ارتفع معدل الحرارة على الكوكب درجتين خلال قرن ونصف تقريبًا. 97% من علماء المناخ يرجحون أن السبب الرئيسي هو النشاط البشري على الكوكب. 400 مليار طن من الجليد ذابوا بسبب ارتفاع حرارة المحيطات منذ سنة 1994. 30% هي زيادة حموضة المحيط في القرنين الأخيرين، التي تسببت في انقراض الكثير من الأنواع. 58% هي نسبة النقصان في عدد الفقريات البرية (ثديات وأسماك وزواحف وبرمئيات) منذ 1970 إلى اليوم. وفي خضم كل هذا، كنت أشاهد فيلمًا أيسلنديًا في قاعة سينما.
حسن، لم أكن في حالةٍ جيدة، صرت أفكر كثيرًا في الكوارث الطبيعية التي يشهدها العالم أخيرًا، وفي الأحداث البسيطة المنبئة بجنون المناخ هنا وهناك، لم يعد الإحساس بارتفاع معدل الحرارة في العالم يحتاج إلى دراسة أو إثباتات إحصائية، فالمرء يلمسه دون مشقة، ولم يعد الخوف من كارثة شاملة أمرًا مبالغًا، خصوصًا مع فشل القمم الأممية وجهود ربطات العنق العبثية، لذلك، حين اكتشفت أن الفيلم الأيسلندي “امرأة تذهب إلى الحرب” Kona fer í stríð يخوض في هذا الجدل، بدا لي كأن الفيلم معروضٌ من أجلي.
اختارت هطلة أن تعلن الحرب على مصنع الألمنيوم الضخم، بسبب صفقةٍ مرتقبة مع الصينيين ستدفع لاستهلاك جنوني للطاقة وتهديدٍ أكبر للبيئة
بمثل التصميم الذي يملأ عينيْ بطلة الفيلم وهي تعمر قوسها في أول مشهد، بدا أن كل الأفكار واضحةٌ في ذهن المخرج الأيسلندي بندكت إرلنغسن Benedikt Erlingsson، كل شيءٍ في المشهد موقعٌ ومرتب، وكل حدثٍ ممهدٌ له مسبقًا، ومنسوجٌ حوله بشكل متين سلسٍ، ومنذ العنوان، مزج بين فرعيْ القصة: المرأة وهي هطْلة بطلتنا، بما هي مشروع أمٍ تنتظر في لهفةٍ حصولها على حق التبني لتجد لحياتها معنى، وامتدادًا في جذورٍ أوكرانية، والحرب، بما هي واقع هطْلة (Halla ولا تحتج على شكل تعريبها ما دمت لا تجيد الأيسلندية!) وواجبها تجاه الأرض التي تشعر نحوها بالانتماء العضوي، ليست مجندة في البحرية أو ضابطة في القوات الخاصة، بل أستاذة موسيقى غير ذات شأنٍ.
اختارت هطلة أن تعلن الحرب على مصنع الألمنيوم الضخم، بسبب صفقةٍ مرتقبة مع الصينيين ستدفع لاستهلاك جنوني للطاقة وتهديدٍ أكبر للبيئة، في كل مرة تتسلل خلف خطوط “العدو” كضابط مخابرات خطير، تطلق سهمها كأنها روبن هود، فتشل حركة الكهرباء وتخنق المصنع وتسبب للبلد مشاكل جمة وتصبح شغل الصحافة الشاغل والصداع الأكبر في رأس الحكومة وهدف كل القوات الأمنية.
من المدهش أن نرى حجم الاحتياطات التي تتخذها هطلة خلال مغامراتها، فهي تعكس أيضًا وعيًا بصعوبة الخروج عن القانون في هذا العصر: أقمارٌ صناعية وطوافات وتصنت على الهواتف وكل الأجهزة المتصلة بالإنترنت ودورياتٌ أمنية وأمنيون بالزي المدني وخبراء بيولوجيا وخبراء بصمات وخبراء اجتماع وخبراء خطٍ، إلخ، وهي تعكس أيضًا، عزمًا كبيرًا على تحقيق أهدافها، لذلك لم يكن سهلاً عليها تقبل النبأ العظيم: لقد تمت الموافقة على طلبها لأن تصبح أمًا بالتبني، ولها أن تذهب إلى أوكرانيا لإحضار طفلتها الجديدة.
لقد عبر إرلينغسن ببراعة عن وجهيْ هطلة المختلفين، تأخذ الموسيقى في لحظة الحرب شكل ثلاثة رجال عازفين أيسلنديين يستخرجون من روح الفايكينغ قطعًا موسيقيةً حديثةً، ووقعًا معبرًا عن مشاعر البطلة (القلق والعزم والعنف والتوتر والشراسة والحيلة والنشوة…) أما عند الانتقال إلى لحظات الأمومة، تغدو الخلفية الموسيقية أكثر أصالة وأقل تنوعًا عبر أداء ثلاث نساءٍ بالزي التقليدي لأناشيد أوكرانيةٍ فولكلورية.
أقول ثلاثة لأن الخلفية الموسيقية تقع أيضًا في خلفية المشهد أو ربما في المستوى الأمامي أحيانًا، فتداخل الصوت القصصي diegetic sound واللاقصصي يبلغ حد التماهي، ويصبح الموسيقيون أحيانًا جزءًا من القصة، كأنما هم تعبيرة خارجية ملموسةٌ لأفكار هطلة الداخلية.
نجح المخرج في إدماج الكوميدي بالتراجيدي بشكل عبقري، ورغم الطابع المفرط في الانشراح (لا التفاؤل) لنهاية الفيلم، فإنه ينجح في إبقاء المرارة على أطراف ألسنتنا، إننا نرى الطريقة التي يدير بها النظام وأجهزته حربه على أطراف المشهد فتنتزع انتباهنا
كثيرًا ما أضفى هذا التداخل وهذا التدخل للصوت اللاقصصي في القصة روحًا مرحةً على الدراما، والحقيقة أن المخرج يدمج الكوميديا الساخرة بشكل مفتوح رغم الطابع الدرامي للقصة، ولعل ذلك ساهم أيضًا في التخفيف من حدة التدقيق في معالجة السيناريو، بجعل المشاهد قادرًا على تقبل مواقف ربما غير ممكنةٍ، أخص بالإشارة، لحظات الهرب من موقع “العملية” وتجاوز خطوط التفتيش وأجهزة المراقبة.
إذ تحضر الكوميديا لتلهينا قليلاً عن ممارسة دورنا الرقابي الصارم والإقرار الحزين باستحالة نجاحها في الظروف الطبيعية، الكوميديا هنا، تذكيرٌ بأننا أمام خيالٍ متفائلٍ، حين تقنعنا الدراما أننا أمام واقعٍ مكبلٍ.
لقد نجح المخرج في إدماج الكوميدي بالتراجيدي بشكل عبقري، ورغم الطابع المفرط في الانشراح (لا التفاؤل) لنهاية الفيلم، فإنه ينجح في إبقاء المرارة على أطراف ألسنتنا، إننا نرى الطريقة التي يدير بها النظام وأجهزته حربه على أطراف المشهد فتنتزع انتباهنا، كل هذه الطائرات والحواجز والمعدات التقنية المتطورة في مقابل امرأة تستعمل قوسًا وسهمًا، كل هذه الموارد البشرية المسخرة لحماية ما يدمرنا، لا يكتفي رأس المال بتجنيد الجهاز الأمني، بل الدولة كلها، والجهاز الإعلامي الذي يمارس لعبته المفضلة: تحويل موضوع النقاش، تفتح التلفاز لتسمع أشياءً عن اليمين المتطرف وتطبيق الشريعة والحفاظ على الديمقراطية ولا تسمع شيئا عن الإشكالية الحقيقية: الكارثة البيئية.
ويصرح المخرج بهذه الفكرة على لسان بالدفن Baldvin مساعدها العامل في إحدى الجهات الأمنية الرفيعة، فهطْلة كانت دومًا على يقين من وقوعها يومًا ما في قبضة الأمن، وكل ما ترغب فيه إبطال الصفقة الصينية ودفع المجتمع إلى الحوار عن المسألة البيئية، لكن النظام يدرك خطورة النقاش الصحي ويملك الآليات لتحريفه.
حوار بالدفن وهطلة عن ضرورة تحقيق هذا الهدف، كان أحد الحوارات الجدية القليلة في الفيلم، ذلك أن إرلنغسن يسوق لأفكاره عبر الصورة والصوت أساسًا، لكنه أمام الإشكاليات المربكة، لم يجد بدًا من استعمال اللغة.
في الحوار الثاني، وقد دار بين هطلة وأختها آسا Asa (هنا لست متأكدًا من طريقة النطق للأسف)، يعبر المخرج عن تقابل أطروحتين أبديتين بشأن منهجية الإصلاح: هل يجب محاربة الانحراف من خارج المنظومة بالقضاء عليها وتغييرها، أم يجب تغيير المنظومة من الداخل بتطوير الذات بما هي جزءٌ من الكل ومؤسسٌ له؟ هل على هطلة مواصلة نضالها “المسلح” والعنيف واللاقانوني ضد مخربي البيئة والطبيعة الأم، أم عليها أن تحتذي بالطبيعة وتكون أمًا لطفلة يتيمةٍ وتكسب القضية مناصرًا إضافيًا؟ هل عليها أن تحارب الموت أم تصون حياةً جديدةً؟
الأطروحة الجوهرية في الفيلم واللامتوقع الذي يستدعي التأمل، لم يأت عبر الحوار، وإنما عبر رسالة المانيفستو التي نشرتها هطلة في شوارع المدينة بطريقة عبقريةٍ ليتناقلها الناس حتى تصل إلى رئيس الدولة، ففيها تفسر البطلة سبب انتهاجها للعنف وتجاوزها للديمقراطية وأجهزة القانون والمؤسسات
وعكس الحوار السابق، فالمخرج لا يحاول الإجابة بوضوحٍ، ولا يمكن أن نستشف إجابة قاطعة من النهاية التي تحتمل قراءات مختلفةٍ، أقربها أن لا علاقة لها بأي فكرةٍ، وأنها مجرد نهاية سعيدةٍ لقصة مثيرةٍ، لكنني أعتقد أن المخرج حاول التوفيق بين الهدفيْن.
أما الأطروحة الجوهرية في الفيلم واللامتوقع الذي يستدعي التأمل، فلم يأت عبر الحوار، وإنما عبر رسالة المانيفستو التي نشرتها هطلة في شوارع المدينة بطريقة عبقريةٍ ليتناقلها الناس حتى تصل إلى رئيس الدولة، ففيها تفسر البطلة سبب انتهاجها للعنف وتجاوزها للديمقراطية وأجهزة القانون والمؤسسات.
تقول هطلة إن هناك قوانين في الحياة أهم من قوانين البشر ومن قوانين مجتمعاتهم، إنه قانون الحياة نفسه الذي يمنحنا الحق في الحياة والدفاع عنها، إن الدفاع عن الطبيعة الأم كمنبعٍ للحياة هو أعلى من كل قانونٍ آخر، ولا يحتاج إلى أن يستمد أي مشروعية أخرى، إن جيلنا الحاليّ هو أقوى جيلٍ عرفه التاريخ البشري وهو الجيل الأخير القادر على إنقاذ العالم من الكارثة القادمة، لأن الجيل القادم سيأتي وقد فات الأوان بالفعل.
من فيلم “امرأة تذهب إلى الحرب”
كانت المقابلة التي أحدثها المخرج بين نص البيان وردة فعل النظام بليغةً جدًا، تطلق صاحبة البيان على نفسها “امرأة الجبل” وتلمس في خطابها تشبثًا بالجذور الأيسلندية العريقة، وفي المقابل، يقرأ رجال النظام ونساؤه البيان في حلقةٍ تشكلتْ عفويًا كما كان قادة الأجداد الفايكنغ يشكلون حلقة السلطة التي يستمدون منها شرعية قراراتهم، فأيهما كان سليلاً حقيقيًا للفايكينغ؟
والتصريح في الإشكاليات، يقابله الكتمان في البديهيات، ففي فيلم مغروس في عمق الإشكالية البيئية، لا نكاد نجد أثرًا للكوارث البيئية، بل بالعكس، نرى طبيعيةً أيسلنديةً خلابةً ومدينةً خضراء لا يكاد التلوث يعرفها، بل إن المخرج لم يطلعنا قط على ما يحدثه المصنع من تلوثٍ، وعدا عبارةٍ سريعة مقتضبةٍ، لم نكد نفهم شيئًا من مضار الصفقة الصينية.
والحقيقة أن الأمر يعود إلى طبيعة الخطر البيئي الذي يهم أيسلندا، وهو خطر المياه الناجم عن الاحتباس الحراري، فلا ننسى أن البلاد جزيرةٌ قرب القطب الشمالي، وحضور المياه خلال الفيلم كان كبيرًا ولافتًا، لقد كانت الفياضانات الكارثة البيئية الوحيدة الحاضرة في الصورة.
المشهد في “امرأة تذهب إلى الحرب” غنيٌ بأدواتٍ كثيرةٍ، ولقد تمكن المخرج من عجنها وصنع خليط ساحرٍ من الكوميديا والإثارة والدراما، وعبر عن أفكاره بالنص والصوت والصورة، في توازنٍ رائعٍ يندر إيجاده
أولاً في لقطة طويلة في منزل هطلة، حيث تشاهد عمليات الإنقاذ في إحدى الدول الآسيوية المنكوبة عبر التلفاز، وفوقه كانت هناك لوحات تجسد الكارثة المائية إمعانًا في التأكيد، وثانيًا من خلال الحالة الأوكرانية وهيمنة المياه على الحياة اليومية فيها، كما تحضر المياه في كل مرة تحتاج فيها هطلة إلى الخلاص، سواء من حيرتها كما في المسبح، أم في البحيرة، وكذلك من مطارديها سواء بطفوها فوق المياه الجبلية الساخنة أم بغوصها في مياه النهر، وفي تلك المطاردة بالذات، ظهرت للمرة الوحيدة أشكال الاحتباس الحراري من خلال جبل الجليد الذائب.
إن المشهد في “امرأة تذهب إلى الحرب” غنيٌ بأدواتٍ كثيرةٍ، ولقد تمكن المخرج من عجنها وصنع خليط ساحرٍ من الكوميديا والإثارة والدراما، وعبر عن أفكاره بالنص والصوت والصورة، في توازنٍ رائعٍ يندر إيجاده، ورغم أن هطلة لم تبد لي في حياتها اليومية حريصةً على البيئة (عدا استعمال الدراجة، فهي لا تجد حرجًا في استعمال مفرط للدائن ـ البلاستك ـ ولا تبدو ثيابها منتقاةً بشكلٍ منحازٍ)، فقد مثلت شخصية استثنائيةً، وتبشيرًا بقدرة الإنسان العادي أن يتمرد ويكون قويًا ويقول لا لمنظومة التخريب الحقيقية، إن هذا التحفة السينمائية لجديرٌ بالاهتمام!