تعرض آلاف من عناصر “حزب الله” في العاصمة اللبنانية بيروت لحدث أمني مركب عبر انفجارات استهدفت أجهزة الاستدعاء الخاصة بكوادره “البيجر”، في هجوم يُرجِّح بشكل شبه مؤكد مسؤولية الاحتلال الإسرائيلي عنه٬ وأسفر عن عدد من القتلى وآلاف الإصابات.
جاء الهجوم الإسرائيلي إثر ارتفاع غير مسبوق في وتيرة التهديدات الإسرائيلية الملوِّحة بتوسيع الصراع مع لبنان، في إطار ما أسماه قادة الاحتلال “تغيير الوضع القائم” في شمالي فلسطين المحتلة، والمتمثل بدرجة أساسية بحالة الاشتباك الجزئي المستمرة منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول، ما بين “حزب الله” وجيش الاحتلال الإسرائيلي.
خلال اجتماع حاسم للمجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية في حكومة الاحتلال “الكابينت” استمر لمدة قاربت ثلاث ساعات ونصف، حدّث “الكابينت” أهداف الحرب، بحيث ضُمِّن هدف “العودة الآمنة لسكان الشمال إلى منازلهم”.
التهديدات الصادرة من غالبية أقطاب الحكومة الإسرائيلية، والتي لا تلقى معارضة فعلية من أقطاب المعارضة في “إسرائيل” الذين يدعمون تحركًا عسكريًّا أوسع ضد “حزب الله”، مضافًا إليه القرار الأخير بتوسيع أهداف الحرب الذي سوق له رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، تسويقًا مباشرًا، يوحي بما لا يدع مجالًا للشك، أن جنوبي لبنان سينتقل من كونه ساحة ثانوية في إطار الحرب الدائرة إلى ساحة رئيسية خلال المدة الزمنية المنظورة، إلا أنه تصعيد سيكون محكومًا بمحاولة كل الأطراف محاصرة إمكانيات توسعة إلى حرب شاملة وواسعة.
أمريكا.. التوقيت الحرج ومحاولات الفرصة الأخيرة
في مقاربات الولايات المتحدة، فإن نشوب حرب إقليمية كبرى في الشرق الأوسط من الصعب تدارك آثارها آخرُ ما تريده الحكومة الديمقراطية في البيت الأبيض في هذا التوقيت تحديدًا، الذي دخل فيه عداد الانتخابات الأمريكية في الوقت الحرج وسط تقارب بين أسهم المرشحين الديمقراطي والجمهوري، ما يجعل من كل حدث عاملًا مؤثرًا رئيسيًّا في حسم نتيجة الانتخابات الرئاسية.
على مدار شهور الحرب، بذلت الولايات المتحدة جهودًا كبيرةً من أجل إبعاد شبح الحرب الإقليمية عن المنطقة، سعيًا إلى ألَّا تتورط أكثر في قضايا الشرق الأوسط الذي كان يحاول الرئيس الأمريكي، جو بايدن، إعادة صياغة التواجد الأمريكي فيه على قاعدة خفض التواجد المباشر وإعادة التموضع في خارجه لصالح صيغ عمل مشتركة لحلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بقيادة “إسرائيل”.
استخدمت الولايات المتحدة كل أدوات الضغط، المباشرة وغير المباشرة، من أجل وضع حد للاشتباك على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، قدمت خلالها الولايات المتحدة عروضًا متعددةً لإدارة قناة تفاوض غير مباشرة بين لبنان و”إسرائيل”، يحقق من خلالها لبنان مجموعة من المكاسب المرتبطة بالترتيبات الحدودية وبعض القرى المتنازع عليها بما فيها قرية الغجر التي كانت عنوان الاحتلال ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
عظمت الولايات المتحدة من أدوات الردع وأوفدت كل أشكال الحشد العسكري الاستراتيجي لإظهار الدعم الأمريكي المطلق لحليفتها “إسرائيل”، في إطار رفع كلفة توسع الهجمات على دولة الكيان، وهو ردع احتاجته “إسرائيل” احتياجًا كبيرًا في الأشهر الأولى للحرب، حينما كان الجهد العسكري الرئيسي منصبًّا على قطاع غزة، ولم يكن حينها بالإمكان أن تتعامل “إسرائيل” مع جهد رئيسي في جبهتين بالتوازي، إلا أن انعدام رغبة “إسرائيل” في وضع الحرب في قطاع غزة أوزارَها، وإصرار “حزب الله” على ارتباط جبهته الإسنادية بالحرب في القطاع، وضعا كل المسارات أمام اتجاه تصادمي لا محالة.
قبيل اجتماع “الكابينت” الأخير، أبلغ وزير الحرب في حكومة الاحتلال، يؤآف غالانت، وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، خلال اتصال هاتفي، بأن “احتمال التسوية في الشمال يمضي، و”حزب الله” يواصل ربط نفسه بحماس. الاتجاه واضح”، مشددًا على أن “إسرائيل” ملتزمة بإبعاد الحزب من جنوبي لبنان وإعادة مستوطني الشمال إلى “منازلهم” بأمان.
وصل المبعوث الأمريكي الخاص للوساطة بين لبنان و”إسرائيل”، عاموس هوكشتاين، الذي خاض جولات مكوكية في المنطقة خلال شهور الحرب، على عجالة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة في محاولات الفرصة الأخيرة لاحتواء التصعيد قبيل اجتماع “الكابينت”، محذرًا من أن التصعيد مع “حزب الله” قد يؤدي إلى صراع إقليمي أوسع، مؤكدًا لكل من نتنياهو وغالانت أن “معركة واسعة ضد لبنان لن تعيد الأسرى وستعرض إسرائيل للخطر”.
في الجوهر، تعي الولايات المتحدة أن المسار بين “حزب الله” و”إسرائيل” سيصل إلى التصادم الكبير طالما استمرت الحرب في قطاع غزة، والتي لا يبدو أنها تقترب من نهايتها مع تعنت رئيس وزراء الاحتلال وتعمده المستمر إفشال كل جولات المفاوضات السابقة للوصول إلى صفقة، إلا أن جل ما تحاول فعله الولايات المتحدة في هذا التوقيت تأجيل المحتوم حتى تُمرر المرحلة الحرجة حاليًا، سعيًا إلى الامتناع عن التورط في اشتباك واسع بالشرق الأوسط قد يقضي على أي أفق لنجاح نائب الرئيس بايدن، كاميلا هاريس، في السباق الانتخابي، ويعيد الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، وهو الخيار الذي يحبذه بنيامين نتنياهو، الذي وصف ترامب بكونه “يتفهم حاجات إسرائيل أكثر”.
تجهيز عملياتي للحرب.. بمقاييس نتنياهو
على مدار الأشهر الأخيرة، اتخذت “إسرائيل” خطوات عملياتية على الأرض استعدادًا لنقل مركز الجهد الرئيسي للجيش الإسرائيلي إلى الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة مع لبنان، شملت نقلًا لعدد من الوحدات النظامية وألوية النخبة إلى الحدود اللبنانية، وإجراء تدريبات مكثفة حول طبيعة البيئة العملياتية في جنوبي لبنان التي تختلف عن طبيعة العمليات العسكرية في قطاع غزة.
في خلال شهر يونيو/حزيران الماضي، كشفت القناة الـ12 الإسرائيلية في تقرير أن “المستويين السياسي والعسكري يدركان أن فرص التصعيد تتزايد”، وأنه “قد اتُّخِذ قرار بنقل القوات من قطاع غزة إلى الشمال”.
وأضافت: “قرر الجيش نقل قوات إضافية أكثر من تلك الموجودة هناك منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الثاني، كجزء من التحضير للحرب مع “حزب الله””، وأشارت إلى أن “قرار نقل القوات من الجبهة الجنوبية إلى الحدود الشمالية يأتي على خلفية الانتقال إلى المرحلة الثالثة من القتال في قطاع غزة، وبعد أن شارفت المهمة ضد كتائب حماس في رفح على الانتهاء”.
وأوضحت القناة أن “قيادة الشمال بدأت في استقبال المقاتلين القادمين من الجنوب، وبدأت في تدريبهم على عملية محتملة بالأراضي اللبنانية. ونُفِّذ تدريب واسع النطاق لجنود الاحتياط على الحدود الشمالية، شمل الاستعداد للسيناريوهات الشديدة، والقتال في منطقة ضيقة وجبلية، واستخدام النار والقتال في منطقة مبنية”.
وحسب القناة ذاتها “على الرغم من الاستعدادات المحمومة المكثفة التي يجريها الجيش، فإن توقيت التحرك لم يُحدَّد بعد”، و”البدء في العمل بلبنان يعتمد على تطورات القتال في غزة، ومعدل إطلاق النار من لبنان”.
قبل أسبوع وفي ختام تمرين لجيش الاحتلال الإسرائيلي يحاكي القتال البري على الأراضي اللبنانية، أكد وزير حرب الاحتلال أن الجيش ينقل ثقل عمله إلى الشمال على الجبهة اللبنانية، مع اقتراب استكمال مهماته في قطاع غزة، وأضاف “لدينا مهمة في الشمال لم تنفَّذ، وهي تغيير الوضع الأمني وإعادة السكان (المستوطنين القريبين من حدود لبنان) إلى منازلهم”.
لم يكن رئيس وزراء الاحتلال مندفعًا في أشهر الحرب الأولى للتصعيد مع “حزب الله”، بل إنه وفقًا لمعارضيه الحاليين شركاء مجلس الحرب السابقين: بيني غانتس وغادي أيزنكوت، عارض خطة لتوجيه ضربة استباقية للحزب في الأيام الأولى للحرب، وسبق أن طلب منهما أكثر من مرة التوقف عن التصريحات بشأن التصعيد في الشمال، سعيًا إلى تجنب الضغط على الجبهة الشمالية.
أصبح هذا الموقف الآن مغايرًا، فحاجة نتنياهو إلى إطالة أمد الحرب وخططه الاستراتيجية لقطاع غزة تستوجب منه تحييد الجبهة الشمالية ووضع حد للتصعيد الحالي مع “حزب الله”، خصوصًا أن العمليات العسكرية الكبرى في قطاع غزة انتهت، ونقلت القناة 13 الإسرائيلية عن الأخير قوله إن “إسرائيل بصدد عملية واسعة وقوية في الجبهة الشمالية”.
سُبقت الخطوات الإسرائيلية التحضيرية أيضًا بضربات كبرى نفذها الطيران الحربي الإسرائيلي لمخازن ومنصات إطلاق الصواريخ وأهداف أخرى ادعى جيش الاحتلال أنها تستهدف البنية التحتية ل”حزب الله” ومخازن الصواريخ النوعية بما يشمل الصواريخ الدقيقة، وهي ضربات لم تنحصر في قرى لبنان الجنوبية فقط، بل وصلت إلى صور وصيدا وبعلبك.
مكللًا لهذه الاستعدادات، حل قرار “الكابينت” الأخير بتحديث أهداف الحرب، إذ يُشكل هذا القرار التزامًا إسرائيليًّا أكبر باتخاذ خطوات مباشرة ضد الحزب اللبناني، وفرض وقائع جديدة تتيح لحكومة الاحتلال الادعاء بفرض تغييرات جذرية على الأرض تتيح تأمين بعيد المدى لمستوطنات شمالي فلسطين المحتلة.
بعد هجوم البيجر .. سيناريوهات متعددة لشكل الحرب
حملت التصريحات الإسرائيلية على اختلاف مصادرها إشارة حول شكل وطبيعة الاستعدادات العسكرية للهجوم المرتقب على “حزب الله”، وتنوعت ما بين استعدادات سلاح الجو، والقوات البرية وألوية النخبة، إضافةً إلى الاستعدادت الدفاعية وفي مقدمتها الدفاعات الجوية ومنظومات الكشف المبكر والإنذار.
سيكون الهدف الإسرائيلي الرئيسي لأي تحرك عسكري إبعاد قوات “حزب الله” إلى ما خلف نهر الليطاني، وتأمين منطقة عازلة تفصل ما بين الحزب والحدود مع فلسطين المحتلة، وتُحيد الخطر المباشر للحزب لسنوات قادمة.
يمكن الدفع بأن الهجوم على الضاحية الجنوبية في بيروت يمثِّل فعليًّا الهجوم الأول الذي يُفترَض أن يُحقِّق غرض المفاجأة والإرباك لـ”حزب الله”، والذي سينتج عنه حالة من الفوضى العملياتية والأمنية ستُسهل لـ”إسرائيل” تنفيذ عمليات اغتيال مُركَّزة تستهدف قادة الحزب وتتيح المساحة لإطلاق العملية العسكرية على لبنان، بناءً عليه، يمكن تقدير شكل التحرك الإسرائيلي القادم وفق السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: عملية عسكرية واسعة برًا وجوًا
ينطوي على قرار العملية العسكرية الواسعة برًا وجوًا نتائج عملياتية أكبر وأكثر تأثيرًا في حال الرغبة الإسرائيلية بالقضاء المباشر على البنى التحتية لـ”حزب الله” في جنوبي لبنان، خصوصًا أن التقارير الإسرائيلية أكدت أن الحزب أعاد منذ سنوات انتشاره على الحدود مع فلسطين المحتلة، وأنشأ العديد من أنظمة المراقبة والأنظمة الهجومية والكمائن المتقدمة، وقد تأكدت صحة هذه التقارير مع انطلاق الاشتباك الحالي بين الحزب و”إسرائيل” في 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
إلا أن مخاطر مثل هذه الخطوة ستكون كبيرة على “إسرائيل”، خصوصًا أن للحزب اللبناني قدرات أكثر تقدمًا وفتكًا وتأثيرًا للتصدي لأي تحرك بري داخل الأراضي اللبنانية، خصوصًا في الأسلحة الموجهة المضادة للدروع، والتي تمتلك فعالية كبيرة في مواجهة المدرعات والآليات الإسرائيلية، وهو ما سيترتب عليه كلفة كبيرة جدًا للتحرك البري، إلى جانب أن الآليات الإسرائيلية قد تعرضت لاستنزاف كبير جدًا في خلال شهور الحرب والعمليات العسكرية في قطاع غزة.
السيناريو الثاني: عملية عسكرية مكثَّفة عبر الجو محدودة جغرافيًا
يمكن أن يلجأ الاحتلال إلى استخدام تفوقه الجوي في إطار شن حملة قصف جوي كبيرة يَستخدم فيها القوة الغاشمة في استهداف القدرات العسكرية والبنى التحتية في جنوبي لبنان، ما يجبر قوات الحزب على الانسحاب تحت النيران من مناطق الجنوب إلى ما بعد نهر الليطاني، ولا تنتهي الجولة إلا باتفاق على إبقاء هذه المناطق مناطق عازلة بلا أي نشاط للحزب اللبناني.
وفقًا لهذا السيناريو ستعمد “إسرائيل” إلى تحديد منطقة عملياتها جغرافيًا في حدود جنوبي لبنان، وسيُتعامل مع تعمق ضربات “حزب الله” الصاروخية إلى مدن المركز في “إسرائيل” بالرد في استهداف الضاحية الجنوبية، سعيًا إلى تشكيل قواعد اشتباك جديدة بالنيران، ينحصر فيها تحرك الحزب ضمن الإطار الجغرافي الذي ستحدده النيران الإسرائيلية.
يحمل هذا السيناريو شكلًا أكثر سلاسة وعملياتية للاحتلال، وأقل خسائر بالمعنى المباشر في العديد من قواته المهاجمة، إلا أن معيار نجاحه وفشله مرتبط بعدة عوامل، أولها مدى نجاعة تحصينات “حزب الله” في مواجهة الضربات الإسرائيلية المُتوقعة، وثانيها مدى انضباط الحزب للحدود الجغرافية والقواعد التي سيحاول الاحتلال تثبيتها في هذه العملية، خصوصًا أن الحزب اللبناني قد انضبط لشهور في قواعد اشتباكه ارتباطًا بمحددات داخلية في لبنان سيبددها الهجوم الإسرائيلي المنظور.
ومن جانب ثانٍ وعطفًا على العامل الأول المرتبط بنجاعة التحصينات، فإن تجربة جيش الاحتلال مع التحصينات في قطاع غزة أثبتت أن العديد من الغارات الجوية لم تنجح في تحييد القدرات العسكرية المؤمنة ضمن منشآت تحت الأرض، مع الأخذ في الحسبان أن طوبغرافيا جنوبي لبنان أعقد وأكثر ملاءمة لتحصينات أكبر وأعمق لمقدرات “حزب الله” التي ظهر جزء منها في بعض مواد الحزب الدعائية وكان آخرها الكشف عن منشأة “العماد 4” للصواريخ الاستراتيجية.
ينسجم هذا السيناريو مع رغبة نتنياهو في اشتباك كثيف وكبير ومحدود في ذات الوقت ينجح في تعظيم فاتورة الخسائر للحزب اللبناني ودفعه إلى إعادة حساباته جديًا والذهاب إلى تفاهم لوقف إطلاق النار ينفصل فيه الحزب عن الارتباط بمجرى الحرب في قطاع غزة، إلا أنه ينطوي على مخاطرة كبيرة مرتبطة بحجم المدى الذي يمكن أن يصل إليه الحزب في حالة توسع المواجهة.
السيناريو الثالث: عملية عسكرية متدحرجة
من الممكن أن يلجأ جيش الاحتلال إلى شن عملية عسكرية متدحرجة في جنوبي لبنان، تبدأ مرحلتها الأولى بهجمات جوية موسعة تستهدف الإضرار المباشر بقدرات “حزب الله” العسكرية، وتستهدف خطوط الإمداد والحركة للحزب، وشبكات الاتصالات وغرف السيطرة والتحكم، يليها تكثيف القصف المركز على مناطق جنوب نهر الليطاني لفرض منطقة عازلة بالنيران، ما يسمح بأن تنفذ القوات البرية تحركًا بريًا محدودًا لتحييد قدرات الحزب المتقدمة على الحدود مع فلسطين المحتلة، وتدمير البنية التحتية.
يحمل هذا السيناريو نتائج عملياتية أكثر على أرض الواقع في حال نجاح الخطط الإسرائيلية في تحقيق نتائجها، إلا أن المحاذير المذكورة في السيناريو السابق تبقى حاضرة، إضافةً إلى كون مُحدِّد امتلاك الحزب لصواريخ بعيدة المدى ومُسيَّرات متعددة المديات، وحجم عمق التحصينات والبنى التحتية المُعدَّة للتعامل مع التهديدات الإسرائيلية ستكون عاملًا مفصليًّا في قياس مدى نجاح الاحتلال في عمليته العسكرية.
من جانب آخر، فإن لمثل هذا السيناريو أن يدفع الحزب إلى وضع كل أوراقه على الطاولة، خصوصًا مع استهداف البنية التحتية للدولة اللبنانية، وخطوط الإمداد للحزب، وهو ما يعني تهديد شريان الحياة الرئيس للحزب اللبناني، ما سيقلص هامش الحسابات المنضبطة لصالح إطلاق العنان لاستخدام الحزب كل قدراته في مواجهة الهجوم الإسرائيلي، وهو ما يعني أن حجم التصعيد سيتجاوز حدود سيطرة “إسرائيل” التي تراهن بدرجة رئيسية على انعدام رغبة “حزب الله” في خوض حرب واسعة.
السيناريو الرابع: عملية عسكرية تستهدف لبنان وجزءًا من الأراضي السورية
وفقًا لهذا السيناريو، يلجأ جيش الاحتلال إلى تنفيذ عملية عسكرية موسعة تستهدف إيقاع ضرر مباشر بقدرات “حزب الله” في جنوبي لبنان، مع استهدافات موسعة لخطوط إمداد الحزب في الأراضي السورية، وضربات مكثفة وكبيرة للبنية التحتية للحرس الثوري الإيراني و”حزب الله” والفصائل المتحالفة معهم في سوريا، تهدف إلى تعطيل بعيد المدى لخطوط إمداد الحزب، ولمحاولات تشكيل جبهة ضغط جديدة في الأراضي السورية، وهو ما حرَّضَت عليه وسائل إعلام متعددة في خلال الأيام السابقة.
يخاطر هذا السيناريو مخاطرةً كبيرةً بإمكانية أن تتوسع جبهة الاشتباك المفتوح مع الاحتلال ليدخل ضمنها انخراط مباشر من قوات “حزب الله” والمجموعات الحليفة لها في سوريا في عملية المواجهة، وهو ما يعني توسيع رقعة الاشتباك والمواجهة التي قد تدفع إيران إلى إدخال مجموعات حليفة أكثر في الاشتباك المفترض مع “إسرائيل”، على قاعدة أن أهداف الحملة العسكرية تمس مباشرةً الحضور الإيراني المتقدم على الحدود مع فلسطين المحتلة، كما ستخلق وقائع ستخنق الحزب اللبناني وتُعطل خطوط إمداده، ما سيطيل مدة التعافي من آثار الهجوم الإسرائيلي على مقدراته.
وفقًا لعدد كبير من المتغيرات، فإن السيناريو الأقرب انسجامًا مع الهدف الإسرائيلي من جولة المواجهة القادمة يتمثل بالسيناريو الثاني الذي تتركز فيه العملية العسكرية الإسرائيلية بالضربات الجوية المكثفة في نطاق جغرافي محدد، يمكن عبره أن تُحقِّق “إسرائيل” أهدافها بأقل خسائر ممكنة في مقدراتها، كما أن سعيها إلى تحديد النطاق الجغرافي لهجومها سيحميها من تطور ضربات الحزب لتشمل مدن المركز وتمس بشكل مباشر جوهر الحياة الطبيعية في “إسرائيل” وتشكل ضغطًا كبيرًا على الجبهة الداخلية، وسط رهان إسرائيلي بأن “حزب الله” سيبقى منضبط لتوجهه بعدم خوض حرب واسعة.
ومن الممكن أن تدمج “إسرائيل” بين السيناريوهين الثاني والثالث في حال تطور الاشتباك على الأرض وفاجأ “حزب الله” “إسرائيل” بضربات نوعية تدفعها إلى توسيع عدوانها ومغادرة رهانها على تحديد قواعد ونطاق الاشتباك القادم مع الحزب اللبناني.
في كل الأحوال، وأيًا كان شكل الهجوم الإسرائيلي المرتقب، فإن عامل المجازفة الإسرائيلية كبير جدًا في ظل انعدام القدرة على تقدير شكل وطبيعة التسليح النوعي الفعلي لـ”حزب الله” وقدرته على الإضرار بالبنية التحتية الإسرائيلية، خصوصًا أن العديد من مراكز الأبحاث في “إسرائيل” سبق وأن قدرت أن أي مواجهة واسعة مع الحزب اللبناني ستؤدي إلى تعطيل المطارات والإضرار المباشر بشبكات الكهرباء والاتصالات لأيام، كما ستوقع أضرارًا كبيرة في المنشآت وخسائر في الأرواح.
ومن جانب آخر، فمن الصعب أيضًا التنبؤ بحجم انخراط بقية قوى محور الممانعة في المواجهة حال اندلاعها مع “حزب الله”، فموقع الحزب اللبناني في هذا المحور متقدم جدًا ووازن ونوعي، والمخاطرة بأن يتلقى الحزب ضربة قوية ستلقي بظلالها على كل شكل وطبيعة حضور هذا المحور في المنطقة، وحتى تركيبة التوزانات الإقليمية القادمة نظرًا إلى الدور الاستراتيجي الذي يلعبه الحزب داخل هذا المحور، وفي تحقيق الحضور الإيراني في الإقليم، وهو ما يعني أن شكل الانخراط سيكون مختلفًا تمامًا عن الانخراط الإسنادي الذي جرى في خلال شهور الحرب في قطاع غزة، وهو ما سيزيد من احتمالات توسع أي جولة اشتباك قادمة إلى حرب إقليمية لا يريدها كل الأطراف إلا أنها قد تتحول إلى مسار إجباري لا يمكن تجاوزه.