ما فتئت حركة مقاطعة “إسرائيل”، التي تعرف اختصاراً باسم “بي دي إس” (المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات)، تدفع بالعالم نحو قليل من الجنون. فمنذ تأسيسها قبل 13 عاماً، كونت الحركة لنفسها من الأعداء تقريباً بقدر ما لدى الإسرائيليين والفلسطينيين مجتمعين من الأعداء. لقد أعاقت الحركة جهود الدول العربية لإنهاء مقاطعتها هي، والتي استمرت لعقود في سبيل مزيد من التعاون المكشوف مع “إسرائيل”، وعيّرت حكومة السلطة الفلسطينية في رام الله من خلال تنديدها بتعاونها الأمني والاقتصادي مع الجيش الإسرائيلي وإدارته العسكرية، بل وأزعجت منظمة التحرير الفلسطينية بسطوها على موقعها كممثل شرعي للفلسطينيين ومدافع عنهم يحظى بالاعتراف الدولي حول العالم.
ثم أسخطت (الحركة) الحكومة الإسرائيلية من خلال سعيها لتصويرها كما لو كانت مصابة بالجذام في أعين الليبراليين والتقدميين، وأغاظت ما تبقى من معسكر السلام الإسرائيلي من خلال دفعها الفلسطينيين للانتقال من خوض نضال ضد الاحتلال إلى خوض نضال ضد التمييز العنصري، وحفزت على شن حملة مضادة معادية للديمقراطية من قبل الحكومة الإسرائيلية، لدرجة أرعبت الليبراليين الإسرائيليين خوفاً على مستقبل بلدهم. وسببت صداعاً كبيراً للحكومات المانحة للفلسطينيين في أوروبا، والتي تتعرض للضغط من قبل “إسرائيل” حتى لا تتعامل مع المنظمات التي تدعم حركة “بي دي إس” داخل المناطق الفلسطينية، وهو طلب مستحيل إذا ما أخذنا بالاعتبار حقيقية أن جميع مؤسسات المجتمع المدني الرئيسية تقريباً في غزة والضفة الغربية تؤيد هذه الحركة.
في زمن تتحمل فيه المؤسسات التجارية مسؤوليات اجتماعية، شهّرت حركة “بي دي إس” ببعض كبار المؤسسات التجارية المرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي (مثل إير بي إن بي، ري/ماكس، إتش بيه)، وساعدت على دفع مؤسسات كبيرة أخرى نحو الخروج من الضفة الغربية. وسببت إزعاجاً كبيراً للمنظمات الأكاديمية والرياضية من خلال تسييسها ومطالبتها باتخاذ موقف تجاه الصراع وما ينجم عنه من شقاق كبير. وأغضبت الموسيقيين والفنانين الفلسطينيين الذين يعملون مع المؤسسات الإسرائيلية، إذ اتهمتهم بتوفير غطاء فلسطيني لانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها إسرائيل.
لم يفتأ اليهود والعرب يقاطع بعضهم بعضاً منذ الأيام الأولى للصهيونية. وفي السنوات التي سبقت تأسيس “إسرائيل”، شنت الحركة الصهيونية حملات لمقاطعة العمال العرب، ورفض المنتجات الزراعية العربية
وفي بريطانيا، أوجدت حركة “بي دي إس” حالة من الهيجان والاضطراب داخل المحاكم والمجالس المحلية، وأدخلتها في نزاعات حول مدى قانونية المقاطعة المحلية للبضائع الواردة من المستوطنات. أما في الولايات المتحدة، فقد تسببت حركة “بي دي إس” في إجازة ما لا يقل عن عشرين ولاية لمشاريع قوانين أو في إصدار أوامر تحظر مقاطعة إسرائيل أو مستوطناتها، أو تجرم من يفعل ذلك وتعاقبه، الأمر الذي أدخل حلفاء “إسرائيل” في خصومة مع المدافعين عن حرية التعبير، مثل اتحاد الحريات المدنية الأمريكي، وأطلقت العنان للجدل داخل الكنائس البروتستانتية في الولايات المتحدة، والتي قام بعض كبار الكنائس منها بسحب استثماراتهم من الشركات التي تجني أرباحاً من الاحتلال. وباتت لعنة على إدارات الجامعات التي أجبرت على التعامل مع الشكاوى التي يتقدم بها أساتذة وطلاب في جامعاتهم؛ يتظلمون من أن حريتهم في التعبير تتعرض للجم والمصادرة، وكذلك مع مزاعم الصهاينة من المتبرعين للجامعات ومن الطلبة فيها بأن حرم الجامعة لم يعد حيزاً “آمناً” بالنسبة لهم. وجذبت الليبراليين باتجاه دعم أكبر للفلسطينيين، مما حول “إسرائيل” وبشكل متزايد إلى قضية حزبية في الولايات المتحدة؛ ترتبط بالديمقراطيين أقل مما ترتبط بترامب والمسيحيين التبشيريين واليمين المتطرف.
انقسام بين اليهود
وفي أوساط الشتات اليهودي، أوجدت حركة “بي دي إس” انقسامات جديدة داخل يسار الوسط الذي يتعرض لضغوط شديدة من قبل اليمين والحكومة الإسرائيلية المساندة للاستيطان من جهة، ومن قبل اليسار غير الصهيوني من جهة أخرى. وقد دفع ذلك الصهاينة الليبراليين نحو التساؤل لماذا يقبلون في بعض الأحيان بمقاطعة المنتجات الواردة من المستوطنات، ولكن لا يقبلون بمقاطعة الدولة التي أوجدتها وتمدها بمقومات الحياة؟ وأجبرت أنصار “إسرائيل” الأكثر انتقاداً لها على تبرير معارضتهم لممارسة أي من أشكال الضغط السلمي على “إسرائيل”، في حين أن غياب الضغط الحقيقي لم يفعل شيئاً لإنهاء الاحتلال أو التوسع الاستيطاني. وهذا يضع المسؤولية على عاتق الصهاينة الليبراليين إزاء الدفاع عن مساندتهم، ليس لفكرة ما الذي يأملون أن تؤول إليه “إسرائيل” في يوم من الأيام، ولكن للممارسات الفعلية التي تصدر عن الدولة، بما في ذلك مصادرة أراضي الفلسطينيين لبناء المستوطنات اليهودية عليها، واعتقال المئات من الفلسطينيين دون محاكمة أو توجيه تهم لهم، وإنزال العقاب الجماعي بحق ما يقرب من مليوني إنسان يعيشون تحت حصار مضى عليه أكثر من عقد من الزمن، وانعدام المساواة في كل مناحي الحياة بين اليهود والفلسطينيين من مواطني دولة “إسرائيل”.لقد حرمت حركة “بي دي إس” أنصار “إسرائيل” الليبراليين من إيجاد مبرر مفاده أن الاحتلال الشاذ أو الحكومات اليمينية هي المسؤولية بشكل أساسي عن ممارسات الدولة غير الديمقراطية.
ولعل الأهم من كل ذلك أن حركة “بي دي إس” تحدت حل الدولتين الذي بات محل إجماع لدى المجتمع الدولي. وبهذا تكون قد أزعجت قطاعاً بأسره قام على أساس عملية السلام في الشرق الأوسط، ويشتمل على المنظمات غير الربحية والبعثات الدبلوماسية ومؤسسات البحث والدراسات؛ لأنها تقوض الفرضية الذي قامت عليها، ومفادها أن الصراع يمكن أن يجد طريقه إلى الحل ببساطة من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة والقدس الشرقية وبقية الضفة الغربية، دون التطرق إلى قضية حقوق مواطني “إسرائيل” من الفلسطينيين وحقوق اللاجئين.
بالنسبة لكثير من يهود الشتات، باتت حركة “بي دي إس” رمزاً للشر ومستودعاً للرعب، وقوة شريرة تنقل الجدل الإسرائيلي الفلسطيني من تفاوض لإنهاء الاحتلال ولتقسيم الأرض إلى جدل حول الجذور الأقدم والأعمق للصراع: أي التهجير القسري لمعظم الفلسطينيين وإقامة الدولة اليهودية على أنقاض قراهم التي تعرضت للغزو والقهر. لقد أعاد بروز حركة “بي دي إس” إلى الحياة أسئلة قديمة حول شرعية الصهيونية، وكيف يمكن تبرير تفضيل حقوق اليهود على حقوق غير اليهود، ولماذا يستطيع اللاجئون في الصراعات الأخرى العودة إلى ديارهم ولكن ليس في هذا الصراع. والأهم من ذلك كله، أنها سلطت الضوء على قضية شائكة لا يمكن بحال تجاهلها إلى الأبد، ألا وهي ما إذا كان بإمكان “إسرائيل” – حتى فيما لو انتهى احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة – أن تكون ديمقراطية ودولة يهودية في نفس الوقت.
مقاومة سلمية
في مدينة بيت لحم القديمة، وعلى امتداد ممر القناطر القريب من السوق ومن ميدان المهد، يرتفع مبنى مشيد من الحجر الجيري عمره مئات السنين؛ يؤوي الآن المقر الرئيسي لمنظمة فلسطينية اسمها أمانة الأراضي المقدسة، وهي منظمة مكرسة لمقاومة الحكم الإسرائيلي سلمياً. يوجد في الطابق العلوي مكتب لمؤسس هذه المنظمة غير الربحية، واسمه سامي عوض. تغطي رفوف المكتب مؤلفات لكبار المنظرين والنشطاء في وسائل الاحتجاج والعصيان المدني، مثل جين شارب، والمهاتما غاندي، ونيلسون مانديلا ومارتن لوثر كينغ الابن، وكل هؤلاء تتجلى بشكل واضح تجاربهم وآراؤهم فيما يلقيه (عوض) من محاضرات أو ما ينشره من كتابات، بل وحتى في معرض حديثه العادي مع الآخرين.
كثيراً ما يلتقي سامي عوض مع وفود من اليهود الإسرائيليين والأمريكيين، وعلى غير ما هو معهود لدى كثير من النشطاء الفلسطينيين، لا تجده يتحرج من الحديث عن الصلة اليهودية بأرضه، حيث يقول: “بإمكاني أن أنكرها حتى قيام الساعة. ولكنها راسخة جداً وعاطفية جداً”. في نفس الوقت تجده يتحدث بصراحة عن الاحتلال وعن العنصرية، بينما يصر على أن “إسرائيل” لن تمنح الفلسطينيين الحرية ما لم تجبر على ذلك، وقال لي: “لا يوجد أبداً جماعة مستبدة تقرر بنفسها الالتزام بالمعايير الأخلاقية وتغيير سلوكها. لا بد من أن يحدث شيء ما: حراك، مقاومة، مقاطعة”.
كانت أول عملية سحب للاستثمارات تقوم بها مؤسسة علمية جامعية في الولايات المتحدة هي تلك التي بادرت بها كلية ساوث هامبشاير، علماً بأنها كنت أيضاً الجامعة الأمريكية الأولى التي تسحب استثماراتها من جنوب أفريقيا في عهد نظام التمييز العنصري
لم يفتأ اليهود والعرب يقاطع بعضهم بعضاً منذ الأيام الأولى للصهيونية. وفي السنوات التي سبقت تأسيس “إسرائيل”، شنت الحركة الصهيونية حملات لمقاطعة العمال العرب، ورفض المنتجات الزراعية العربية، واستثناء العرب من التجمعات السكانية المخصصة لليهود دون غيرهم، وتحريم بيع العرب أراضي مملوكة لليهود. وفي عام 1922، دعا مؤتمر فلسطين العربي الخامس إلى مقاطعة البضائع اليهودية، ثم بعد أن احتلت “إسرائيل” الضفة الغربية وقطاع غزة في عام 1967، قاطع المحامون الفلسطينيون المحاكم الإسرائيلية، ونظم المدرسون إضراباً تحت شعار “لا تعليم تحت الاحتلال”، فردت “إسرائيل” على هذه وعلى غيرها من أعمال العصيان المدني بالاعتقالات والغرامات، وفرض القيود على الحركة والسفر، وإغلاق الدكاكين وحظر التجول، بل وإبعاد المدرسين والمحامين ورؤساء البلديات ورؤساء الجامعات.
كان مبارك عوض، وهو عم سامي، واحداً من رواد المقاومة الفلسطينية السلمية في ثمانينيات القرن الماضي. ومما فعله (مبارك) عوض أنه حث الفلسطينيين على إعادة الفواتير التي تكتب فقط باللغة العبرية، وعلى رفض الاستدعاءات التي تأتيهم من المحاكم، وعلى رفع العلم الفلسطيني، وهو الفعل الذي كان ينتهي بصاحبه إلى السجن. واستلهاماً لتجربة غاندي في مقاطعة القماش البريطاني، شجع على استبدال المنتجات الإسرائيلية بمنتجات فلسطينية.
من الانتفاضة إلى المقاطعة
إلا أن البرنامج الذي دعا إليه مبارك عوض وروج له غيره من النشطاء لم يجد فرصة للتبني والتنفيذ بشكل كامل؛ إلا عندما بدأت الانتفاضة الشعبية ضد الاحتلال في عام 1987. حينها بدأ، وعلى نطاق واسع، استخدام الوسائل والآليات التي طالما دعا إليها داخل غرف الدراسة ومن خلال الدوريات الأكاديمية، وذلك بفضل الحركة الشعبية التي حظيت بدعم ومساندة الأحزاب السياسية الرئيسية، فقاطع المستهلكون البضائع والخدمات الإسرائيلية، واستنكف عمال القطاع الصناعي الإسرائيلي عن الذهاب إلى العمل، وأغلقت الدكاكين أبوابها بشكل جماعي، وسحب الزبائن أموالهم من المصارف الإسرائيلية، ورفض السكان دفع الضرائب واستقال معظم جباة الضرائب ورجال الشرطة من الفلسطينيين. وذكر بنك “إسرائيل” حينها أن “إسرائيل” تكبدت، بسبب مقاطعة الفلسطينيين، 650 مليون دولار أمريكي (أي ما يعادل 1.4 مليار دولار بقيمة اليوم)، فقط في السنة الأولى من الانتفاضة. وُجهت إلى مبارك عوض تهمة “إشعال التمرد ضد الدولة”. ومثله مثل العشرات الآخرين، أبعدته “إسرائيل” خلال السنة الأولى من الانتفاضة.
أرسل سامي عوض من قبل والديه إلى كانساس لإكمال دراسته، وعندما عاد إلى بيت لحم في عام 1996، كانت المدينة قد تغيرت وتبدلت بسبب عملية أوسلو للسلام. فقد انتقل الآلاف من مسؤولي منظمة التحرير ومقاتليها من المنافي في العالم العربي؛ إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وأصبحوا الآن موظفين في الإدارة الفلسطينية التي تم إنشاؤها حديثاً. استبدلت ثقافة المقاومة بثقافة التعايش، وترعرعت حينها صناعة السلام بفضل تدفق الأموال الأجنبية لتمويل جماعات الحوار والمبادرات التي كانت تنبثق عن المنظمات غير الحكومية وبين الناس من الطرفين.
ومثله مثل معظم الفلسطينيين، كان سامي عوض متفائلاً يرنو إلى السلام الذي بات وشيكاً. إلا أن تفاؤله تبدد خلال عامين، فالإدارة الفلسطينية الناشئة التي تأسست بعد توقيع اتفاق أوسلو في عام 1993 بدت أبعد ما تكون عن المنظومة الديمقراطية التي يمكن أن تؤدي إلى بلد مستقل في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأقرب إلى دولة بوليسية آخذة في التضخم. كان يسمع كلاماً لا ينتهي عن السلام والتعايش، ولكن ما كان يراه على الأرض كان مزيداً من العزل وفرض القيود على حريته. كانت الأراضي الفلسطينية المحكومة ذاتياً في الضفة الغربية عبارة عن جزر صغيرة مقطعة الأوصال، تعدادها 165، تحاط كل منها ببحر من الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية. وضمن هذا البحر من الأراضي – التي تشكل ما نسبته 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية ويحظر دخولها على الحكومة الفلسطينية – ذهبت “إسرائيل” لتصادر الأراضي لإنشاء المستوطنات وتهدم المباني الفلسطينية، وتقدم الحوافز المالية لزيادة عدد السكان داخل المستوطنات. بدأ سامي عوض يتساءل: إذا كانت أوسلو هي الطريق إلى حل الدولتين، فهل يرغب فعلاً في الوصول إلى الوجهة التي ينتهي إليها ذلك الطريق؟
مع تصاعد العنف في الانتفاضة الثانية، نمت الحملة الدولية للتضامن مع الفلسطينيين بشكل كبير
وعندما اندلعت الانتفاضة الثانية، في أيلول/ سبتمبر من عام 2000، بما شهدته من تفجيرات انتحارية فلسطينية واعتداءات إسرائيلية وهجمات بالصواريخ، توقف تماماً الحوار، وانتهت مبادرات صنع السلام التي كانت تقوم بها مجموعات مثل أمانة الأراضي المقدسة. وأصبح التركيز، بالنسبة لسامي عوض، ينصب على المقاومة السلمية، والتي لم تكن حينها تحظى بالشعبية ولم تكن بأي حال بسيطة. كانت تلك أكثر الفترات دموية في تاريخ الاقتتال الإسرائيلي الفلسطيني منذ حرب عام 1948. فقد قتل في المواجهات ما يزيد عن ثلاثة آلاف فلسطيني وألف إسرائيلي. وبسبب عسكرة الانتفاضة، أصبحت مواجهة “إسرائيل” بأي شكل من الأشكال، بما في ذلك المقاومة السلمية، أمراً في غاية الخطورة.
ورغم ذلك، تمكن سامي عوض وغيره من النشطاء من اقتطاع حيز ضئيل للمقاومة السلمية. ولقد تظاهر احتجاجاً على مصادرة الأراضي في الضفة الغربية، ثم بعد عام 2002، تظاهر ضد بناء ما يطلق عليه الإسرائيليون السياج الأمني ويطلق عليه الفلسطينيون جدار التمييز العنصري. إنه حاجز مكون من مزيج من الجدر المصنعة من الكتل الخرسانية التي يصل ارتفاعها إلى ثمانية أمتار، ومن السياجات والأسلاك شائكة. يخترق هذا الحاجز الضفة الغربية والقدس، فيفصل الفلسطينيين بعضهم عن بعض، ويعزل القرويين عن قراهم. ولقد نجم عن الجدار ضم فعلي لما يقرب من 10 في المئة من الضفة الغربية إلى “إسرائيل”، وفي القدس الشرقية عزل الجدار ثلث السكان الفلسطينيين تقريباً عن مدارسهم وعياداتهم الطبية وأماكن عملهم. ويمكن للمرء أن يشاهد حشود المقدسيين وسكان الضفة الغربية عند الساعة الرابعة والخامسة فجراً وهم يحشرون كالماشية عبر نقاط تفتيش أشبه بالأقفاص، حتى يعبروا إلى الجهة الأخرى من الجدار.
بعد قضاء أسبوع أو أكثر بين القرويين الفلسطينيين، كان النشطاء الأجانب يعودون إلى جامعاتهم وكنائسهم ونقاباتهم العمالية، ليتحدثوا عن وجود حركة فلسطينية للمقاومة السلمية قلما سمع بها الناس
ومع تصاعد العنف في الانتفاضة الثانية، نمت الحملة الدولية للتضامن مع الفلسطينيين. ففي الشهور الأولى من الانتفاضة، أقام الطلاب في جامعة كاليفورنيا فرع بيركلي نقاط تفتيش شكلية، ورفعوا يافطات طالبوا من خلالها بسحب الاستثمارات من “إسرائيل”، دولة الأبارتيد (التمييز العنصري). وفي عام 2002، وقعت هيئة التدريس في جامعة هارفارد على عريضة تطالب بسحب الاستثمارات من “إسرائيل”.وأما في مدينة ديربن، في جنوب أفريقيا، فطالب ممثلو ما يقرب من ثلاثة آلاف منظمة غير حكومية كانوا يشاركون في مؤتمر دولي ضد العنصرية برعاية الأمم المتحدة؛ “المجتمع الدولي بفرض سياسة العزل الكامل والتام ضد “إسرائيل” باعتبارها دولة أبارتيد (تمييز عنصري)”. ما لبثت حملات المقاطعة والمطالبة بسحب الاستثمارات أن انتشرت في أرجاء جامعات الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا، وحازت على دعم العديد من الأكاديميين الإسرائيليين، وأعداد ضخمة من الفلسطينيين.
وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، ذهب النشطاء الدوليون والإسرائيليون يعلنون دعمهم وتأييدهم، وكان لوجودهم في العادة دور مهم في حمل الجيش الإسرائيلي على التصرف بدرجة أكبر من الحذر، الأمر الذي وفر قدراً من الحماية للمتظاهرين الفلسطينيين. كان سامي عوض ما يزال حينها يعمل مع الإسرائيليين، ولكنه بات يصر على أن أي تعاون معهم ينبغي أن يقوم ليس على التعايش، وإنما على التعاون في المقاومة، على أن يتقدم الفلسطينيون الصفوف. تعرض لإطلاق الغاز المسيل للدموع، وكذلك للضرب ثم الاعتقال، حاله في ذلك حال غيره من أعضاء الجماعات النشطة في هذا المجال، مثل حركة التضامن الدولي، والفرق المسيحية لصنع السلام، وحركة “فوضويون ضد الجدار” التي يقودها إسرائيليون.
بعد قضاء أسبوع أو أكثر بين القرويين الفلسطينيين، كان النشطاء الأجانب يعودون إلى جامعاتهم وكنائسهم ونقاباتهم العمالية، ليتحدثوا عن وجود حركة فلسطينية للمقاومة السلمية قلما سمع بها الناس، مؤكدين على أن هذه الحركة يمكن أن تُسند وتُدعم من خلال مقاطعة “إسرائيل” وسحب الاستثمارات منها. كانت أول عملية سحب للاستثمارات تقوم بها مؤسسة علمية جامعية في الولايات المتحدة هي تلك التي بادرت بها كلية ساوث هامبشاير، علماً بأنها كنت أيضاً الجامعة الأمريكية الأولى التي تسحب استثماراتها من جنوب أفريقيا في عهد نظام التمييز العنصري. والذي قاد هذه المبادرة كان طالب بكالوريوس إسرائيلي اسمه ماتان كوهين، والذي أصيب حينما كان في السابعة عشرة من عمره برصاصة في عينه أطلقها عليه جندي “إسرائيل” بينما كان يتظاهر ضد حاجز العزل. وهكذا، مهد النشاط السلمي المرافق للانتفاضة الثانية السبيل لما أصبح من بعد حملة عالمية لمقاطعة إسرائيل.
المصدر: الغارديان