لم نجد في الصحافة الغربية أخبارًا عن المفكر الإسلامي “طارق رمضان” كالتي وجدناها في الصحافة الفرنسية التي استغلت هي وكل وسائل الإعلام الفرنسية قضية تورط الأخير في اتهامات بالاعتداء الجنسي والتحرش على فتاتين في فرنسا وأخرى في سويسرا لكي يدعوا كلهم لنموذج أخلاقي ويصيروا فجأة دعاة إسلاميين يعطون الفتاوى كما لو كانوا مفكرين إسلاميين أنفسهم، لم يعد يذكر الإعلام الفرنسي الاتهامات الجنائية المتهم بها طارق رمضان منذ قرب السنة ليتصدروا الشاشات الفرنسية ويتهمون طارق رمضان بالنفاق وعدم الاتساق مع فكره الإسلامي.
إن دلت التغطية الإعلامية لقضية طارق رمضان على شيء سيكون غياب اللائحة الأخلاقية في التناول الصحفي للقضية التي لم تتناولها البرامج الفرنسية بمهنية أخلاقية كافية ودخلت في سباق بين بعضها البعض لتثبت فهمها للدين الإسلامي الذي لم يتبعه المفكر الإسلامي ولم يتسق مع فكره الذي خرج ينادي به قبل عقد من الآن في كثير من الدول الأوروبية وفرنسا تحديدًا.
عُرف طارق رمضان في الأوساط الجامعية من جامعة أكسفورد إلى كامبريدج على أنه مُفكر من خلال الدعوات التي كان يتلقاها للمحاضرة في تلك الجامعات عن المواطنة والتعايش بين المجتمعات الغربية والمسلمين، حيث كان الأخير أستاذًا في أكسفورد للدراسات الإسلامية ورئيسًا لمركز الدراسات الإسلامية في الدوحة بقطر، ومؤلف لعشرات من الكتب عن الفكر الإسلامي، إلا أن الإعلام الفرنسي بعد اتهامات الاعتداء الجنسي التي لاحقته جعل منه “شخصية” مستهدفة للاغتيال، ليس بطلقة من مسدس هذه المرة وإنما اغتيال إعلامي لشخصيات من شأنها أن تؤثر على أكثر المجتمعات المؤرقة للنظام الفرنسي، وأبرزها المجتمع الإسلامي.
هل يوجد للمسلمين في فرنسا نظام قضاء خاص بهم؟
انتشرت حملة على تويتر منذ يومين تدعو لمحاكمة طارق رمضان محاكمة عادلة
“هل يوجد في فرنسا قضاء خاص للمسلمين هناك يختلف عن القانون الذي يُعامل به الفرنسيون؟” سؤال تساءله أكثر من 155 ألف شخص من بينهم المفكر نعوم تشومسكي كما وضعوا اسمهم على عريضة طويلة تطالب بمحاكمة المفكر الإسلامي طارق رمضان محاكمة عادلة يحاكم بها أي فرد يدخل إلى السجون الفرنسية، معترضين على محاكمة الأخير محاكمة سياسية مستندة إلى قناع يجعلها محاكمة جنائية، حيث خرجت ابنة المفكر مريم رمضان في تصوير مسجل لها تتحدث عن حرمان الأخير من حقوق الإنسان الأساسية لأي محتجز بعد قضائه أكثر من 200 يوم في السجون الفرنسية دون اتهام واضح وإثبات بالجريمة مع عدم افتراض البراءة في حالته، على عكس ما يحدث مع جل المحتجزين على ذمة ادعاءات أو اتهامات.
سلطت قضية المفكر طارق رمضان الضوء على استخدام الإعلام الفرنسي وسائله من أجل نشر البروباجندا ضد المسلمين على حساب نشر المعلومة
لم تعامل السلطات الفرنسية طارق رمضان كمتهم جنائي، ولم تمنحه حق افتراض البراءة حتى تُثبت إدانته كما حدث مع وزيرين فرنسيين، منهم وزير البيئة نيكولاس هولو الذي واجه اتهامات باعتداءات جنسية تزامنًا مع الاتهامات التي تعرض لها طارق رمضان، إلا أن الأول أنكر ما حدث ووصفته بعض وسائل الإعلام الفرنسي بالشائعات المغرضة وافترض القضاء الفرنسي فيه البراءة قبل الإدانة، لم يُعتقل الوزير لعدم كفاية أدلة الادعاءات التي تعرض لها وتابع عمله بشكل طبيعي منذ تلك الوقعة في فبراير/شباط من هذا العام وحتى الشهر الحاليّ الذي استقال فيه الأخير من منصبه تطوعًا منه لعدم تحقيقه أي إنجازات في مجال البيئة.
نيكولاس هولو وزير البيئة الفرنسي رد على اتهامات بالتحرش الجنسي بأنه لا يخاف من الحقيقة ولكنه يخاف الشائعات التي تشبه السم الذي يقتل المرء ببطء
ساند رئيس الوزراء الفرنسي وزير البيئة ودعمه حينها قائلًا إنه ليس لديه أدنى شك في نيكولاس هولو ومتأكد من عدم إدانته، بينما على الجانب الآخر لم تتدخل السفارة السويسرية للتأكد من وضع طارق رمضان كونه مواطنًا سويسريًا في السجون الفرنسية طبقًا للقوانين الدولية.
على العكس تمامًا، احتُجز الأخير في حبس انفرادي رغم عدم وجود تهم وأدلة واضحة على التهم الموجهة له، كما لا يواجه أي متهم بالاعتداء الجنسي عقوبة الحبس الانفرادي في الشكل الطبيعي لمجريات الأمور القانونية، وليس لديه حق الحصول على طبيب رغم تدهور حالته الصحية بعد تأكيد إصابته بمرض “التصلب المتعدد”.
لم تطالب العريضة التي وقع عليها 155 ألف شخص بإطلاق سراح طارق رمضان وإنما طالبت بمعاملته كما يتوجب القضاء في الحالات الجنائية ولا يستغلون خلفيته الأيدولوجية لمحاكمته محاكمة سياسية
القضاء الفرنسي ذو وجهين
المرشحة الرئاسية الفرنسية السابقة ماري لوبان أيدت تسليح الجماعات المتطرفة ضد المجتمعات الإسلامية المتطرفة
كان لطارق رمضان دور مهم في فرنسا في نشر خطاب توعوي يستهدف غير المسلمين قبل المسلمين بخصوص مسألة التعايش والمواطنة بين المجتمعات التي تحتوي على خلفيات أيدولوجية مختلفة في محاولة منه لتقليل العنصرية تجاه المسلمين وتغيير صورة المسلمين المرتبطة بالتطرف، على الجانب الآخر انصب تركيز الحكومة الفرنسية على الخطر المحتمل من المجتمعات المسلمة في فرنسا، إلا أنها لم تصب التركيز نفسه على جماعات “اليمين المتطرف” التي تثير قلق الإرهاب بدرجة كبيرة على الأرض أكثر من مجرد مزاعم وافتراضات عن “إرهاب المسلمين” في فرنسا.
عام 2017 قبضت الشرطة الفرنسية على مجموعة تطلق على نفسها اسم “حركة القوات التنفيذية” وهم مجموعة صغيرة من الجناح اليميني المتطرف قرروا قتل المدنيين المسلمين في فرنسا، حيث تم القبض على بعض من خلاياها وهي في مرحلة اختبار المتفجرات بالفعل، وذلك لأن مخطط تلك المجموعة هو “الحفاظ على تماسك المجتمع الفرنسي” كما عرفوه خوفًا من تأثير المهاجرين واللاجئين عليه، ولهذا قرروا تكوين جماعات مسلحة تتخلص من النساء المحجبات ومحلات الطعام الحلال وأماكن العبادة وقتل المصلين والأئمة.
حاولت السلطات الفرنسية التفرقة بين تلك الحالات وحزب اليمين السياسي بوصفها تلك المجموعة التي تنتمي لها جماعات مسلحة باسم “اليمين المتطرف”، ولكن على الرغم من ذلك فإن أقوال الشخصيات السياسية الفرنسية لم تتفق مع التفرقة نفسها وذلك على حسب أقوال ماري لوبان المرشحة الرئاسية السابقة التي خسرت السباق الرئاسي أمام مانويل ماكرون الرئيس الحاليّ للبلاد بعد أن أشارت في بعض الصحف مثل “L’Opinion” بأن “على الجماعات أن تعتمد على أنفسها في حماية نفسها من المسلمين لأن السلطات تتبع أسلوبًا ناعمًا مع المتطرفين الإسلاميين”.
اتفقت الجماعات المسلحة مع ما قالته ماري لوبان حتى أشار أحد أعضائها بسخريته من القوات الأمنية الفرنسية وقال إنها غير قادرة على توقيف المتطرفين عند حدهم
لم يكن القضاء الفرنسي عادلًا بشكل كامل مع كل المعتقلين المسلمين، إذ هناك إحصاءات تشير إلى وجود معتقلين مسلمين يمثلون نحو 30 – 40% من السجون الفرنسية، والبعض يرفع النسبة إلى 70%، ويؤكد أن السجون الفرنسية تستهدف “توظيف المتطرفين” بدلًا من محاولتها توقيفهم، إذ تساعد على خلق جو من التطرف يختلف تمامًا عن “غسيل الدماغ” أو التأثير على الأفراد مباشرة بالضغط عليهم، وإنما تحفز السجون الفرنسية على جمع المتطرفين ببعضهم البعض وجمعهم في مكان واحد ليستطيعوا توظيف بعضهم بشكل أكثر راحة مقارنة بمحاولة توظيف أفراد تتبعهم في الخارج.
هناك العديد من الأمثلة من المتطرفين ممن قاموا بحوادث إرهابية كارثية في تاريخ فرنسا صاروا من الأساس متطرفين أو جهاديين بعد خروجهم من السجون الفرنسية، من بينهم صفا بو عرادة الذي خدم أكثر من 10 سنوات في السجن الفرنسي لاتهامه بأعمال إرهابية وتفجيرية من بينها تفجيرات فرنسا الكبرى عام 1995 وعودته للعمل نفسه بعد خروجه من السجن بعد 10 سنوات، وشريف كواشي، واحد من المسؤولين عن حادث إطلاق نار على صحفيين من مجلة الكاريكاتير الساخرة “شارلي إيبدو” الذي احتجزته السلطات الفرنسية عدة سنوات على خلفيات أعمال جهادية إلا أن خروجه من السجن قاده إلى عمل إرهابي آخر ربما خطط له في فترة احتجازه.
الكلام هنا ليس دفاعًا عن شخصيات بعينها وإنما لتسليط الضوء على النظام الفرنسي الذي يضع قناعًا مختلفًا حينما يحاكم عرب أو مسلمين، ويستغلهم لإضعاف موقف المجتمعات المسلمة هناك من خلال إما اغتيالات إعلامية لشخصيات بعينها ومعاملتها معاملة سياسية بناءً على خلفيتها الأيدولوجية كما حدث مع طارق رمضان دون معاملتها معاملة يستحقها أي جنائي يدخل السجن، ومن ناحية أخرى تكون السجون الفرنسية منبعًا جيدًا للتطرف الذي تحاربه السلطات خارجًا وترعاه داخلًا.