طالما أُثير الجدل حول الطرق التي نتفاعل فيها مع تجارب الحياة المختلفة، من أكثرها بساطةً إلى أشدّها تعقيدًا. لماذا ترانا في أحيان مُقدمون على هذه التجربة وفي غيرها خائفون مرتابون؟ ولماذا قد تخوض أنتَ وصديقك نفس التجربة، فتتفاعلان بطريقتين مختلفتين تمامًا؟ هل للأمر علاقة بالشخصية؟ أم أنه مرتبط ببيولوجيا الجسم والدماغ؟
بدايةً وقبل كلّ شيء، يجب أنْ نتفق أنّ “التجربة” يمكن أن تكون تفاعلك مع أحد أنواع الفنون أو الموسيقى، أو تقبّلك لنقاشٍ أو فكرٍ مخالفٍ لك، أو خوضك لمغامرة سفر أو تجربة طعامٍ غير مألوف عنك. أو قد تمتدّ إلى ما هو أعقد وأكبر من ذلك، كالتجارب الدينية والروحية والسياسية، أو حتى تلك التي قد تحدث في مجال العمل والدراسة.
تخيّل الأمر كالآتي: سافرتَ أنتَ وصديقك لمدينةٍ جديدة للدراسة، أنتما الاثنان محاطان بنفس المشاهد والأصوات والتجارب والإمكانيات الجديدة. كلا دماغيكما يستقبلان نفس الحمولة من المعلومات والبيانات الجديدة. أنتَ تبدو مندهشًا متحمّسًا للتجربة، مستعدًا للاستكشاف والتحدث مع الأشخاص ومناقشة الأفكار، في حين أنّ صديقك يرى كلّ شيءٍ بطريقةٍ عادية باهتة، وكأنّه لا يمرّ بتجربةٍ جديدةٍ البتة. فهل فكّرت مسبقًا بالأسباب وراء هذا الاختلاف؟
الأفراد المنفتحين على التجارب المختلفة يقومون بالفعل بمعالجة المعلومات التي تتلقّاها أدمغتهم بطرقٍ مختلفة، وقد يرون العالم من حولهم بشكلٍ يختلف عن الأشخاص الآخرين
انفتاحنا على التجارب: سمةٌ شخصية لا يمتلكها الجميع
لو جئنا للتفسير السيكولوجيّ الأبسط للموضوع، فلا بدّ لنا من الاستعانة بنظريات “الإدراك الجَماعي” ونظرية “الخمسة الكُبرى” على وجه الخصوص؛ والتي ترى أنّ الأفراد المنفتحين على التجارب المختلفة يقومون بالفعل بمعالجة المعلومات التي تتلقّاها أدمغتهم بطرقٍ مختلفة، وقد يرون العالم من حولهم بشكلٍ يختلف عن الأشخاص الآخرين. أمّا السبب فيرجع إلى امتلاكهم لتلك السمة المركزية من سمات الشخصية هي التي تحدد طرق تعاملنا مع تلك التجارب: الانفتاح على التجربة أو ببساطة “الانفتاح”.
وقد أظهرت العديد من التجارب في “علم نفس الشخصية” أنّ الأفراد الذين يمتلكون هذه الصفة يميلون إلى أن يكونوا فضوليين ومبدعين وواسعي الخيال. فتراهم مهتمّين بالفنون والموسيقى والثقافات والأفكار المغايرة والمغامرات المتنوعة. وبالتالي فإنّ الانفتاح يعني اتساعًا وعمقًا ونفاذيةً أكبر للوعي، ونزوعاً أوسع إلى استكشاف كلّ من المعلومات المجرّدة كالأفكار والحجج والنقاشات، والمعلومات الحسّية كالأصوات والمشاهد والأطعمة.
ولنفهم السمة بشكلٍ أوضح، يمكننا القول أنّ الشخص الذي يتمتع بمستوىً عالٍ من سِمة الانفتاح، يُظهر استعدادًا أعلى لخوض التجارب والمغامرات خارج نطاق ما يُعرف في علم النفس بمنطقة الراحة أو ” comfort zone“، إذ يكون محبًّا للبحث عن تجارب جديدة غير تقليدية وغير مألوفة لم يجربها من قبل. فهو شخصٌ يحبّ السفر، وعندما يسافر فهو مستعدٌّ لخوض العديد من التجارب غير المألوفة واكتساب الخبرات غير المألوفة. كما أنّه شخص لا يجد مشكلةً في التعمّق في الثقافات والأفكار المختلفة ومحاولة فهمها والنظر للعالم من زاويتها أو من خلال منظارها.
عادة ما يكون الأشخاص غير المنفتحين على التجارب الأخرى متعصّبين لأفكارهم ومتحيّزين لمعتقداتهم الشخصية
وعلى النقيض من ذلك تمامًا؛ فإنّ الأشخاص الذين يتمتّعون بمستوياتٍ منخفضة من هذه السمة يبحثون غالبًا عن المألوف والآمِن، ويخافون التجربة خوفًا من مجهوليتها ومجهولية نتائجها وما يمكن أنْ يحدث بعدها. فهم يكتسبون راحتهم من التنبؤ بالبيئة التي اعتادوا عليها، عن طريق التمسك بروتين معيّن وسيرورة محدّدة لحياتهم اليومية، كما يفضلون كلّ ما هو مُجرَّب ومُختَبر مسبقًا على أنْ يدخلوا تجربة جديدة ويميلون لعدم إشراك خيالهم في تفاصيل الحياة اليومية. كما أنهم متعصّبون لأفكارهم ومتحيّزون لمعتقداتهم، وعلى غير استعدادٍ أبدًا لمحاولة النظر إلى العالم من غير منظورهم الشخصيّ والفرديّ.
الجينات أم البيئة: من أين يأتي الانفتاح؟
هذا جدالٌ كبير لم يُحسم أمره بعد. فمن جهةٍ، يرى بعض العلماء والباحثين أنّ الانفتاح على التجارب، مثله مثل باقي سمات الشخصية الخمس، هو سمةٌ يمكن اكتسابها من خلال التعلّم والتنشئة والبيئة المحيطة. في حين ينظر إليها آخرون على أنها نِتاج العوامل الجينيّة والوراثية، ولا أدلّ على ذلك من الدراسات التي أظهرت أنّ التوأميْن المتطابقين، أي اللذين يحملان نفس الحمض النووي، يطوّران درجاتٍ متشابهة في الانفتاح على التجارب، حتى في حال تمّ تبنيهما وتنشئتهما في عائلات وبيئات مختلفة للغاية. خاصة حين يتعلّق الأمر بالجينات المسؤولة عن مستويات الدوبامين في الدماغ.
العديد من دراسات التوائم المتطابقة أثبتت امتلاكهما لنفس سمات الشخصية حتى في حال تمّ تبنّيهما وتنشئتهما في بيئات مختلفة
الدوبامين: المحرّك الأساسيّ لبحثنا عن الغرابة والتجديد
بشكلٍ عام، يمكننا القول أنّ ثمةَ منطقة في الدماغ تُدعى “Ventral tegmental area“، ولو أردنا اختصار وظيفتها لقلنا أنها المنطقة المسؤولة أساسًا عن نظام المكافأة والدافع والإدمان. ونظرًا لكونها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمناطق الدماغ “الحصين” و “اللوزة”، اللتان تلعبان دورًا كبيرًا في التعلم والذاكرة، فيمكننا القول أنّ تلك المنطقة تساهم في طريقة تفاعلنا مع التجارب والغرابة. فكيف يحدث ذلك إذن؟
يتفاعل دماغنا عن طريق إطلاق الدوبامين ممّا يجعلنا نرغب بالبحث عن مكافأة ما نحصل عليها من خلال تجربةِ الجديد
تحتوي أجزاء هذه المنطقة على نسب مرتفعة من مادة الدوبامين، وهي المادة الكيميائية التي تلعب دورًا في نقل القيمة المحفّزة للمعلومات التي تصل الدماغ، العملية التي قد تفسّر لماذا يرتفع مستوى الدوبامين عند الأشخاص الأكثر حساسية لاكتشاف وتجربة الجديد وانخفاض مستواه عند أولئك الذين يفتقرون لتلك الرغبة والحساسية.
إذن فالمعادلة كالآتي: يتفاعل دماغنا عن طريق إطلاق الدوبامين ممّا يجعلنا نرغب بالبحث عن مكافأة ما نحصل عليها من خلال تجربةِ الجديد. والمكافأة هي الإمكانات الجديدة غير المألوفة التي يمكن لدماغنا أن يحصل عليها من هذه التجربة أو تلك. أما التجارب المألوفة فقد تعلّم الدماغ أنْ لا مكافآت جديدة ستأتي من ورائها، وبالتالي فلن يزيد من مستويات إفراز الدوبامين لأجلها.
البيئة والتنشئة: الجينات لا تحدد المصير لوحدها
ما يجب أنْ نتفق عليه أولًا أنّ جيناتنا ليست المسؤول الوحيد عن شخصياتنا وتصرّفاتنا وطرق تعاملنا مع العالم الخارجيّ من حولنا. ففي الواقع، تلعب التأثيرات البيئية، والتي تشمل جميع الأحداث والتجارب السابقة والثقافات والمعتقدات، دورًا كبيرًا في خلق سمات شخصياتنا وصنعها، وهي بدورها أيضًا تؤثر حتى على بنية الدماغ والتفاعل بين الجينات نفسها.
نستطيع من خلال التعليم والتدريب تطوير هذه سمة الانفتاح حتى وإنْ كنّا نملك نسبًا منخفضة منها
ونظرًا لأنّ الجزء من الدماغ المسؤول عن انفتاحنا على التجارب مرتبط بالجزء المسؤول عن التعليم والذاكرة، فهذا يخبرنا أنّنا نستطيع من خلال التعليم والتدريب تطوير هذه السمة حتى وإنْ كنّا نملك نسبًا منخفضة منها. فأنْ تدرّب نفسك شيئًا فشيئًا على بعض التجارب الجديدة وغير المألوفة، يمكن أن يساعدك في أن تصبح أكثر انفتاحًا على التجارب بشكلٍ عام في المرات القادمة.
ما نؤمن به يؤثر على عقولنا ويقودها في اتجاهٍ ما في طريق الفهم والتجربة
كما تؤثر معتقداتنا وخلفيّاتنا الثقافية على الطريقة التي نتعامل بها مع التجارب المختلفة. فكلٌّ منا بالنهاية له طريقته الخاصة في كيفية رؤية الأشياء وتصوّرها، الأمر الذي يؤدّي بدوره إلى التعامل مع التجربة بطريقةٍ مختلفة. فما نؤمن به يؤثر على عقولنا ويقودها في اتجاهٍ ما في طريق الفهم والتجربة. فعلى سبيل المثال، إذا كنتَ تعتقد أو تؤمن بأنّ أكل الحشرات هو فعلٌ مقرف، فأنتَ على الأغلب لن تحاول تجربة المأكولات الصينية مثلًا. فنظرتك لمثل هذه التجربة ستكون متحيزة تجاه معتقداتك وأفكارك السابقة التي كوّنتها واكتسبتها من تجارب الماضي والبيئة التي ترعرتَ ونموتَ فيها بما تشمله من قيم مجتمعية ومعتقدات دينيّة وأفكار ثقافية.
العديد من الدراسات الأخرى أثبتت وجود علاقةٍ ما بين الجغرافيا والانفتاح على التجارب، أو بين الوضع السياسي للدولة وبين وجود هذه السمة عند أفرادها، أو بين دور الدين والروحانية وأثرهما عليها. ونظرًا لأنّ الأمر لا يخرج بالنهاية من نطاق الشخصية الواحدة بحيث يكون من الخطأ تعميمه، فيمكننا القول أنّه على اختلاف تلك العوامل والآثار، إلا أنّ انفتاحنا على التجارب يبقى سمةً فردية قد تتأثر فعلًا بجيناتنا وبيئاتنا والعوامل الخارجية من حولها.
ومما لا شكّ فيه أنها ليست بالسمة الثابتة التي لا يمكن تغييرها. فالتجارب تشكّلنا وتشكل شخصياتنا وهوياتنا الفردية، وأدمغتنا على مستوىً عالٍ دومًا من الانفتاح لأيّ تجربةٍ جديدة والتعلّم من خبراتها. كلُّ ما في الأمر أننا نحتاج فقط النظر إلى العالم من حولنا من خارج دائرتنا الخاصة التي رسمناها حولنا لسنين طويلة، فشكّلت شخصياتنا وطرق تعاملنا مع العالم الشاسع من حولنا، في حين أنه يحتمل ما هو أكبر وأوسع منها.