عاد موضوع اليمن فجأة إلى دائرة اهتمام الأوساط الأمريكية، فها هي وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” التي تساند الرياض استخباراتيًا ولوجستيًا بحربها هناك تحذرها من عواقب وخيمة لسلوكها وسلوك التحالف الذي تقوده، في الوقت الذي يحفل فيه سجل الولايات المتحدة الأمريكية بجرائم قتل المدنيين في العديد من دول العالم، ومنها اليمن نفسه.
لم تطلب واشنطن هذه المرة كعادتها، وإنما حذرت الرياض بأنها مستعدة لخفض الدعم العسكري والاستخباري لحملتها ضد جماعة الحوثي في اليمن، إذا لم يظهر السعوديون أنهم يحاولون تقليل عدد القتلى المدنيين نتيجة الغارات الجوية، فما سر هذا الانقلاب المفاجئ في اللهجة الأمريكية تجاه الحرب السعودية في اليمن؟
“في أي مرحلة كفى ستعني كفى”
جاء هذا التهديد شديد اللهجة لتحالف السعودية على لسان وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس الذي صبّ تركيزه على الوضع اليمني، بحسب ما نقلت وكالة “سي إن إن” الأمريكية عن مصادر مطلعة بشكل مباشر على موقف البنتاغون، في أول موقف أمريكي منذ الغارة التي شنها التحالف السعودي الإماراتي يوم 9 من أغسطس/آب الحاليّ على حافلة مدرسية في مدينة ضحيان بمحافظة صعدة شمال اليمن، وأسفرت عن مقتل عشرات الأطفال.
وصلت رسائل ماتيس حد تجاوز واشنطن مرحلة تقديم النصيحة للسعوديين
ومع تغير أساليب التحالف العربي في حربه على اليمن تغيرت لهجة وزارة الدفاع الأمريكية، وبدا ذلك في تصريحات المسؤولين الأمريكيين الذين قالوا للشبكة الأمريكية إن حالة الإحباط لدى الإدارة الأمريكية تزايدت، ووزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس وقائد عمليات الجيش الأمريكي في الشرق الأوسط يشعران بالقلق من أن الولايات المتحدة تدعم الحملة التي تقودها السعودية، والغارات التي قتلت عددًا كبيرًا من المدنيين.
وبعث مسؤولون في البنتاغون ووزارة الخارجية الأمريكية برسائل مباشرة إلى السعوديين لوضع حد لعدد الضحايا المدنيين، ووصلت لهجة هذه الرسائل إلى حد التهديد، وهو تهديد ينسجم مع التحذيرات والانتقادات المستمرة الصادرة من الكونغرس وجماعات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة.
تقول منظمات حقوق الإنسان إن الولايات المتحدة لا تستطيع إنكار دورها، إذ إنها باعت أسلحة بمليارات الدولارات إلى دول التحالف
لكن من غير الواضح، بحسب الشبكة الأمريكية، ما إذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الذي يرى السعوديين كحليف رئيسي، سيقبل بتخفيض الدعم تنفيذًا لرغبة وزارة الدفاع، خاصة فيما يتعلق بإعادة تعبئة الوقود للطائرات السعودية في الجو، إضافة إلى الدعم الاستخباري.
ورغم أنه لم يتضح أبدًا إذا كانت الولايات المتحدة تقدم أي مساعدة للتحالف السعودي في تحديد الأهداف، فإن منظمات حقوق الإنسان تقول إن الولايات المتحدة لا تستطيع إنكار دورها، فقد باعت أسلحة بمليارات الدولارات إلى دول التحالف، وزودتها بمعلومات استخباراتية وأمدت مقاتلاتها بالوقود في الجو.
وعادة ما يصرح المسؤولون الأمريكيون بأنهم يحاولون تقديم النصيحة للسعوديين بشأن تحسين عمليات وإجراءات التحالف العربي الذي تقوده المملكة في اليمن، لتقليل عدد الضحايا المدنيين في الغارات الجوية، ولكن يعتقد المسؤولون الأمريكيون أن هذا الجهد غير فعّال، ما دعا إلى تجاوز واشنطن مرحلة تقديم النصيحة للسعوديين.
أثارت مجزرة صعدة التساؤلاتٍ من جديد عن الدعم الأمريكي للحملة السعودية
مجزرة صعدة تفتح النار على تحالف السعودية
كانت غارة الـ9 من أغسطس/آب على وجه الخصوص صادمة، حتى في الحرب التي كان الأطفال فيها الضحايا الرئيسيين، وأثارت تساؤلات من جديد عن أساليب التحالف العربي ودعم الولايات المتحدة للحملة السعودية.
وعلى غير عادة رد الفعل الأمريكي الذي يقتصر في الغالب على التنديد تجاه انتهاكات التحالف العربي في اليمن، كان التصرف مختلفًا بعد هذه الغارة، حيث أرسل وزير الدفاع الأمريكي، في 12 من أغسطس/آب، جنرالاً أمريكيًا كبيرًا للحديث مع السعوديين عما حدث في الغارة، لكن الاجتماعات لم تكن اعتيادية، بل حملت رسالة صارمة للسعوديين، أثارت احتمالية وقف المساعدة الأمريكية للسعودية في حربها على اليمن، ولكن مسؤولين أمريكيين أشاروا إلى أن الولايات المتحدة إذا انسحبت سيكون لديها نفوذ ضعيف في إجبار السعوديين على الانتباه أكثر للضحايا المدنيين.
في سياق ذلك، اعتبرت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية هذه الزيارة العاجلة للجنرال الأمريكي مايكل غاريت إلى المملكة دليلاً على قلق الولايات المتحدة إزاء العمليات الجوية لدول التحالف ضد الحوثيين، وأصبح من الواضح أن المسؤولين العسكريين الأمريكيين حصلوا على تصريح من ماتيس لاتخاذ نهج أكثر شدة مع السعوديين.
يرى مراقبون يمنيون أن ما نشرته “سي إن إن” ليس أكثر من مجرد مرحلة جديدة من واشنطن لابتزاز السعودية مجددًا باستخدام ذريعة الحرب في اليمن
ومن وجهة نظر أخرى، يرى مراقبون يمنيون أن ما نشرته “سي إن إن” نقلاً عن مصادر من داخل البنتاغون ليست أكثر من مجرد مرحلة جديدة من واشنطن لابتزاز السعودية مجددًا باستخدام ذريعة الحرب في اليمن، مشيرين إلى أن واشنطن لو لم تسع من خلال هذا التحذير لابتزاز السعودية للحصول على أموال جديدة لما قدمت الدعم العسكري للسعودية في حربها ضد اليمن.
كما أن واشنطن تحاول من خلال نشر هذا التحذير إخراج مسؤوليتها من الهجمة التي استهدفت حافلة الأطفال في صعدة، التي كشفت الشبكة الأمريكية ذاتها في وقت سابق هذا الشهر أن القنبلة المستخدمة أمريكية الصنع، بالليزر من نوع “أم كي-82″، ومن إنتاج شركة لوكهيد مارتن التي تعد من أكبر الشركات المتعاقدة مع الجيش الأمريكي.
أحرجت شبكة “سي.إن.إن” على ما يبدو السلطات الأمريكية بتحقيقها الذي كشف أن القنبلة كانت أمريكية الصنع، فعقب بث الشبكة الأمريكية تحقيقها، تقدم السيناتور الديمقراطي كريس مورفي بمشروع تعديل أمام مجلس الشيوخ على موازنة الدفاع للعام 2019، يقضي بأن يكون دعم واشنطن للرياض مرهونًا بإثبات البنتاغون أن دعمه للقوات السعودية في اليمن لا ينتهك القانون الدولي ولا يقود إلى ارتكاب جرائم حرب بحق المدنيين.
وتشمل ميزانية وزارة الدفاع بندًا يشترط على الإدارة حماية المدنيين في اليمن من أجل استمرار الدعم الأمريكي، لكن الرئيس دونالد ترمب يعتزم تأجيل تنفيذ هذا البند بموجب صلاحياته الدستورية، وهكذا تبقى حياة المدنيين الأبرياء في واحدة من أفقر دول العالم رهن مطالبات واشنطن المتكررة بتجنب استهداف مدنيين وطمأنات من التحالف السعودي الإماراتي أثبتت الأحداث أنه لم يعمل بها مطلقًا.
قد تخسر المملكة أهم حليف لها راهنت عليه في كثير من مواقفها المتقلبة
فن خسارة الحلفاء.. هل يطال واشنطن؟
ليست هذه المحاولة الأولى التي تجري تحت قبة الكونغرس لحمل الإدارة الأمريكية على مراجعة دعمها لحرب السعودية في اليمن، غير أن فظاعة المجزرة التي ارتكبها طيران التحالف في حق أطفال الحافلة المدرسية في صعدة أعاد على ما يبدو تلك المحاولات إلى الواجهة مجددًا.
ونشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية الأسبوع الماضي مشروع قانون السياسة الدفاعية الذي وقَّعه ترامب، في 13 من أغسطس/آب، وتضمَّن نصًا – أيّده الحزبان الجمهوري والديمقراطي – يشترط على وزير الخارجية الأمريكي أن يُلزِم السعودية وحليفتها الوثيقة الإمارات باتخاذ إجراءات لوقف قتل المدنيين، وإذا لم يحصل بومبيو على موافقتهما، فإن القانون يحظر على أمريكا تزويد مقاتلات التحالف العربي بالوقود.
وفي مطلع العام الحاليّ تقدم مشرِّعون من الحزبين الجمهوري والديمقراطي بدعوة صريحة لوقف مشاركة الولايات المتحدة في حرب اليمن، في إجماع نادر على ضرورة إنهاء ما يصفونه بتدخل عسكري أمريكي يتطلب موافقة صريحة من الكونغرس، وينص مشروع القانون على سحب القوات الأمريكية من الأعمال العدائية الدائرة في اليمن باستثناء العمليات التي تستهدف التنظيمات الإرهابية، كما يطالب بوقف كل أشكال الدعم للتحالف الذي تقوده السعودية.
يدرك البيت الأبيض أن الكونغرس لا يعيش قصة حب وإعجاب بالسعودية، وأن علاقة كوشنر بابن سلمان لن تحمي حليفهم السعودي من استمرار استياء الكونغرس من الرياض
وفي رأي الكونغرس، فإن التدخل العسكري السعودي في اليمن، وضع الولايات المتحدة في موقف صعب، فالولايات المتحدة لا تعتزم وقف مبيعات الأسلحة إلى السعودية رغم الاتهامات التي تُكال للتحالف الذي تقوده بشن غارات جوية عشوائية وغير قانونية في اليمن، فضلاً عن منع وصول الغذاء والوقود والأدوية إلى البلاد، وذلك حسب موقع “بزنس إنسايدر” البريطاني.
وكانت قد سبقت مطالب الكونغرس مفاجأة أخرى تجلت في تصريح وزير الخارجية الأمريكي السابق ريكس تيلرسون طالب فيه السعودية بالتروي والامتناع عن التهور، وهو ما اعتبره مراقبون في واشنطن عتابًا دبلوماسيًا يخفي استياءً متزايدًا لدى الأوساط المؤيدة للسعودية.
ويدرك البيت الأبيض أن الكونغرس لا يعيش قصة حب وإعجاب بالسعودية، وعلاقة جاريد كوشنر صهر الرئيس ترامب الوطيدة بولي العهد السعودي لن تحمي حليفهم السعودي من استمرار استياء الكونغرس من الرياض.
كما أن كثيرين ممن صاغوا “قانون جاستا” العام قبل الماضي، وانتظروا تنفيذه يعتبرون السعودية راعية للإرهاب الإسلامي ومسؤولة عن أحداث 11 سبتمبر، ويتوقعون نتيجة لذلك امتثالاً سريعًا للمطالب الأمريكية التي إذا ما لم تستجب لها المملكة فإنها قد تخسر أهم حليف لها راهنت عليه في كثير من مواقفها المتقلبة.
فالواحد تلو الآخر تفقد الرياض حلفاءها، ولكن أكبر خساراتها الشارع العربي الذي فوجئ وفجع بموقفها تجاه قضاياه الكبيرة والصغيرة، بدءًا من القدس إلى المونديال، حتى جعل التحول في سياستها “قاسمة وقاصمة” في نظر الشارع العربي، بعد أن كانت تميل للمداراة وتتجنب المواجهة.