، الذي يملك اليد العليا في السياسة الخارجية للبلاد، في منأى عن هذه المسألة. ومن جهته، أكد شفقت “لست الوحيد الذي يعاني من هذا الوضع، ولكن لا أحد يريد مساعدتنا”.
في المقابل، سلطت وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية الضوء على القضية. ولم تتردد حركة مناهضة للصين على موقع فيسبوك، يتابعها قرابة ثلاثة آلاف شخص، في رسم شي جين بينغ كمصاص دماء مستعد لقتل 20 مليون من الأويغور. وردا على القضية، وعد المتحدث باسم وزارة الشؤون الخارجية الباكستانية بالاستفسار. لكن إلى حد يوم الناس هذا، مازال هذا المسؤول يردد: “بمجرد أن نحصل على الأخبار، سوف نعلمه”.
في أوائل شهر أيار/ مايو، وخلال مؤتمر صحفي في الوزارة، فاجأ صحفي باكستاني حكومته عندما قال بسخط “باكستان تنتقد انتهاكات حقوق الإنسان في كشمير الهندية، لكنها لا تحرك ساكنا بشأن معاناة مسلمي سنجان”. ومن جهته، رد المتحدث الرسمي: “إنها مجرد دعاية”. ولكن 62 مليار دولار مبلغ يستحق الصمت.
الصحيفة: لوبوان