لم يعد الموت وحده هو الفاجعة الأكبر الذي يعاني منه سكان قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، وإنما سبقته مصائب أقسى، كاستشهاد الغزي وكل عائلته وبقاء طفله لوحده ليأخذ لقب “الناجي الوحيد”، ليحارب في معترك الحياة باقي حياته، أو أن يأخذ رضيع ما لقب “مجهول الهوية”، كالطفلة ملاك التي وُجدت على غصن شجرة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 وهي لم يتعدَّ عمرها الأيام، ولم يتعرفها أحد أبدًا، فاستقرت في نهاية المطاف مع ممرضة فلسطينية تُدعى أمل أبو ختلة.
تروي الممرضة أمل لـ”نون بوست” حكاية ملاك وقصة اسمها، وماذا يعني أن يصل المشفى طفل مجهول الهوية، فكيف تم التعامل مع الأمر؟ ولماذا أصرّت أن تكون أمًّا لملاك؟ وماذا عن القصص المروعة التي واجهتها أثناء عملها في قسم الأطفال؟
تؤكد تقديرات لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسف” وجود حوالي 17 ألف طفل منفصلين عن أسرهم بفعل الحرب، فيما قال المتحدث باسم اليونيسف، جيمس إلدر، إن ما يجري في قطاع غزة هو حرب الأطفال، فهم أكثر الفئات تضررًا.
الطبيبة تانيا حاج حسن، التي تعمل مع أطباء بلا حدود، أشارت في تصريح صحفي سابق، إلى أن مشافي غزة تضمّ أطفالًا مصابين من دون عائلة ناجية، معتبرة أن هذا الوضع مرعب لعدد كبير من الصغار الذين تبدلت حياتهم خلال لحظات.
تروي الممرضة أمل، التي تعمل في مشفى الهلال الإماراتي بقسم الحضانة في رفح، قصة الطفلة الرضيعة “مجهولة الهوية” التي سُمّيت ملاك: “وصلتنا ملاك إلى المشفى بتاريخ 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، مع حالات أتت من مشفى الشفاء لتحويلها إلى مصر، لكن رفضنا إرسالها مع الحالات التي سافرت، كانت بعمر الشهر ومصابة إصابة طفيفة وبقينا لفترة نقول عنها مجهولة الهوية، فكان الأمر مزعج جدًّا ثم خطر لي اسم ملاك، فكان اسم يليق بوجهها”.
لم تواجه أمل خلال عملها بمشفى الهلال الإماراتي رضّعًا مجهولي الهوية إلا ملاك فقط، أما باقي الأطفال تُعرف هوياتهم لاحقًا بعد تعرُّفهم من قبل العائلة الممتدة بعد رحيل الوالدين والأشقاء، فتكمل: “قررت أن أخذ ملاك لحضانتي بعد مدة من مكوثها بالمشفى بطلب قدمته لوزارة الصحة، وتم قبوله، وحقيقة ما دفعني للإقدام على خطوة كهذه هو أنني تربّيت يتيمة، فلم أودُّ لها أن تعيش مشاعر اليتم منذ عمر مبكر، سأعوضها عن حب وحنان الأهل، وأبني معها ذكريات جميلة موثقة بالصور”.
تضيف أمل: “ملاك كانت أحلى هدية إلي من ربنا، وكتير مبسوطة إنه ربنا اختارني من بين 50 شخص لحتى اعتني فيها واهتم فيها.. فمشاعري تجاه هالطفلة جدًّا حلوة.. هيا كمان أعطتني الحب وأعطتني الطاقة لأكمل وخلتني أنسى أجواء الجرب بوجودها”.
وحول التوفيق بين عملها كممرضة في حرب الإبادة وبين رعايتها للطفلة ملاك، تؤكد أمل “كان لعائلتي الفضل في اطمئناني من هذه الناحية، خلال فترة دوامي أتركها مع شقيقتي وأطفالها فقد اعتادت عليهم واعتادوا عليها وأحبتهم وأحبوها، لذلك أمر التوفيق كان سهلًا، أبدأ بمهام الأمومة بعد ذهابي لجانبها، ولم أشعر برهبة خلال التعامل معها بسبب خبرتي وتعاملي الدائم مع المواليد في قسم الحضانة بالمشفى”.
شعرت أمل بمشاعر الأمومة مع ملاك فكان أعظم شعور أحسّت به خلال حياتها، تبدوان في الواقع مثل الابنة والأم، وتحبها عائلتها، حتى أن أولاد أشقائها يغارون من حب عائلاتهم لها، فتردف الممرضة بابتسامة: “وملاك بتشوف حالها عليهم وبتدلع”.
وفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي، فإن 17 ألف طفل يعيشون دون والديهم أو من دون أحدهما، و3 آلاف و500 طفل معرضين للموت إثر سوء التغذية، فيما يوجد 3 آلاف و600 طفل مفقودين تحت الأنقاض.
أما عن المواقف المؤثرة التي عايشتها أمل خلال عملها في قسم الحضانة، فتقول: “في شهر يناير/ كانون الثاني المنصرم، جاءتنا سيدة رفقة طفلها الذي يبلغ من العمر أسبوعًا واحدًا فقط، وكان يعاني من التهابات شديدة، فطلبنا أن تتركه لدينا في القسم لنعتني به، رفضت وبكت بكاءً عنيفًا، ثم اضطرت نهاية مجبرة أن تتركه وستعود لاحقًا للاطمئنان على حالته، وإذ باليوم التالي يقتحم الجيش الإسرائيلي خانيونس ويحاصرها، ومن بعدها لم نستطع أن نصل إلى الأم، والطفل بقيَ لدينا لمدة 5 أشهر ولا أثر لعائلته، وحين أُعلن عن اجتياح رفح، أرسلناه إلى قرية الأيتام ليعتنوا به”.
وكان مدير مستشفى الشفاء، الدكتور محمد أبو سلمية، قال في تصريح صحافي سابق: “إن بعض الأطفال سُجّلوا كـ”مجهولي الهوية” بسبب عدم القدرة على التعرُّف إلى هوياتهم، وعائلاتهم قد قُتلوا جراء الغارات الإسرائيلية، إذ عددهم يفوق الـ 70 أو 80 طفلًا”.
وتخبرنا أمل بحكاية أخرى موجعة بقدر قصة ملاك والطفل الضائع من أهله، فتكمل: “في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وصلتنا سيدة حامل مصابة ووضعها خطير للغاية، قمنا بتوليدها قيصرية، وأخرجنا المولود بسلام، لكن والدته استشهدت ولحقت بباقي العائلة، بقيَ لدينا لمدة أسبوع لا أحد يسأل عنه، ثم جاء لنا أقارب له وأخذوه معهم، وعندما وصل عمره 8 أشهر قصف الجيش الإسرائيلي البيت الذي يقطن به وقتله رفقة العائلة التي كانت معه، فلحق بأهله الشهداء”.
تنهي حديثها لـ”نون بوست”: “الآن عمر ملاك 11 شهرًا، ولدي أمل كبير أن أجدَ أحدًا من أهلها، فمن الصعب أن تعيش دون أن تعرف ابنة من هي، لذلك لا أودّها أن تعيش هذه المشاعر القاسية عندما تكبر، سيكون من الصعب عليّ مواجهتها بالأمر”.
يذكر أنه يوجد 94 ألفًا و925 مصابًا منذ بدء العدوان الإسرائيلي، منهم 69% من الأطفال والنساء، واستشهد حوالي 16 ألفًا و756 طفلًا، بينهم 115 طفلًا رضيعًا وُلدوا واستشهدوا خلال الحرب.
فيما يؤكد الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني على أن ما يزيد عن 816 ألف طفل غزي بحاجة لمساعدة نفسية من تداعيات وآثار حرب الإبادة الجماعية، التي خلفت صدمات نفسية وقلقًا وتوترًا واكتئابًا ونوبات هلع عند الأطفال.